هل يمكن الوصول إلى مارونستان؟
هل يمكن الوصول إلى مارونستان؟
مقال من كتابة الرّفيقين ربيع سمرا ونزار ضو، نشر في جريدة النهار.
الجزء الأوّل:
سنة 1991، مع انهيار الاتحاد السوفياتي وبزوغ الأحادية الأميركية حول العالم، انعكست الترتيبات العالمية الجديدة على الإقليم لترسي ما عرف بنظام الطائف في بلدنا، أي نظام هدنة بين زعماء الطوائف، في صيغة تنقل التقاسم الميليشيوي للمناطق إلى تقاسمٍ لموارد الدولة وأدوارها. رغم العقبات المتعددة، نجح النظام بالاستمرار لمدة ثلاثين عاماً تقريباً، في صيغةٍ أولى تعتمد رعاية مشتركة سورية سعودية سمّيت س ــ س حتى الـ2005، وثانيةٍ تم إرساؤها بعد خروج “الحكم” السوري والتي تعتمد على منطق الفيتو المتبادل بين الطوائف الأكبر عدداً، أي اللاقرار. بعد الهجرة الكثيفة في الحرب وإدمان المقيمين على التحويلات، عمل نظام هدنة ما بعد الحرب على تهجير اللبنانيين ومن ثم استقطاب أموالهم إلى المصارف اللبنانية عبر الفوائد، دون أي استثمار منتج بل بالاعتماد الحصري على تديين الدولة. يتناتش زعماء الطوائف تلك الموارد ويعيدون توزيعها على طوائفهم مقابل كسب الذمم والولاءات. أسفر هذا النظام عن مجتمعٍ استهلاكيٍّ يرتكز على إنفاق مهول لتثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، فيستورد بقيمة 17 مليار دولار سنوياً ويصدّر بقيمة 3 مليارات فقط. وسنة 2019 كان مجتمعنا قد استنفذ كامل مخزون التحويلات من الدولارات، فتعطل نظام ائتلاف الطوائف إجرائياً.
عندما نتمعّن بهذا المسار، يصبح واجباً علينا الإقرار بأننا لا يجب أن نعود إلى النظام الذي وصفناه الآن لعجزه الواضح عن إدارة البلاد. هو نظام لا يولّد سوى اقتصاد ريعي وتالياً أزمات اقتصادية، نظام لا يمكنه إيقاف هجرة أبنائه، لا بل يعتمد عليها، نظام غير قادر على التعامل مع الأزمات في المنطقة، نظام غير قادر على تسيير أعماله الأساسية من انتخاب رئيس وإصدار موازنة وملاحقة المسؤولين عن تفجير مرفأ العاصمة. فيصبح السؤال المطروح هو حول شكل النظام الجديد الذي علينا إرساؤه في لبنان اليوم.
من خلال تحليل أولي وبسيط، تظهر أمامنا اليوم ثلاثة احتمالات:
1.العودة إلى التصادم المباشر بين الطوائف (أي الحرب).
2.الفصل بين الطوائف والمناطق، والذي يتمظهر خطابياً بعبارات لطيفة كـ”اللامركزية” وأخرى أقل لطفاً كـ”الفيدرالية”.
3.التفكير بصيغة تتعامل مع أسس الطائفية وتعمل على الحدّ من آثارها وسلطة زعماء الطوائف عبر تقوية أداة قد اعتاد المواطن اللبناني على غيابها، ألا وهي الدولة.
لن نناقش الاحتمالية الأولى. فقد ذاق هذا البلد طعم الاقتتال والرهانات البائسة. لنبحث إذاً بالخيارين الآخرين.
يبدو خيار الفصل الإداري أكثر جذباً وقبولاً في مجتمعنا اليوم، وإن كان يظهر بأشكال مختلفة: من الذين يطلقون عليه اسم اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة إلى من يعتبر أن الفيدرالية هي الحل الوحيد. يأتي هذا الخيار بشكل أساسي ليواجه خيارات “حزب الله”، فيعتبر القائلون به أن “حزب الله” اختار مسار الممانعة ومعه تكاليف نحن لا نريد تحمّلها لأن الأسباب الموجبة لخياراته لا تعنينا. وبالتالي من المنطقي، بسبب عدم قدرتنا على مواجهته، أن ننفصل عنه وأن نستقل بخياراتنا التي نتوقّع أن يكون لها نتائج اقتصادية أفضل.
