شربل نحاس: أولوية الحكومة للمصارف لا للمودعين.



مقابلة مع الأمين العام للحركة، نشرت في جريدة الأخبار بتاريخ 3 آذار 2025 – العدد 5440:

لم يأتِ شربل نحاس من موقع موالٍ للسلطة أو مناهض لها، بمقدار ما كان تركيزه ينصبّ على المشروع. كان يرى «الخراب» في مشروع التسعينيات وحاول ردعه في تلك الفرصة التاريخية عندما كان وزيراً في حكومات ما بعد أزمة العام 2005. حيث حصلت السلطة على فرصة استقطاب أكثر من 20 مليار دولار في مدة قصيرة، ولكنها لم ترد تعديل المسار، فوقع «الخراب» في نهاية 2019. الآن، يرى نحاس، أننا أمام تغيير عميق في المجتمع لم يتبلور شكله النهائي بعد، بل يتشكّل بتطور الأحداث. وتغيير يطال السياسة بزعاماتها والاقتصاد بقاضاياه، والمجتمع بهجرة أبنائه. يحصل الأمر فيما لا يبدي أحد أي استعداد للإقرار به إن لم يكن للتعامل معه. كيف نحافظ على الموارد ونمنع هجرة الشباب ونعيد الإعمار؟

■ يقال إن إعادة تشكيل المؤسّسات الدستورية كانت فرصة بزخم دولي للانطلاق نحو النهوض، ولكن سريعاً ظهرت هوّة كبيرة بين الآمال والواقع. هل تعتقد أننا كنّا أمام فرصة وفوّتناها؟

بعد التفليسة ثم الحرب، تسارع التغيير العميق في المجتمع، وهو غير قابل للارتداد. في المرحلة الشهابية تسارع الأمر مع تنمية الأرياف التي كان هدفها وقف تجييش أبناء الريف في الصراعات.

حصل ارتقاء اجتماعي لكنه انتهى بصدام بين أبناء الريف وأبناء المدن. ومع توسّع الفوارق الاجتماعية، اندلعت الحرب الأهلية. وفي هذا الوقت تدفقت أموال الفورة النفطية في محيط سياسي متخلخل بعد الهزيمة العربية أمام العدو الإسرائيلي وموت جمال عبد الناصر. يومها تسلّح اللاعبون المحليون بالخارج وبدأ التغيير العميق يظهر وصولاً إلى اتفاق الطائف الذي نظّم الهدنة بين المتحاربين.

مع هذا التغيير لم يبقَ من الزعماء السابقين سوى ما ندر، إذ بدأت مرحلة جديدة بزعامات أنتجتها هذه الظروف. وحتى يستمرّ تنظيم الهدنة، كانت هناك حاجة إلى «مضخّة الأموال»، فأُعطيت المصارف هذا الدور لتكون مضخّة وآلية توزيع… ذلك كله أدّى إلى تغيّر في نمط العيش.

كل انقطاع بين مرحلة سابقة واستقرار على المشهد الجديد، تطلّب نحو عشر سنوات. فمع وصول فؤاد شهاب إلى السلطة لم يكن التغيير المتسارع ملحوظاً، إلى أن انفجرت صراعات الحرب الأهلية. أما مرحلة الطائف، فبدأت تظهر في منتصف الثمانينيات، واستقرّت بانقطاع كامل مع ما سبق بالانتقال من الحرب الأهلية إلى شراء السلم الأهلي بالدين. في حينه تصدّرت المشهد زعمات جديدة غالبيتها لم ترتبط بالبرجوازية الحاكمة سابقاً. واستحدث «السيستم»، مضخّة أموال وقنوات توزيع وجرى تلزيم تشغيلها للمصارف… استمرّت هذه المرحلة حتى 2020.

نحن الان امام مرحلة جديدة بدأت منذ خمس سنوات. الجديد لن يشبه القديم أبداً. رغم ذلك، هناك ممانعة هائلة للإقرار بحصول هذا الانقطاع مع السابق. حتى التعابير المستخدمة يومياً تؤشّر إلى هذه الممانعة، فكلمة «التعافي» مبنية على إمكانية العودة نحو الشكل السابق من الحكم. الرهان على هذه العودة مقابله نمط حياة لا يريدونه، لذا يروّجون أن المليارات قادمة، وأنه يمكن تدبير مسألة هجرة الشباب، إلى جانب الرهان على الـ «أن جي أوز». يهدف هذا السلوك إلى صدّ الإقرار بنهاية النظام بشكله السابق، وممانعة تقبل الشكل الجديد كونه لن يكون مريحاً ومنعشاً.

كانت لدينا فرصة. لكن الحكومة اعتمدت على السرديات القائمة لتحديد أولوياتها. فلنأخذ التفليسة مثلاً؛ هناك سردية تقول إن الأوضاع كانت على أفضل ما يرام، لكن الحصار الأميركي أدّى إلى التفليسة. والسردية الثانية، تقول إنّ الشيعة خلقوا مشكلة مع الأميركيين والخليجيين، ولولا سلوكهم «كان الحال ماشياً». تتقاطع السرديتان على أن شخصاً شريراً أوقعنا في المشكلة، وبرحيله تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي.

