معاينتنا للوضع
نحن اليوم في مرحلة انتقاليّة
السلطة السياسية في لبنان اليوم دخلت في مرحلة انتقالية، بفعل الفشل الكبير الذي وصلت إليه، ليس على مستوى تشكل مؤسساتها وتولية مسؤوليها أو على مستوى أداء هيئاتها وأجهزتها فقط، بل أيضاً على مستوى فقدان مقومات شرعيتها إذا ما قيست على أساس النصوص المرجعية التي تزعم بنفسها استمداد شرعيتها منها، دستورا ومعاهدات دولية وقوانين. لكنها بقيت تستمد قدرتها الواقعية من الرضوخ والتعامل الداخليين ومن الاعتراف الخارجي بها.
هذه المرحلة الانتقالية لم تبدأ اليوم، بل لاحت بوادرها منذ الاتفاق الرباعي عام 2005، وقد سارت بالتوازي مع محاولات استبقاء النظام القديم، تماما كما تزامنت المرحلة الانتقالية السابقة التي امتدت من مؤتمري جنيف ولوزان، مرورا بالاتفاق الثلاثي، وصولا إلى التطبيق الواقعي لاتفاق الطائف، بين 1983 و1992، مع محاولات استبقاء النظام السابق.
متى تم الإقرار بأننا جميعا، من في مواقع السلطة، ومن يناهضها، والمتفرجون، بتنا في مرحلة انتقالية، يصبح التعامل مع هذه المرحلة الانتقالية وإدارتها محور كل بحث.
فكل نظام سياسي يقوم على قواعد معينة، مكتوبة أو عرفية، تسمح بتنظيم الخلافات وبالمحافظة على عمل المؤسسات، من ضمن احترام تراتبية شكلية للسلطات المؤسسية، ومن ورائها، تراتبية فعلية للمصالح الاقتصادية والاجتماعية. المراحل الانتقالية هي التي تتم خلالها إعادة صياغة النظام السياسي وليس إدارة الخلافات من ضمن نظام سياسي قائم. من هنا تكتسب مسألة التعامل مع المرحلة الانتقالية أولوية حاسمة على أي موضوع عام آخر وتختزله، ويصبح التعامل مع أي موضوع سياسي محكوما بموقع هذا الموضوع من التعامل مع المرحلة الانتقالية.
ينجم عما تقدم أن تراتبية المسائل التي يطرحها هذا أو ذاك من الأطراف تصبح الموضوع الأساس، جدول الأعمال يصبح الأساس، لأن من يفرض جدول الأعمال يكون قد أسس معالم الغلبة ضمن النظام السياسي المنتج. ويصبح البحث في التحالفات محكوما بترتيب جداول الأعمال أكثر منه بالمواقف من كل بند أو موضوع. وبشكل أكثر تحديدا، يمكن ضمن هذه الحدود العمل على تلاق ولو ظرفي بين أطراف تنطلق في مقاربتها الفكرية من مشارب مختلفة، من الاشتراكية إلى الليبرالية، في تحالف على التعامل مع المرحلة الانتقالية.
ومن ناحيةٍ أخرى، كل نظام سياسي يقوم على تحديد، أقله نظري، للحقوق المتساوية بين جميع المواطنين والمواطنات، وهذا ما تعبر عنه، على طريقتها، الدساتير والشرع. والحقوق ليست سوى الاسم الآخر للمكاسب المحققة، في المراحل الانتقالية، على حساب امتيازات القلة، لأن كل سلطة، ضمن نظام سياسي معين، هي سلطة قلة، وليس حق الانتخاب إلا واحدا من هذه الحقوق. يبقى الحرص على ألا تتحول الحقوق إلى شعارات نظرية وعلى ألا ينجح الممسكون بالسلطة في عمليات الإيهام إما بأن ما بيدهم حيلة وأن السلطة ليست حيث يُعتقد، وإما بأن الأخطار الداهمة، والمفبركة في الغالب، تشكل مواجهتها “الضرورات التي تبيح المحظورات”.
صياغة النظام في المراحل الانتقالية تمر حكما من خارج النظام، أو أقله على هامشه، على طريق ضيق. وهي بالتالي تستند في نتائجها على موازين القوى وتقدير المخاطر. من هنا يصبح تكتيل القوى، تجميعها وتفريقها، محور العمل. مع التنبه إلى أن نتائج المرحلة الانتقالية لا تتوقف على طرف واحد بل تمثل مسؤولية مشتركة بين الأطراف المتواجهة، وإلى أن المنزلقات التي تحيط بها متعددة: الإحباط، العنف، الشلل المتدحرج…، وإلى أن القدرة على إدارة هذه المرحلة وعلى صياغة مخارجها تتفاوت بحسب قوة كل طرف، وإنما ايضا بحسب قدرته على إدراك أبعادها ومخاطرها، وعلى مدى حرية حركته السياسية. هذه كلها معايير التحرك.
