كي يكون الكلام جادًا والفعل مجديًا
تقارير القناة 24 الإسرائيلية الإخبارية، ثم كلام كمال اللبواني (المتردد على إسرائيل) ومسرحياته، ثم تنبيهات الموفد الأميركي توم برّاك وتوضيحاته وإيماءاته، ثم اللقاءات في أذربيجان، ومن ثم تجليات هذه الإشارات في معارك السويداء وفي العدوان الإسرائيلي على سوريا، والآتي… كل تلك الإشارات والأحداث تترافق مع أطروحات حول إعادة الاعتبار لعودة سوريا تحت حكم أحمد الشرع إلى الوصاية على لبنان وإلى توقّع تعديلات في الحدود بين لبنان وسوريا، عنوانها ضمّ طرابلس وعكار وبعض البقاع إلى سوريا، بالعنف.
الرابط بين هذه الإشارات والأحداث واضح بشقيه المتقاطعين تآلفًا وتعارضًا: اعتماد شرعية طائفية سنية في سوريا، والعمل الإسرائيلي المنهجي على تفتيت الدول لا بل المجتمعات المحيطة بها.
الحجج التاريخية المزعومة التي يستسهل البعض ترتادها ليست سوى غلاف لمقايضات يجري التداول بها لمواكبة المناورات التي تدور حول التوفيق بين هذين الاعتبارين: مقابل سيطرة إسرائيل على مناطق من سوريا، بدءًا من الجنوب السوري، واشتداد النزاعات الطائفية داخل سوريا بين “السنة” والطوائف الأخرى، من أكراد ودروز وعلويين وروم، وبالتالي إعادة رسم الحدود انطلاقًا من ذلك، مقابل كل ذلك، تتحكم سوريا، تعويضًا عن خسارات في جنوبها وتفلّت في مناطق الساحل، بمنفذ بحري، سنّي، عبر طرابلس. قد تبدو هذه المناورات شكلية، لكن الاعتبارات التي أدّت إلى التعبير عنها تستحق، من دون شك، التنبّه والتحذير. منطلق هذه الأطروحات إسرائيلي، سواء عبّرت عنها القناة الإسرائيلية أو نطق بها اللبواني، بينما بقيت تصريحات توم برّاك باسم الراعي الأميركي أكثر تحفّظًا وتخبّطًا.
يهمنا هنا أولًا أن نخاطب أبناء الشمال لا بل أن نتكلم باسمهم: طرابلس لم تكن يومًأ جزءًا مما سمّي مؤخّرًا سوريا. بل بقيت لقرون، أسوة بدمشق وبحلب، مركزًا لولاية عثمانية واسعة، يحدها جسر المعاملتين جنوبا وجبال أمانوس شمالًا، وتشمل سناجق حمص وحماه والسلمية وجبلة واللاذقية والحصن. مع التنظيمات العثمانية وإنشاء متصرفية جبل لبنان، ومن ثم إنشاء ولاية بيروت عام 1888، ألغيت الولاية وأصبحت طرابلس جزءًا من ولاية بيروت التي شملت كل الساحل الشرقي للمتوسط، فألحقت أجزاؤها الداخلية بولاية دمشق. لم يدم ذلك إلا قرابة ثلاثين عامًا، حتى عام 1920. ومع الانتداب الفرنسي أقيم لبنان الكبير إلى جانب إقامة خمسة كيانات فيما أصبح لاحقا سوريا. وما إن حصل استقلال لبنان وسوريا، إثر إعطاء الفرنسيين الإسكندرونة لتركيا كي لا تدخل في المحور الفاشي، حتى قامت الدولة السورية بتحوير خطوط النقل، ولا سيما سكة الحديد بين طرابلس وحمص، وبإنشاء مرفأي اللاذقية وطرطوس، حارمة طرابلس من خصائص موقعها الطبيعي ومن دورها التاريخي ومن وظيفتها الاقتصادية كمنفذ بحري للوسط السوري. هيمنة بيروت وبورجوازيتها التجارية والمالية وقصر نظرها، معطوفتان على الحرب الأهلية المجرمة وتدخلات سوريا ومنظمة التحرير، أدّت إلى تعميق فصل طرابلس ليس فقط عن جزء من محافظة الشمال وعن بيروت، وإنما أيضًا إلى تقسيمها بين واجهة غربية غنية تضم بعض أكثر اللبنانيين ثراءً، وعمق شرقي فقير مهدّد بعودة التوتّر والعنف إليه وانطلاقًا منه، إذا ما تفعّلت التدخلات المخابراتية. هذه هي الأسباب الواقعية لما يعيشه أبناء الشمال وينعكس كبحًا للطموحات فموقعًا متراجعًا ضمن نظام ائتلاف الطوائف البائس. الرد على هذا الواقع البشع لا يكون بالسير بما يتم تقديمه على أنه خلطة سحرية للتعويض عن عقود من الحرمان عبر استجلاب المحسنين الخارجيين وفتح مطار القليعات، ولا بالاستقواء بالهويات، فالهويات لا تنتج الا عنفًا، بل بلعب دور فاعل، وضروري، لطرابلس وللبنان، في تغيير مسارات الواقع التي أنتجت طرابلس بالشكل التي هي عليه، وبهكذا عمل يكون الرد الأنسب. فإعادة ربط طرابلس ببيروت عبر خط نقل سريع يعبر بينهما بنصف ساعة كفيل بتوحيد المجال اللبناني وبإرساء تكامل اقتصادي وخدمي بين أكبر مدينتين في لبنان ليصبح مجموعهما قطبًا إقليميّا وازنًا.