بعضهم يسمّيها: العودة إلى الحضن العربي، وآخرون يشيرون إلى الفساد وسلسلة الرتب والرواتب، والكهرباء… لكنّ السرديتين تتحدثان عن أمر واحد؛ الأولى تقول إنّ «المضخّة» التي تؤمّن المال توقفت بسبب الحصار، لذا إصلاحها ممكن. والثانية تقول إنّ قنوات التوزيع الداخلية استنفدت قدرة «المضخّة»، لذا يجب «ضبضبة» المزاريب. بسهولة يمكن الاستنتاج أن المقصود إصلاح «المضخّة»، أي الوصول بالقطاع المصرفي إلى «التعافي»، لكن مع عدم المسّ به، بحجة أنه أساسي لـ«العودة»، سواء حُمّلت المسؤولية لأميركا أو للشيعة وإيران.

البيان الوزاري لحكومة نواف سلام يتبنى هذه السّرديات من دون أن يقترح إعادة النظر في “المضخّة”. وفي البيان تكرار لكلمة «دولة» من دون ترجمتها إلى خيارات تنقض الفكرة الموروثة من المرحلة السابقة. ما هي الدولة؟

هي تحشد الموارد وتحدّد طريق الإنفاق والجباية. مثلاً، يقولون إنهم يسعون إلى تغطية صحية لكلّ المواطنين، ولكن من دون أي إشارة إلى من سيدفع ثمنها؟ هل سنضمن المغترب منذ عشرات السنوات، في مقابل عدم ضمان السوري المقيم هنا رغم أنّه عرضة للأمراض المعدية، والتي من الممكن أن تصل إلى المجتمع اللبناني. هذه أمور «تافهة»، لم يأتِ البيان الوزاري بأيّ كلمة تجاهها، مثلها مثل «تعداد السكان»، و«الإعمار»؛ ماذا نبني، ومن يبني، وما هو دور حزب الله إذا أحضر الأموال اللازمة؟

■ هل تتعامل الحكومة بواقعية مع تحديات النهوض عبر الأولويات التي تعرضها في البيان الوزاري؟

هناك افتراق بين شعار مطروح بقوة يقوم على موّال «الدولة» و«الحضن العربي»، وبين الواقع. فلم تصدر أي إشارة إلى أنه يمكن الولوج إلى هذه الخيارات بواقعية، علماً أن التعامل الواقعي يفرض العمل على تعداد السكان لمعرفة أعداد المقيمين والموارد المؤسّساتية بمعزل عن التوجه الخاص والعام والأيديولوجي.

ففي مقابل وجود نحو مليون ونصف مليون سوري في لبنان يشكّلون القوّة العاملة الحقيقية، يشير البيان الوزاري إلى «ندّية العلاقات مع سوريا». أين الندّية فيما يمكن للحكومة السورية أن تقفل الحدود البرية تماماً عن لبنان؟

لم تكن العلاقات يوماً نديّة بين البلدين، بمعزل عن هوية الحاكم في سوريا. فرغم أنه من الواضح أننا لن نرجع كما كنّا من قبل، إلا أن الموّال نفسه يتكرّر في كل الملفات. مثلاً، أرسلت موازنة 2025 في آب الماضي من دون أن تقرّ أو أن تستردّ من الحكومة رغم كلّ ما حصل. مجرد التداول بأنّ الموازنة يجب أن تُقرّ كما هي، هو أمر سوريالي. لا أقول إن الخيارات الأخرى سهلة بل هي غير متقبّلة وصعبة.

وعلى المنوال نفسه يجري الحديث عن الودائع. يقول البيان الوزاري: «ستعمل الحكومة من أجل النهوض بالاقتصاد الذي لا يقوم من دون إعادة هيكلة القطاع المصرفي ليتمكن من تسيير العجلة الاقتصادية، وستحظى الودائع بالأولوية من حيث الاهتمام عبر وضع خطة متكاملة وفقاً لأفضل المعايير الدولية للحفاظ على حقوق المودعين…».

إذاً، بين المودعين والضمان الصحي، تقع الأولوية على المودعين، ما يعني أنّ الإعمار والضمان الصحي ليسا أولوية. في رأيي، عندما يتحدثون عن الأولوية، يقصدون «مضخّة الأموال»، فأهم ما في هذه العبارة، جملة: «تعافي القطاع المصرفي»، أي «الطرمبة». منهجياً، هم ليسوا «مجاديب». فالنهوض بالقطاع المصرفي الذي يمثّل أولوية، سيتفركش بالمودعين، من الجميل تحليل نصّ البيان الوزاري رغم أنّه مملّ للقرّاء. تسلسل البيان معبّر، والمقصد منه هو العودة إلى الحضن العربي، وتشغيل «الطرمبة».

