منذ نهاية الحرب على الأقل، وبائعو الأوهام يسيطرون على الحياة السياسية ويتمسكون بالقدرة على تقسيم الوقت، ليس فقط بين ما يسمى “ساعات عمل”، و”ساعات راحة”، و”ساعات نوم”، بل يسرقون قدرتنا على التركيز والتخيّل أيضًا

“لو سألت الناس عما يريدون لقالوا خيولًا أسرع” (هنري فورد، اقتصادي وصناعي أميركي، ومؤسّس شركة فورد لصناعة السيارات)

انعكست الأزمة السياسية والمالية في لبنان انهياراً في النموذج الاقتصادي السياسي القائم في البلاد، وشللاً في القطاعات الإنتاجية بمفهومها الواسع. وهي بدورها تنطوي على مشكلات بنيويّة موروثة منذ أوائل تسعينيّات القرن المنصرم، تجسّدت في نهجٍ سياسيٍّ اقتصاديٍّ مُنحرف، ومبنيٍّ على توزيع دقيق للأدوار بين أمراء الحرب والطوائف من جهة، والنخب المالية والتجارية من جهة أخرى، فقد عمل الطرفان على استجلاب الأموال من الخارج وضخّها داخلياً عبر الدين العام والديون الخاصّة، ونظّما بالتالي قنوات التوزيع وشراء الولاءات، ما أُرسي نهجاً انطوى على نزاعاتٍ دائمة بين الزعماء على الحصص، وعجز فيه القيّمون على الشأن العام عن حسم أيّ خيارٍ مهمّ في السياسات العامّة.

وأخيرا، صادق البرلمان اللبناني على موازنة عام 2022، وهي أقل ما يُقال عنها إنها تكرارٌ للموازنات السابقة، ومحاولةٌ لشراء الوقت ريثما يتم إنجاز “التفاهم” حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والإسرائيليين، ما من شأنه أن يبعث إشاراتٍ بالتفاؤل الى الأسواق العالمية، فتتعزّز بذلك احتمالية إعادة إنتاج النظام السياسي الاقتصادي لنفسه؛ أي استعادة النموذج القائم على الثلاثيّة المتمثّلة بهجرة البشر، والاعتماد المفرط على التحويلات الخارجية، كما الاستثمار في العقارات وغيرها من الأنشطة التي لا تعتمد على المهارات، والإنتاج، والتصدير، وهي ثلاثيّةٌ مسؤولة بالدرجة الأولى عما آلت إليه الأمور من سوء.

ثمّة أمر أساسي على اللاعبين الفعليّين في الساحتيْن السياسيّة والاقتصاديّة في لبنان أن يتنبّهوا إليه، وهو أن استخراج المشتقات النفطية وتصديرها ليسا حلاً سحرياً للأزمات البنيويّة في لبنان، كما أنه لن يأتي بثمارِه على نحو أوتوماتيكي، خصوصاً في ظل شيوع منطق الزبائنيّة والمُحاصصة بين “مكوّناتٍ” تبقى جاهزة للتّعبئة والاحتراب في أي وقت. بل إن حماية المجتمع، ومنع تبديده، تكمن في تغيير الوجهة، والعبور نحو نموذجٍ قائمٍ على ثلاثيّة نقيضة للنّموذج الراهن. أي نموذج تنموي يقوم على المهارات والإنتاج والتصدير، وتكون للماليّة العامّة وللسياسات النقدية والتجارية فيه مُساهمة حاسمة في بناء “اقتصاد ودولة للبنان”، فتعمل على تعزيز القطاعات التي تؤمّن البنية الأساسية لاقتصادٍ يرتكز على الإنتاج، وعلى المهارات التي طوّرها اللبنانيون في لبنان والخارج، كما تُعزّز ارتباط المقيمين منهم بدولة تعطيهم حقوقهم، فيبادلونها بترسيخ شرعيّتها.

من هنا، يمكننا الانطلاق نحو نقاشٍ أوسع بشأن القطاعات الاقتصادية الواعدة، والتي تستحقّ مزيدا من البحث، خصوصاً في ظلّ تدنّي القدرة التنافسية لأنشطة اقتصادية عديدة، وغياب سياسة صناعية وطنية من شأنها أن تساعد في بناء القدرات والمهارات لدى المنتجين اللبنانيين. وأبرز هذه القطاعات هو قطاع صناعة الآلات والمعدّات.

واقع قطاع الآلات والمعدّات

يضمّ قطاع الآلات والمعدّات أنشطة مختلفة، منها تصنيع الآلات والمعدّات، والآلات المكتبية وأجهزة الكمبيوتر، والأجهزة الكهربائية، بالإضافة الى معدّات وأجهزة الراديو والتلفزيون والاتصالات، والأدوات الطبية والبصرية والساعات. ويُعدّ القطاع مساهماً رئيسيّاً في تنمية الاقتصاد اللبناني، ويُعدّ مجالًا حيويًّا له نظراً إلى قدرته على إنشاء روابط متنوّعة مع مختلف القطاعات الاقتصادية، فهو يمدّها بالسلع الرأسمالية، ويسهم في إنتاج بضائع مصنّعة ذات قيمة مضافة مرتفعة وقابلة للتصدير. كما أنّ لدى هذا القطاع القدرة على توليد فرص العمل اللائق وتعزيز سبل العيش.