من أجل البحث في هذا الخيار، نقترح العودة في التاريخ إلى حقبة حين لم يكن مشروع “الدولة المسيحية”، حليفة الغرب والخليج، مجرد فكرة، بل مشروعاً حقيقياً وضع موضع التنفيذ خلال الحرب الأهلية. آنذاك، وبعد انتصارها في الحرب ضد الأنظمة العربية وتركيزها على إنهاء المقاومة الفلسطينية التي اتخذت من لبنان قاعدة لها، راهنت إسرائيل على بناء حليف على غرار “دولة يهودية” في لبنان، يتمثل في “الدولة المسيحية” بقيادة بشير الجميل والقوات اللبنانية. وبُذلت جهود سياسية وعسكرية كبيرة من أجل الدفع بهذا المشروع، لكن اللافت للنظر أنه فور وصول الجميل إلى الرئاسة، ووفقاً للعديد من المقربين منه، بدأ يظهر لديه تردد كبير حيال الطرح الإسرائيلي, فراح يقدم نفسه كموحّد للبنانيين. وهو أمر لم تأخذه إسرائيل باستخفاف.
من المثير للاهتمام التمعن بأسباب تردد الجميل في المضي قدمًا، لأن أسباب الأمس لا تزال سارية اليوم. فما الذي يفسر إذاً هذا التردد؟ في الواقع هناك عدة أسباب رئيسية لتفسير هذا السلوك:
1.الواقع المجتمعي المعقد ما بعد النزوح من الأرياف إلى مدينة بيروت الذي يختلف كلياً عن المتخيل الاجتماعي السائد: فغالبية السكان في سنة 1982، على اختلاف طوائفهم، كانوا قد أصبحوا يتواجدون في بيروت وضواحيها. يمكن توضيح هذه الحقيقة الجديدة، التي تعاني الطوائف للتعايش معها حتى اليوم، من خلال الدراسة أدناه للتوزيع المكاني للإيرادات الضريبية (حتى لو جاءت لاحقًا، في عام 2014، لأن الهجرة من الريف إلى المدينة قد وصلت إلى نضجها بحلول السبعينيات). فيظهّر الجدول أدناه أن ما يقارب الـ90% من الضرائب، أكانت على الأرباح أو على الاستهلاك (TVA)، تجبى في بيروت!
لذلك، تصبح عملية بناء دولة مسيحية في بلد يدور حول مدينة واحدة متداخلة، عملية شديدة التعقيد. فهم بشير الجميّل ذلك جيداً، فراح يتحدث عن لبنان لكل مواطنيه ويبحث عن تقريب الطوائف الأخرى منه، وصارح الإسرائيليين بذلك، ما أدى إلى نفاد صبرهم منه. حتى إن المعارضة الإسرائيلية لخيار مناحيم بيغن بالتعويل على مسيحيي لبنان ازدادت بحدّة آنذاك.
الجزء الثّاني:
في الجزء الأول من هذا المقال، أشرنا إلى أن مجتمعنا اللبناني اليوم يواجه ثلاثة سيناريوهات محتملة: العودة إلى الحرب الأهلية، تقسيم لبنان، أو محاولة إحياء صيغة جديدة للنظام الطائفي التوافقية. كما استعرضنا بالتفصيل أسباب فشل مشروع “دولة مارونية”، وذلك بسبب “الواقع المجتمعي” حيث تتركز غالبية السكان في بيروت وضواحيها.
في هذا الجزء، سنواصل استعراض أسباب عدم جدوى مشروع “دولة مارونية”، وسنفتح نقاشاً حول ضرورة إطلاق مشروع بناء دولة في لبنان.
نضيف أسباباً لا تقل أهميةً عن السبب المذكور في الجزء الأول:
1.طبيعة الطائفة وهو السبب أكثر عمقاً: لا يمكن للطوائف أن تبني دولة. ففي الواقع، إن الطائفة هي في تشكلها التاريخي متناقضة مع ديناميكية الدولة في التعاطي مع التغير الحاصل للمجتمع. فالطائفة، كونها مجموعة من الأنساب التي تتماسك بوساطة عصبية، تضم داخلها مصالح متناقضة. ففي الطائفة نفسها: ملاك ومستأجرون، تجار ومستهلكون، أصحاب مولدات ومستهلكو الطاقة، أصحاب مصارف ومودعون ومقترضون، إلخ…
لذلك، زعيم الطائفة غير قادر على اتخاذ أي قرار، لأن القرار بطبيعته هو تفضيل مصلحة فئة اجتماعية على حساب مصلحة فئة أخرى، وبالتالي يُشكل خطراً على التماسك الداخلي للطائفة. نعتقد أن بشير الجميّل واجه صعوبات داخلية، من المحتمل أن تكون بسبب المقربين منه، في اتخاذ قرارات كان لا بد منها من أجل السير في عملية بناء الدولة المسيحية.
2.”الدولة المسيحية” بمجالها الضيق غير قادرة على التفاعل الكفؤ مع الخارج. التفاعل مع ما هو خارج الحدود يتطلب قوة كامنة لا يمكن تملكها إلا عبر توحيد المجال اللبناني. ففي القرن التاسع عشر مثلاً، تحولت ألمانيا من ساحة حروب للقوى الأوروبية إلى فاعل إقليمي قادر هو بنفسه على شن حروب خارجية، وذلك نتيجة سياسات بسمارك التي وحدت المجال الألماني عبر سكك حديد، تعليم عام شامل، بيروقراطية قوية، توحيد اللغة، وغير ذلك من السياسات الداخلية. فمن هنا أهمية توحيد المجال لرسم حدود بين الداخل والخارج.