■ هل يمكن التعامل مع المصارف بطريقة غير تلك الواردة في البيان الوزاري؟

هنا الحديث يجب أن يتركّز على بناء ميزان قوى مع الخارج بهدف التفاوض على ما يخدم مصلحة لبنان في الداخل. هم يرون خطراً في فتح هذا النقاش، لذا يعملون على «سيسَرة» الأمور يوماً بيوم، بانتظار متغيّر ما. مثلاً، لا يمكن واقعياً ردّ الودائع، فتلجأ الحكومة إلى علاج يعتمد على إعادة تشغيل «الطرمبة» (المصارف) وتتعامل مع الودائع باعتبارها مجرّد «تسطيمة» يجب حلّها. لا يريدون إعادة النظر في هذه «الطرمبة».

هم يهربون من الأسئلة الأهمّ : ماذا نريد من المصارف؟ لماذا يرغب الناس في إيداع الأموال لديهم؟ ما هي مبررات استخدام الأموال؟ هذه أسئلة تقود نحو مسائل غير مرغوب النقاش فيها.

على سبيل المثال، في حال وجود عجز مالي كبير يجب وقف قروض الإسكان والاستهلاك. هذا الخيار يقود نحو تعزيز الإيجار السكني الذي يؤدي إلى انخفاض في أسعار العقارات. هل يعلمون لماذا هناك ودائع في المصارف؟ فمع تأسيس المصارف في القرن التاسع عشر، لم تكن هذه المؤسسات تأخذ الودائع من الجمهور، بل اقتصر عملها على تقديم التسهيلات التجارية للتجار والأثرياء.

أما الآن، فالأموال تودع في المصارف لثلاثة أهداف: أولاً تمويل التجارة، ثانياً، للاحتياط (الادخار) مقابل تحصيل الريع (فائدة أو خسارة) الذي يقتطع بشكل غير مباشر من الإنتاج أو على طريقة «البونزي» اللبنانية، وثالثاً الاستثمار.

الاستخدام التجاري لا ينطوي على مخاطر كبيرة لأنه مضمون بالبضائع. لكن ادخار الأسر يفرض على المصارف تأمين قيمة الفوائد التي يتم تحصيلها من القروض التجارية المموّلة بدورها من الأرباح التجارية. بمعنى، أنه كلما كان حجم الودائع كبيراً (في لبنان بلغت نسبة الودائع إلى الناتج ثلاثة أضعاف والآن هي 6 أضعاف) كلما زادت الاقتطاعات واستنفد الناتج المحلّي. ماذا يحصل عند استنفاد الناتج؟ تُفلس المصارف.

في لبنان كان مستغرباً أننا لم نفلس سابقاً، وذلك بفضل شطارة رياض سلامة وتركيباته القائمة على إيجاد مودعين جدد يُسدِّد بأموالهم فوائد المودعين القدامى (بونزي). كان رياض سلامة ساحراً. لكن من الواضح أن هناك قدرة محدودة على إدارة الريع، وأنه في المقابل هناك مخاطر للاستثمار. هذه خيارات للنقاش لكل منها كلفة، ولا يمكن البناء على واحدة منها باعتبارها أمراً بديهياً.

■ كنت تردّد دائماً أنّ الأولويات هي: تغطية صحية شاملة ممولة بالضريبة، نقل عام مشترك، التعليم الأساسي المجاني. لكن الحكومة تتحدّث اليوم عن تعافي المصارف والكهرباء. فهل ما تزال الأولويات على حالها؟

يمكن أن تزيد على الأولويات التي كنت أشير إليها سابقاً، إعادة الاعمار. علينا القيام بجهد استثماري ضخم للتقليل من الحاجة إلى الريع والتسوّل. من يؤمّن الأموال، على اختلافاتهم، يسمى تسوّلاً. ومن يدّخر أمواله يريد ريعاً.

الريع والتسوّل يخنقان القدرة الإنتاجية بينما يجب الإقرار بأنّ التركيبة السابقة انتهت ولا مصلحة في إحيائها ومواكبة ذلك باستثمارات مفصلية. الأولوية في الإعمار تُبنى على خلق الوظائف في القرى. لا نريد لسكان القرى أن يهاجروا وهذا يتطلب استثمارات.

أما بالنسبة إلى الكهرباء، فإن التعامل معها على قاعدة المفاضلة بين استثمار عالٍ اليوم وكلفة تشغيلية منخفضة لاحقاً. فالكهرباء تقوم بشكل واضح على العلاقة بين العجوزات المالية وأسعار النفط. خلال المراحل السابقة، أفهمهم رياض سلامة أنّ علينا تخفيف كلفة الفيول، فبدأ التقنين. بعد ذلك استُخدمت المولدات.

بعد التفليسة استثمر الناس كتلة أموال كبيرة في ألواح الطاقة الشمسية وتبيّن أنها مجدية أكثر من معامل الكهرباء! فهل سنتمكن من ربط الألواح ببعضها البعض لاستغلال طاقتها كلّها لزيادة الإنتاجية ومضاعفة مردود الاستثمار؟ أيضاً كيف نتخلص من المولدات؟ من دون خيارات كهذه توازن زمنياً بين كلفة الاستثمار وجدواه، مع كلفة الريع والاقتطاع، نعود إلى التركيبة السابقة بشكل أكثر تعاسة.