ويشتمل القطاع أيضاً على مستوى عالٍ نسبيّاً من المحتوى التكنولوجي، إذ يعتمد بشكل ملحوظ على السلع الرأسمالية آليّةً لتحسين مستوى التقدّم التكنولوجي، نظراً إلى تجسيد هذه السلع للتكنولوجيا والمعرفة الجديدة، والتي تسمح للمنتجين بتوظيف عمليات إنتاجٍ أكثر كفاءة. وفقاً للتصنيف المُعتمد من منظمة الأمم المتّحدة للتنمية الصناعية (UNIDO) حول كثافة استخدام التكنولوجيا لدى مختلف القطاعات الصناعيّة، فإنّ الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بقطاع الآلات والمعدّات الكهربائيّة تعتمد، بشكل أساس، على كثافة تكنولوجيّة متوسّطة إلى عالية (Medium- to- High Technology)، فبحسب هذا التصنيف، يجسّد هذا القطاع تقنيات ومهارات أكثر تطوّرًا، ومستويات عالية نسبيًا من البحث والتطوير، كما يميل إلى التركيز بشكل أساسي على تصميم المنتج.

طبقاً لأحدث مسح صناعيّ أجرته وزارة الصناعة في العام 2017 يضم عينة من 1520 مصنعاً في مختلف الأنشطة الصناعية في لبنان، 639 منها مُصدّرة، ضمّ قطاع الآلات والمعدّات والأجهزة الكهربائية حوالي 5% من إجمالي المنشآت الصناعية، وقد وظّف ما يقارب 5% من إجمالي العمالة الصناعية في العام نفسه، غير أن متوسّط معدل الأجر السنوي للعاملين الدائمين في هذا القطاع بلغ 16,415 دولارًا، وهو أعلى من المتوسط لدى القطاع الصناعي برمّته، والذي سجل 13,803 دولارات.

وبالنسبة إلى الصادرات التحويلية (manufacturing exports)، فقد استحوذ القطاع على حوالي 12.5% من إجمالي الصادرات اللبنانية في العام 2018، وحوالي 14.5% من إجمالي الصادرات الصناعية. وكما يوضح الرسم البياني (الرقم 1)، اشتملت صادرات القطاع على التالي: المحرّكات الكهربائية، والمولدات والمحولات الكهربائية (حوالي 104.1 ملايين دولار)، والآلات ذات الأغراض العامة والخاصة (118.7 مليونا)، والأسلاك والكابلات المعزولة (33.7 مليونا)، والأجهزة المنزلية (14.5 مليونا)، وأجهزة توزيع الكهرباء والتحكم فيها (11.5 مليونا)، والمصابيح الكهربائية ومعدّات الإنارة (9 ملايين)، والآلات المكتبية والمحاسبية والحاسوبية (8.5 ملايين)، والأجهزة والأدوات الطبية وأجهزة القياس والفحص والاختبار (8.3 ملايين)، والساعات (6.7 ملايين).

المصدر: حسابات المؤلّف بناءً على قاعدة بيانات ‘الحلّ التجاري العالمي المتكامل’.

ويُلاحظ أنّ البلدان العربيّة والأفريقية شكّلت الوجهة الرئيسيّة لغالبيّة هذه الصادرات في العام 2018، فقد أتت سبع دول عربيّة في مرتبة الدول العشر الأولى من حيث الوجهة الرئيسيّة لصادرات الأغذية والمشروبات التحويليّة وهي العراق، وسورية، والإمارات، وكذلك المملكة العربية السعودية، ومصر، والكويت، وقطر (الرسم البياني الرقم 2). وقد استحوذت هذه الدول على 70% من إجمالي صادرات لبنان من الآلات والمعدات. كما أتت القارّة الأفريقية في المرتبة الثانية، حيث شكّلت دول مثل الكونغو، وساحل العاج، ونيجيريا، بالإضافة إلى غانا وغينيا وجهات أساسية لصادرات هذا القطاع، بحصة تزيد عن20% .

المصدر: حسابات المؤلّف بناءً على قاعدة بيانات ‘الحل التجاري العالمي المتكامل’.

القدرة التنافسيّة لقطاع الآلات والمعدّات

ترتبط القدرة التنافسية في معظم القطاعات التي تنتج سلعاً قابلة للتبادل بكلفة الإنتاج بشكل مباشر. لكن كلفة الإنتاج في لبنان مرتفعة نسبيًا نظراً إلى ارتفاع كلفة الطاقة، والعمل (قبل الانهيار)، والأراضي. علاوة على ذلك، الحجم الصغير نسبيًا للسوق المحلي، بالإضافة إلى الإغراق المفرط لمنتجات بعض البلدان فيه، يشكلان عواملَ إضافية تحدّ من تنافسيّة القطاعات الانتاجية اللبنانية.