ويهمّنا أيضًا مخاطبة أحمد الشرع كمتولٍّ اليوم للحكم في سوريا في مرحلة خطيرة من تاريخها. نقول له إننا خبرنا في لبنان، قبل سوريا، حربًا أهلية دامت خمس عشرة سنة، وإن إنهاء الحروب ليس بالأمر اليسير، وإنهاء الحروب الأهلية أصعب وأدقّ، وإن سوريا ولبنان لم يعودا محور المشرق ونافذته، ولن يعودا كذلك تلقائيّا، وإن لهما مصالح مشتركة تضاعفها تراجع مكانتهما ومواردهما بحكم الحرب والهجرات. اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب في لبنان أرسى نظام هدنة بين طوائف ممأسسة ومسلحة، واستمر خلال خمس عشرة سنة تحت وصاية ثنائية سورية-سعودية في ظلّ أحادية أميركية مطمئنّة، واستمر بعد ذلك، من دون الوصاية، بشكل اللا-دولة الطائفية، في ظل توازن هش بين أميركا وإيران، وفي خضمّ بدايات إعادة تشكّل الإقليم تحت ضغط أحادية أميركية باتت قلقة ومتوتّرة، وإصرار إيران على تثبيت شرعيتها عبر الإقليم. التغيّرات المتسارعة التي نشهدها جعلت لبنان يواجه اليوم تحدي تثبيت شرعية دولة واثقة، لا يمكن، بحكم الموروث التاريخي فيه، إلا أن تكون شرعية مدنية، والتلكؤ في اعتماد هذا الخيار يرتب خسائر بشرية ومادية ومعنوية كبيرة. أما سوريا، فقد خضعت خلال نصف قرن لحكم قاسٍ، لم يتردد في ممارسة القمع عندما رأى نفسه مهدّدًا، وتستّر وراء شعارات أغفلت واقع المجتمع ومسارات تغيّره وتنوعه الشديد اثنيًا ولغويًا ودينيًا. والمجتمع السوري مختلف عن المجتمع اللبناني بديمغرافيته وبعلاقاته النسبية وبعلاقات ريفه بمدنه وبدرجة تجذّر المؤسسات ضمنه، ومن ضمنها المؤسسات الطائفية. نقول لأحمد الشرع إن طيّ صفحتي القمع والعنف تحدٍّ يواجهه، وكذلك التدخلات الخارجية، فالجيوش الدولية والإقليمية حاضرة بالمباشر في سوريا، أميركا وروسيا وتركيا وإسرائيل. والحلفاء ليسوا جسمًا واحدًا، كل واحد منهم يعمل لمصالحه، فكيف بالمتقاطعين ظرفيًا؟ ورهان “المكونات” على دعم خارجي هو ارتهان، خبرناها في لبنان تكرارًا، وخبرها بشار الأسد وهو يشهدها اليوم. سوريا بحاجة لشرعية واثقة وجامعة، تتعامل مع المواطنين على أساس مصالحهم الواقعية، المتلاقية منها والمتعارضة. فحذار من تكريس الطابع الطائفي الذي تبدّى في الحرب الأهلية، تحت غلاف المقولات الدينية. في ذلك خطر على سوريا ومخاطر شديدة على العلاقات بين البلدين. وليست طرابلس جزءًا تاريخيا من سوريا ولا هي “قلعة للمسلمين” بحيث يمكن استبدال مرفأي اللاذقية وطرطوس بها كما بشّر “الدكتور” المذكور، ناطقًا باسمه أو باسم مصادر وحيه، ومضيفًا صيدا لوضوح البيان. كلا مجتمعينا مصاب بتشوهات واقعية عميقة، ويجدر جعل هذه التشوهات تعوّض بعضها عن البعض بدل التستّر عنها، بعدوانية واستعلاء من قبل سوريا أو بانكفاء وتجاهل من قبل لبنان، كما حصل منذ الاستقلالين. التعامل مع الواقع لا يكون بالاستقواء بالهويات وبقدرات التأطير العشائرية ولا بالتموضع في مشاريع الآخرين. وطرابلس كفيلة بأن تشكل قطبًا لتكامل عقلاني بين لبنان وسوريا.
سوريا تؤثّر في لبنان لكن لبنان يؤثّر في سوريا أيضًا، والتأثير يمكن أن يكون إيجابيًا أو سلبيًا. نحن ندعو إلى بحث جدي تتقدم فيه المصالح التي تجمع بين البلدين على الاعتبارات الموروثة من الحرب ومن المآسي ومن الأساطير ومن الدسائس، لحشد ما بقي متوافرًا من الموارد في مواجهة إعادة تشكّل للإقليم لبنان وسوريا فيه هامشيان، وبالتوازي مواجهة العمل التخريبي الممنهج الذي تقوم به إسرائيل.