 ألا تعتقد أن الرهان الحالي على عودة لبنان إلى الحضن العربي وإحياء المصارف يشبه رهان السلام في مطلع التسعينيات حين وعد لبنان بأموال الصندوق العربي؟

قبل الإفلاس، كان هناك مصدران للأموال: الحضن العربي، والدعم الدولي. وما كان يأتي من أموال، استمرّ حتى لحظة الهجوم الإسرائيلي، سواء من الولايات المتحدة الأميركية عبر المنظمات الدولية والـ«أن جي أوز»، أو من إيران، أو من المنظّمات الدولية المعنية بالنازحين السوريين. أما النمط الذي نشأ مع وصول رفيق الحريري إلى الحكم، فقد أتى في ظرف مغاير بدأ بالضبضبة الداخلية إلى جانب موّال «السلام» في رأس الحريري وغيره من الأحزاب. كان يسعى إلى أن تكون بيروت مماثلة للنموذج الذي أصبحت عليه الإمارات. خيار الحريري لم يكن تسوّلياً، إنما كان يحتاج إلى انطلاقة، ولكنه وقع سريعاً بعدما تبيّن أن الحضن العربي «فوفاش»، وانهار سعر الصرف في 1992. الحريري، اعتبر أنه يمكن شراء السلم الداخلي بالدين، وبواسطة المشاريع الداخلية.

وفي مشهد «السلام» الحالي، لبنان ليس على الخريطة. هو «سلام» يبدأ في الإمارات، ويصل إلى السعودية، ويعبر الأردن وصولاً إلى حيفا. لا وجود للبنان في هذا المخطّط. رهانات اليوم أضعف، وقائمة على التسوّل والهجرة والأوهام. أنا لا أشتم أو أمجّد بالحريري، فهو من زمن آخر، لكن الآن هناك امتناع عن مواجهة الواقع، وما يرتبه من خيارات.

■ ما يظهر في البيان الوزاري والتصريحات الرسمية ومداولات الكواليس، يبدو أن إعادة الإعمار أمام خيارين: أن تُرمى على جهة غير الدولة، أو لن تحصل؟

ما أراه أنهم لن يستعملوا الأموال الموجودة لدى مصرف لبنان ربطاً بتبنّي مقولة ردّ أموال المودعين. أما المغامرة باستثمار الأموال والذهب، فهي «مغامرة» بالنسبة إليهم. في الواقع، يجب البناء على هذه المغامرة إذا كانت تخفّف الحاجة إلى التسول والهجرة، أي استعمال الأموال في خيارات استثمارية ترمي إلى تقليل الحاجة إلى الاستيراد.

مثلاً، علينا تقليل استيراد السيارات التي تبلغ كلفتها مع وقودها نحو 3 مليارات دولار سنوياً. خفض هذا الرقم إلى النصف باستثمار 4 مليارات دولار من الأموال الموجودة، أمر يستحق المخاطرة لتقليل الحاجة إلى الريوع وعندها فقط، الضمان الصحي الشامل للمقيمين، لا اللبنانيين المهاجرين، يصبح مبرراً. هذا خيار. أيضاً نحن بحاجة إلى السوريين. فالشباب اللبنانيون لن يذهبوا صباحاً لنكش الأرض وفلاحتها. علينا التعامل مع الهجرتين الخارجة والوافدة.

عدد السكان القادرين على الإقامة في المناطق المدمرة أقلّ مما كان قبل الحرب. في المناطق المتبقية لا يمكننا إبقاء الناس بالقوة. لذا، لا يمكن إبقاء الضخّ بالوتيرة السابقة نفسها. مثلاً، لا نحتاج إلى 5 فروع للجامعة اللبنانية.

التعليم، لا يجب أن يكون مفتوحاً كما هو الآن، لأننا نقتطع موارد لتعليم الشباب وندفعهم إلى الهجرة والعمل في دول أخرى، وكأننا ندعم اقتصادات هذه الدول. يجب أولاً وقف النزيف البشري عبر الخدمة المدنية والعسكرية الإلزامية لرفد الإدارة والاتفاق مع الجامعات على كبح ظاهرة الهجرة. مثلاً، في حال لم يرغب الشاب في الهجرة تؤجّل أقساطه، وفي المقابل يدفع الراغب في الهجرة أقساطاً مضاعفة على طريقة «ضريبة خروج». علينا أيضاً أن نقرر ماذا سيدرس هؤلاء الشباب، لأننا لا نريدهم جميعاً باختصاص ما. ألا نتساءل لماذا تمكّن العدو من تطوير سلاح التكنولوجيا عبر الاستثمارات مع الشباب؟ لا نحتاج إلى تصدير الشباب، بل الاستثمار فيهم وتحويل الخسائر إلى تضحيات.