المقابض الفعلية للسلطة
ولكن أركان السلطة المتخبطة، لوعيهم الدقيق بأن المرحلة الانتقالية تعني إعادة طرح موازين القوى، يجهدون لاستنساخ صيغ منقحّة تؤمن لهم استمرار ادعائهم التمثيل الحصري والمطلق للبنانيين واللبنانيات على أسس طائفية.
من المفيد هنا أن نتعرف على المقابض الفعلية للسلطة وعلى ركائزها الإقتصادية كي نفهم بشكلٍ صحيح بعض المناورات الهادفة الى تحويل المرحلة الانتقالية الى فرصة لتمديد حياة النظام السابق، فهذه السلطة لا تأبه كثيرا لفقدانها شرعيتها الشكلية:
- ما دام كل من أقطابها يحتفظ بقبضته على “جماعته”، ويوازن بين تجييشهم للاحتفاظ بالعصبية والزعامة وضبطهم كي لا تفلت الأمور وتنزلق إلى العنف والفوضى،
- وما دام هؤلاء الأقطاب يقرون بحيثية بعضهم البعض، وبحصرية صفتهم التمثيلية مجتمعين، فلا يطعنون بشرعية المفاصل الإجرائية الحيوية للسلطة، ولا سيما بشرعية حلقتيها المالية والأمنية،
- وما دامت تحظى بالاعتراف الخارجي بها، فلا يتخلى حام إقليمي عن الزعيم الذي يتبع له، ولا يسقط ركن من الأركان الإقليمية أو الدولية فيطيح سقوطه بأتباعه المحليين،
- وما دامت تحتفظ مجتمعة بانصياع الإدارة والقوى العسكرية لها.
هذه المقومات الأربعة تتكامل وتتعاضد، وأركان السلطة يسهرون عليها ويكيّفون تصرفاتهم وفقها، ولا بد من رصد صلابة كل منها باستمرار، ومن متابعة تفاعل أي ارتجاج يصيب أحدها على متانة البنيان السلطوي بمجمله أو على موقع أحد أركانه.
الركائز الإقتصادية للسلطة
هذا البنيان السلطوي يرتكز على قاعدة اقتصادية يمكن اختصارها بنموذج خبرناه جميعاً في فترة انهيار قيمة العملة الوطنية في أواخر الحرب الأهلية، وهو نموذج دكان الصيرفة، مع فارقٍ جوهري وهو أن العملة التي يتم تصريفها الآن هي البشر، وفارق أقل جوهرية أن وتيرة المضاربة الآن أبطأ.
اقتصادنا اليوم قائم على تدفقات مالية خارجية، مصدرها الأساسي تحويلات المغتربين بالإضافة إلى المال السياسي القادم من الخارج، هذه التدفقات تدخل النظام المصرفي، فتمول العجز العام عبر سياسة البنك المركزي، وتمول استهلاكاً قائماً على الاستيراد، من دون إنتاج محلي أو بالكاد، مما يعزز بشكل فاضح العوائد على رأس المال الريعي، نقداً أو عقاراً، مقارنة بالعائد على العمل وعلى الإنتاج، ما ينعكس ارتفاعاً غير طبيعي في كلفة المعيشة، فيعجز العامل والعاملة عن تأمين متطلبات الحياة الكريمة في بلده. النتيجة الحتمية هي هجرة العمالة الكفؤة، واستيراد عمالة أقل كلفة للقطاعات التي تتميز بقيمة مضافة ضئيلة. العوامل الخارجية، كالنزوح السوري الكثيف مؤخراً، تشكل عاملاً محفزاً لهذا المسار.
يستثمر اللبناني %13 من الناتج المحلي في التعليم، وهي النسبة الأعلى في العالم، هو بالتالي يموّل تكوين كفاءات مصيرها الهجرة، وعن غير وعي، وبكثير من الألم، يصرِّف كلاً من أولاده بعدد من العمال الأجانب.
هذا الإجرام بحق المجتمع الذي يتشكل نمطاً اقتصادياً خبيث جداً، لأنه نمط يتغذى من نزفه، فكلما ازدادت هجرة الكفاءات، كلما ارتفعت وتيرة التحويلات الخارجية، كلما ارتفعت كلفة المعيشة، كلما ازدادت الهجرة…