3.الاتجاه العام عالمياً هو في مراكمة الخبرات والعلوم، أي ما يسمى الرأسمال البشري، وتقسيم العمل من أجل خفض تكلفة الإنتاج (الوفور الحجمية). المراكز التجارية العالمية التي استفادت من سلاسل الإنتاج، قامت على جذب ملايين العمال من أجل تحقيق الوفرة. بالإضافة الى أن الدول الإقليمية الأخرى لديها القدرة على الاستفادة من مخزون رأسمالها البشري الضخم: تركيا 85 مليون نسمة، إيران 89 مليون نسمة، مصر 111 مليون نسمة، السعودية 37 مليون نسمة، وحتى إسرائيل التي تصل إلى 9 ملايين نسمة. هل “الدولة المسيحية” قادرة على بناء اقتصاد بما لا يزيد عن المليون نسمة؟
لا يمكننا مواجهة التحديات التي تظهر اليوم، وخاصةً إعادة تشكيل المنطقة، من خلال التقوقع؛ بل يتطلب الأمر توسيع الآفاق والثقل السكاني.
اذا بينما قد يبدو طرح تقسيم مجتمعنا (ولو إدارياً) مهرباً سهلاً من هذا الواقع القاسي الذي نعيشه، إلا أن التاريخ يعلمنا استحالة هذا الطرح. لذا، يبقى متاحاً أمامنا اليوم الاحتمال الثالث والأخير: إقامة دولة قوية نقيضة لنظام الهدنة بين الطوائف. فهل هذا ممكن اليوم؟ وما هي السياسات العامة التي تطلق مسار تعزيز الدولة وإضعاف الطوائف؟
نقول إن هناك اليوم تقاطع بين مسائل عدّة قد تسمح لنا مجتمعة بأن نصل إلى انتقال من نظام إلى آخر. تعثّر نظام الهدنة في أواخر عام 2019 وتعطّله بسبب انقطاع الدولارات عنه، وتراجع اهتمام اللاعبين العالميين بهذه المنطقة بسبب تراجع حاجتهم لنفطها (وخاصةً بعدما تحولت الولايات المتحدة الأميركية إلى مصدّرة للنفط بدلاً من مستوردة له) وبسبب التحدي الصيني المتزايد، ودخولنا في مرحلة إعادة تشكيل العالم وتاليا المنطقة (كما حصل منذ مئة سنة تقريبًا)، يجعل من اللحظة التي نعيشها لحظة استثنائية، تتوافر فيها فرص انتقال هائل بتركيبات المنطقة، ومنها لبنان، وبالتالي هي فرصة للعمل على إقامة دولة حقيقية لم نشهدها منذ نشأة لبنان.
في لبنان، لا إمكانية لقيام دولة دينية أو قومية أو عسكرية. الدولة الوحيدة الممكنة هي الدولة المدنية التي يتعامل فيها المواطن مع الدولة بطريقة مباشرة من دون وساطة الطوائف، دون منعه من الانتساب إلى طائفة إذا ما أراد ذلك. وتكون الخطوة الأولى بإجراء تعداد سكاني للمجتمع، وتسجيل السكان في مكان إقامتهم، كي لا يبقى مجتمعنا أسيرا لخيال لم يعد صحيحا منذ سنوات طويلة. وتؤمّن هذه الدولة لمواطنيها التغطية الصحية الشاملة والتعليم الإلزامي المجاني بمنهجٍ موحدٍ على كافة أراضي البلاد كي لا يبقى الفرد متسوّلاً لدى زعيم طائفته. ويجدر بنا ذكر أن كل سياسة عامة من السياسات التي أوردناها، وعلى الرغم من تكلفتها المتواضعة (حوالي مليار دولار سنوياً)، قوبلت بمعارضة شديدة من جميع الأحزاب السياسية، من حزب الله إلى القوات اللبنانية.
هذه هي السياسات التي تضع مجتمعنا على سكة بناء الدولة والتخلص التدريجي من الطوائف والاصطفافات الهوياتية. بطبيعة الحال، طرحٌ من هذا النوع، على عكس طرح بناء دولة مسيحية، هو ما يضمن عدم عودتنا إلى الحرب وطروحاتها.
لا مثيل للحظة التي نعيشها من حيث احتمال نجاح إرساء أول دولة مدنية في شرقٍ أصبح ممزقاً بالهويات والمشاريع الدينية والقواعد العسكرية. على صعوبته، هذا الطريق الوحيد. والطريق متاح.