■ يفهم من البيان الوزاري والوزراء أن هناك موجة خصخصة آتية. هل توافق على استعمال هذه الأداة في ما يسمّى «إصلاح»؟

الخصخصة هي كذبة لتخبئة الدين المتولّد من الأموال التي يفترض اقتراضها اليوم بهدف الاستثمار مقابل مردود هذه الاستثمارات لاحقاً. ما المشكلة بأن تقوم شركة خاصة بإدارة المستشفى العام أو معمل الكهرباء العام أو غيرها؟

بتقديري، تعزيز حظوظ «الطرمبة». هذه الطريقة ترتب خسائر لاحقة مقابل تأمين الأموال بشكل أسرع. نريد أموالاً من الخارج اليوم، وبدلاً من الاستدانة بفوائد منخفضة، توافق الدولة على الاستدانة بفوائد أعلى والتخلّي عن المردود المستقبلي.

إحضار هذه الأموال يتم خدمة لأولويات، منها إعادة إحياء النموذج. هم ينظرون إلى الموارد على أنها دولارات، سواء أتت من الخصخصة أو من الحضن العربي والدولي، بينما أنا أنظر إلى البشر والمؤسسات باعتبارهم الموارد، لذا الموارد بالنسبة إليهم هي التي تعيد المصارف وتخدم سردية إعادة الودائع.

لكن ماذا لدينا للبيع سوى الأملاك البحرية؟ من سيشتري مؤسسة الكهرباء؟ أو الاتصالات؟ الأموال نحضرها بالهجرة لتعزيز الاستهلاك، والمؤسّسات ستباع للهدف نفسه.

العجز المستفحل عند السّلطة.



مقال من كتابة الرّفيق جميل فارس:

فيما لا تزال القرى الحدودية تحت الإحتلال مستباحة بعمليات التجريف والنسف، تطفو الخلافات على التلزيمات لرفع الأنقاض والدمار في ضاحية بيروت الجنوبية دون أي ردة فعل إحتجاجية من الجهات الرسمية. تخرج البرجوازية الطائفية للصيد، وهي المستفيد الوحيد في هذه الحرب، فيما قدّم فقراء لبنان كل ما أمكنهم لإيواء النازحين الجنوبيين الذين بذلوا دماءهم وبيوتهم في هذه الحرب. وفي غياب تام لمؤسسات الدولة، تخرج هذه الطبقة لنشل تعويضات المتضررين قبل صرفها أو حصرها وإحصائها، وقد شهدنا الوقفة الإحتجاجية لتجار مدينة النبطية لإستصراخ حقوقهم بشكل إنتقائي، خشيةً من عدم توفر الأموال بعد تراجع تعهدات الدول المانحة، ومنح أولوية الإعمار لسوريا، بالتوازي مع رفع الإيجارات أمام الذين خسروا بيوتهم، والذين تعذرت عودتهم الى قراهم بسبب الإحتلال، وبعد حديث الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم عن مدفوعات كبدل إيواء.

هنا يتجدد العجز المستفحل عند السلطة في اتخاذ قرارات تجاه أي طارئ، حتى إن كان عاصفة مطرية، وقد صدر ما صدر من تصاريح مالية كإعادة الودائع واستخراج النفط عبر طائرة بري وميقاتي في الناقورة قبل الحرب. وكأن مصائب اللبنانيين تتوالى لتنقذ النظام السياسي بتعهدات مسؤوليه الحديثة، التي تطمر القديمة. وبالعودة الى كلام أمين عام حزب الله عن صرف التعويضات، نرى فيه ما يشى بتعثرها، كدعوته الدول العربية والإسلامية، بإشارة الى المملكة السعودية دون أن يسمّيها، ثم دعوته غير المباشرة للمغتربين الذين تبخرت ودائعهم للمساهمة، أو أقلها بالتنازل عن تعويضات بيوتهم التي أسقطتها الصواريخ الإسرائيلية. وهنا لا بد من المقارنة بين دعوته المُحرَجة ودعوة الأمين العام الراحل أثناء حرب تموز عام 2006 حتى قبل وقف إطلاق النار، حيث قال بالحرف: “بدنا نعمّرها بفلوس حلال”، لأنه كان واثقا من تدفق الأموال على قاعدة أن الهزيمة يتيمة وأن النصر له ألف أب يتمنى أن ينتسب له.

إذا معضلة لبنان واحدة في السلم والحرب! طوائف تتمثل ببرجوازياتها، تتقاسم المغانم وتترك المغارم لرعاياها. حتى أنها لم توعز لمؤسساتها التعليمية الخاصة أن تلحق التلاميذ والطلاب النازحين لاستكمال العام الدراسي في بداية الحرب، كما فعلت المدارس الرسمية التي أسقطها القطاع الخاص بمؤامرة إفقار معلميها وتحميلهم مسؤولية الإنهيار، ومنع أي كلفة عن المصارف الممثلة في البرلمان “وحكومات الوحدة الوطنية ” ، وتسخير وزارة المال لها لمنع المساءلة وتمرير القرارات.

هل يمكن الوصول إلى مارونستان؟



مقال من كتابة الرّفيقين ربيع سمرا ونزار ضو، نشر في جريدة النهار.

الجزء الأوّل:

سنة 1991، مع انهيار الاتحاد السوفياتي وبزوغ الأحادية الأميركية حول العالم، انعكست الترتيبات العالمية الجديدة على الإقليم لترسي ما عرف بنظام الطائف في بلدنا، أي نظام هدنة بين زعماء الطوائف، في صيغة تنقل التقاسم الميليشيوي للمناطق إلى تقاسمٍ لموارد الدولة وأدوارها. رغم العقبات المتعددة، نجح النظام بالاستمرار لمدة ثلاثين عاماً تقريباً، في صيغةٍ أولى تعتمد رعاية مشتركة سورية سعودية سمّيت س ــ س حتى الـ2005، وثانيةٍ تم إرساؤها بعد خروج “الحكم” السوري والتي تعتمد على منطق الفيتو المتبادل بين الطوائف الأكبر عدداً، أي اللاقرار. بعد الهجرة الكثيفة في الحرب وإدمان المقيمين على التحويلات، عمل نظام هدنة ما بعد الحرب على تهجير اللبنانيين ومن ثم استقطاب أموالهم إلى المصارف اللبنانية عبر الفوائد، دون أي استثمار منتج بل بالاعتماد الحصري على تديين الدولة. يتناتش زعماء الطوائف تلك الموارد ويعيدون توزيعها على طوائفهم مقابل كسب الذمم والولاءات. أسفر هذا النظام عن مجتمعٍ استهلاكيٍّ يرتكز على إنفاق مهول لتثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، فيستورد بقيمة 17 مليار دولار سنوياً ويصدّر بقيمة 3 مليارات فقط. وسنة 2019 كان مجتمعنا قد استنفذ كامل مخزون التحويلات من الدولارات، فتعطل نظام ائتلاف الطوائف إجرائياً.

عندما نتمعّن بهذا المسار، يصبح واجباً علينا الإقرار بأننا لا يجب أن نعود إلى النظام الذي وصفناه الآن لعجزه الواضح عن إدارة البلاد. هو نظام لا يولّد سوى اقتصاد ريعي وتالياً أزمات اقتصادية، نظام لا يمكنه إيقاف هجرة أبنائه، لا بل يعتمد عليها، نظام غير قادر على التعامل مع الأزمات في المنطقة، نظام غير قادر على تسيير أعماله الأساسية من انتخاب رئيس وإصدار موازنة وملاحقة المسؤولين عن تفجير مرفأ العاصمة. فيصبح السؤال المطروح هو حول شكل النظام الجديد الذي علينا إرساؤه في لبنان اليوم.
من خلال تحليل أولي وبسيط، تظهر أمامنا اليوم ثلاثة احتمالات:
1.العودة إلى التصادم المباشر بين الطوائف (أي الحرب).
2.الفصل بين الطوائف والمناطق، والذي يتمظهر خطابياً بعبارات لطيفة كـ”اللامركزية” وأخرى أقل لطفاً كـ”الفيدرالية”.
3.التفكير بصيغة تتعامل مع أسس الطائفية وتعمل على الحدّ من آثارها وسلطة زعماء الطوائف عبر تقوية أداة قد اعتاد المواطن اللبناني على غيابها، ألا وهي الدولة.
لن نناقش الاحتمالية الأولى. فقد ذاق هذا البلد طعم الاقتتال والرهانات البائسة. لنبحث إذاً بالخيارين الآخرين.
يبدو خيار الفصل الإداري أكثر جذباً وقبولاً في مجتمعنا اليوم، وإن كان يظهر بأشكال مختلفة: من الذين يطلقون عليه اسم اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة إلى من يعتبر أن الفيدرالية هي الحل الوحيد. يأتي هذا الخيار بشكل أساسي ليواجه خيارات “حزب الله”، فيعتبر القائلون به أن “حزب الله” اختار مسار الممانعة ومعه تكاليف نحن لا نريد تحمّلها لأن الأسباب الموجبة لخياراته لا تعنينا. وبالتالي من المنطقي، بسبب عدم قدرتنا على مواجهته، أن ننفصل عنه وأن نستقل بخياراتنا التي نتوقّع أن يكون لها نتائج اقتصادية أفضل.
من أجل البحث في هذا الخيار، نقترح العودة في التاريخ إلى حقبة حين لم يكن مشروع “الدولة المسيحية”، حليفة الغرب والخليج، مجرد فكرة، بل مشروعاً حقيقياً وضع موضع التنفيذ خلال الحرب الأهلية. آنذاك، وبعد انتصارها في الحرب ضد الأنظمة العربية وتركيزها على إنهاء المقاومة الفلسطينية التي اتخذت من لبنان قاعدة لها، راهنت إسرائيل على بناء حليف على غرار “دولة يهودية” في لبنان، يتمثل في “الدولة المسيحية” بقيادة بشير الجميل والقوات اللبنانية. وبُذلت جهود سياسية وعسكرية كبيرة من أجل الدفع بهذا المشروع، لكن اللافت للنظر أنه فور وصول الجميل إلى الرئاسة، ووفقاً للعديد من المقربين منه، بدأ يظهر لديه تردد كبير حيال الطرح الإسرائيلي, فراح يقدم نفسه كموحّد للبنانيين. وهو أمر لم تأخذه إسرائيل باستخفاف.
من المثير للاهتمام التمعن بأسباب تردد الجميل في المضي قدمًا، لأن أسباب الأمس لا تزال سارية اليوم. فما الذي يفسر إذاً هذا التردد؟ في الواقع هناك عدة أسباب رئيسية لتفسير هذا السلوك:
1.الواقع المجتمعي المعقد ما بعد النزوح من الأرياف إلى مدينة بيروت الذي يختلف كلياً عن المتخيل الاجتماعي السائد: فغالبية السكان في سنة 1982، على اختلاف طوائفهم، كانوا قد أصبحوا يتواجدون في بيروت وضواحيها. يمكن توضيح هذه الحقيقة الجديدة، التي تعاني الطوائف للتعايش معها حتى اليوم، من خلال الدراسة أدناه للتوزيع المكاني للإيرادات الضريبية (حتى لو جاءت لاحقًا، في عام 2014، لأن الهجرة من الريف إلى المدينة قد وصلت إلى نضجها بحلول السبعينيات). فيظهّر الجدول أدناه أن ما يقارب الـ90% من الضرائب، أكانت على الأرباح أو على الاستهلاك (TVA)، تجبى في بيروت!
لذلك، تصبح عملية بناء دولة مسيحية في بلد يدور حول مدينة واحدة متداخلة، عملية شديدة التعقيد. فهم بشير الجميّل ذلك جيداً، فراح يتحدث عن لبنان لكل مواطنيه ويبحث عن تقريب الطوائف الأخرى منه، وصارح الإسرائيليين بذلك، ما أدى إلى نفاد صبرهم منه. حتى إن المعارضة الإسرائيلية لخيار مناحيم بيغن بالتعويل على مسيحيي لبنان ازدادت بحدّة آنذاك.

الجزء الثّاني:

في الجزء الأول من هذا المقال، أشرنا إلى أن مجتمعنا اللبناني اليوم يواجه ثلاثة سيناريوهات محتملة: العودة إلى الحرب الأهلية، تقسيم لبنان، أو محاولة إحياء صيغة جديدة للنظام الطائفي التوافقية. كما استعرضنا بالتفصيل أسباب فشل مشروع “دولة مارونية”، وذلك بسبب “الواقع المجتمعي” حيث تتركز غالبية السكان في بيروت وضواحيها.

في هذا الجزء، سنواصل استعراض أسباب عدم جدوى مشروع “دولة مارونية”، وسنفتح نقاشاً حول ضرورة إطلاق مشروع بناء دولة في لبنان.
نضيف أسباباً لا تقل أهميةً عن السبب المذكور في الجزء الأول:
1.طبيعة الطائفة وهو السبب أكثر عمقاً: لا يمكن للطوائف أن تبني دولة. ففي الواقع، إن الطائفة هي في تشكلها التاريخي متناقضة مع ديناميكية الدولة في التعاطي مع التغير الحاصل للمجتمع. فالطائفة، كونها مجموعة من الأنساب التي تتماسك بوساطة عصبية، تضم داخلها مصالح متناقضة. ففي الطائفة نفسها: ملاك ومستأجرون، تجار ومستهلكون، أصحاب مولدات ومستهلكو الطاقة، أصحاب مصارف ومودعون ومقترضون، إلخ…
لذلك، زعيم الطائفة غير قادر على اتخاذ أي قرار، لأن القرار بطبيعته هو تفضيل مصلحة فئة اجتماعية على حساب مصلحة فئة أخرى، وبالتالي يُشكل خطراً على التماسك الداخلي للطائفة. نعتقد أن بشير الجميّل واجه صعوبات داخلية، من المحتمل أن تكون بسبب المقربين منه، في اتخاذ قرارات كان لا بد منها من أجل السير في عملية بناء الدولة المسيحية.
2.”الدولة المسيحية” بمجالها الضيق غير قادرة على التفاعل الكفؤ مع الخارج. التفاعل مع ما هو خارج الحدود يتطلب قوة كامنة لا يمكن تملكها إلا عبر توحيد المجال اللبناني. ففي القرن التاسع عشر مثلاً، تحولت ألمانيا من ساحة حروب للقوى الأوروبية إلى فاعل إقليمي قادر هو بنفسه على شن حروب خارجية، وذلك نتيجة سياسات بسمارك التي وحدت المجال الألماني عبر سكك حديد، تعليم عام شامل، بيروقراطية قوية، توحيد اللغة، وغير ذلك من السياسات الداخلية. فمن هنا أهمية توحيد المجال لرسم حدود بين الداخل والخارج.
3.الاتجاه العام عالمياً هو في مراكمة الخبرات والعلوم، أي ما يسمى الرأسمال البشري، وتقسيم العمل من أجل خفض تكلفة الإنتاج (الوفور الحجمية). المراكز التجارية العالمية التي استفادت من سلاسل الإنتاج، قامت على جذب ملايين العمال من أجل تحقيق الوفرة. بالإضافة الى أن الدول الإقليمية الأخرى لديها القدرة على الاستفادة من مخزون رأسمالها البشري الضخم: تركيا 85 مليون نسمة، إيران 89 مليون نسمة، مصر 111 مليون نسمة، السعودية 37 مليون نسمة، وحتى إسرائيل التي تصل إلى 9 ملايين نسمة. هل “الدولة المسيحية” قادرة على بناء اقتصاد بما لا يزيد عن المليون نسمة؟
لا يمكننا مواجهة التحديات التي تظهر اليوم، وخاصةً إعادة تشكيل المنطقة، من خلال التقوقع؛ بل يتطلب الأمر توسيع الآفاق والثقل السكاني.
اذا بينما قد يبدو طرح تقسيم مجتمعنا (ولو إدارياً) مهرباً سهلاً من هذا الواقع القاسي الذي نعيشه، إلا أن التاريخ يعلمنا استحالة هذا الطرح. لذا، يبقى متاحاً أمامنا اليوم الاحتمال الثالث والأخير: إقامة دولة قوية نقيضة لنظام الهدنة بين الطوائف. فهل هذا ممكن اليوم؟ وما هي السياسات العامة التي تطلق مسار تعزيز الدولة وإضعاف الطوائف؟
نقول إن هناك اليوم تقاطع بين مسائل عدّة قد تسمح لنا مجتمعة بأن نصل إلى انتقال من نظام إلى آخر. تعثّر نظام الهدنة في أواخر عام 2019 وتعطّله بسبب انقطاع الدولارات عنه، وتراجع اهتمام اللاعبين العالميين بهذه المنطقة بسبب تراجع حاجتهم لنفطها (وخاصةً بعدما تحولت الولايات المتحدة الأميركية إلى مصدّرة للنفط بدلاً من مستوردة له) وبسبب التحدي الصيني المتزايد، ودخولنا في مرحلة إعادة تشكيل العالم وتاليا المنطقة (كما حصل منذ مئة سنة تقريبًا)، يجعل من اللحظة التي نعيشها لحظة استثنائية، تتوافر فيها فرص انتقال هائل بتركيبات المنطقة، ومنها لبنان، وبالتالي هي فرصة للعمل على إقامة دولة حقيقية لم نشهدها منذ نشأة لبنان.
في لبنان، لا إمكانية لقيام دولة دينية أو قومية أو عسكرية. الدولة الوحيدة الممكنة هي الدولة المدنية التي يتعامل فيها المواطن مع الدولة بطريقة مباشرة من دون وساطة الطوائف، دون منعه من الانتساب إلى طائفة إذا ما أراد ذلك. وتكون الخطوة الأولى بإجراء تعداد سكاني للمجتمع، وتسجيل السكان في مكان إقامتهم، كي لا يبقى مجتمعنا أسيرا لخيال لم يعد صحيحا منذ سنوات طويلة. وتؤمّن هذه الدولة لمواطنيها التغطية الصحية الشاملة والتعليم الإلزامي المجاني بمنهجٍ موحدٍ على كافة أراضي البلاد كي لا يبقى الفرد متسوّلاً لدى زعيم طائفته. ويجدر بنا ذكر أن كل سياسة عامة من السياسات التي أوردناها، وعلى الرغم من تكلفتها المتواضعة (حوالي مليار دولار سنوياً)، قوبلت بمعارضة شديدة من جميع الأحزاب السياسية، من حزب الله إلى القوات اللبنانية.
هذه هي السياسات التي تضع مجتمعنا على سكة بناء الدولة والتخلص التدريجي من الطوائف والاصطفافات الهوياتية. بطبيعة الحال، طرحٌ من هذا النوع، على عكس طرح بناء دولة مسيحية، هو ما يضمن عدم عودتنا إلى الحرب وطروحاتها.
لا مثيل للحظة التي نعيشها من حيث احتمال نجاح إرساء أول دولة مدنية في شرقٍ أصبح ممزقاً بالهويات والمشاريع الدينية والقواعد العسكرية. على صعوبته، هذا الطريق الوحيد. والطريق متاح.

الإقليم يُعاد تشكيله. الظرف تاريخي، والتضحيات هائلة، وتستدعي تبني مشروع سياسي يطرح معالم تشكيل الإقليم، عنوانه إقامة دول مدنية على نقيض منطق الهويات.
جلسة نظمتها الحركة في ملتقى السفير بعنوان “الحرب على غزة والجنوب: أين لبنان من الترتيبات الاقليمية القادمة؟”، والتي تحدث فيها الرفيقين هادي حصني وألكسي الحداد.

تصاعد الاعتداءات وتوسيع رقعة المعركة مردّه الى ضرب أسس شرعية الكيان الصهيوني. الأمر الذي يعطي مجتمعات منطقتنا، فرصة الانتقال الى شكل مختلف للشرعية: شرعية دول عادلة وقادرة.