على الرغم من ذلك، يتمتّع المنتجون اللبنانيون، ولا سيما في قطاع صناعة الآلات والمعدّات، بمزايا ديناميكية من شأنها أن تساهم في الارتقاء بالقدرة التنافسيّة للقطاع وتعزيز صادراته.

أوّلاً، يستفيد القطاع من وجود جالية لبنانيّة كبيرة ومتنوعة في بلدان الاغتراب، وهو ما يُعدّ عاملاً مهماً لناحية زيادة الطلب على الآلات والمعدّات والأدوات المنتجة محليًا. وذلك لأن المغتربين هم بمثابة وسيط، أو حتى جزءاً من شبكة معلومات واسعة تُوفّر المعلومات اللازمة حول ديناميكيات الأسواق في البلدان المُضيفة.

وثانيًا، الموقع الجغرافي للبنان الذي يقع بين دول الاتحاد الأوروبي وأفريقيا والشرق قد منحه مزايا استراتيجية لجهة تعزيز التآزر الاقتصادي والاجتماعي واللغوي مع بيئته الجغرافية الأوسع، فقد أتاح ذلك للمصدّرين اللبنانيين فهم أذواق الاقتصادات المحلية ومتطلباتها في هذه المناطق والوصول إلى أسواقها.

وأما ثالثاً، تشمل هذه المزايا قدرة الصناعيين اللبنانيين على التكيّف والمرونة من جهة، وتركيزهم على الابتكار والقيمة المضافة من جهة أخرى. بمعنى آخر، لا ينبغي أن تقتصر القدرة التنافسية للصناعة اللبنانية على عامل السعر أو كلفة الإنتاج، بل هي تتأثّر بمجموعة واسعة من العوامل غير السعرية (Non-price Factors) حيث يلجأ صناعيون عديدون في لبنان إلى المنافسة غير السعرية، فيتمّ تمييز المنتجات اللبنانية عن غيرها من المنتجات المنافسة في السوق العالمية على أساس ميزات معيّنة مثل التصميم، وتنويع المنتجات، والتحسينات في جودة المنتج وسماته، بالإضافة إلى تطوير منتجاتٍ جديدةٍ مطلوبةٍ في السوق، وإيجاد احتياجات استهلاكية جديدة. وغالباً ما يكون ذلك من خلال تشجيع الدراسات المعنيّة بتفضيلات السوق والمستهلكين، ومن خلال تشجيع أنشطة البحث والتطوير (R&D). .. وتفاعل المزايا المذكورة أعلاه يمنح قطاع الآلات والمعدات في لبنان ميزته التنافسية.

يروي صاحب شركة لبنانية في قطاع الآلات والمعدّات أن صادرات مؤسسته ارتفعت خلال العقد الماضي لتشكّل 85% من إجمالي المبيعات. واللافت أن ارتفاع الصادرات (تضمّنت وحدات التبريد، وأبواب الفريزر ووحدات التعبئة والتغليف) كان نتيجة لترقية المنتجات وتنويعها، فباتت تستخدم تقنياتٍ جديدة، ولها مظهر مختلف. كما يؤكّد المدير العام لمؤسسة كبيرة تنتج آلات النقل والمركبات، وتضم أكثر من مئة موظف(ة) أن الصادرات ارتفعت خلال العقد الماضي لتشكّل 65% من إجمالي المبيعات. ويُعزى ذلك إلى نجاح المؤسّسة في إدخال منتجات جديدة على السوق، وتطوير أخرى، سيما خزّانات الألمنيوم، والمنزلقات للسيارات. وقد مثّلت الأخيرة منتجاً جديدًا ليس فقط على المستوى الوطني، ولكن أيضًا في الأسواق الإقليمية العربية والأفريقية.

أي سياسة صناعية للبنان؟

ليس بالضرورة أن ترتكز السياسة العامة على تدابير تقليدية مثل الحماية الانتقائية أو الإعانات التي تهدف إلى حماية الصناعات الناشئة (Infant Industries)، والتي قد لا تتناسب مع طبيعة الاقتصادات الصغيرة الحجم والمفتوحة. إن جزءاً من ترسانة السياسات العامة هو توفير المنافع العامة للقطاعات الإنتاجية، والتي تتخذ شكل التدخلات الأفقية، كالاستثمارات في المختبرات العامة والبحث والتطوير العام، والبنية التحتية المادية والبشرية، بالإضافة إلى إيلاء اهتمامٍ خاصٍّ بقطاعات التعليم والصحة والسكن والمياه والطاقة والنقل والاتصالات، إنفاقاً وتنظيماً. وأخيرًا، قد يكون تعزيز الإطار المؤسسي الذي يهدف إلى تقوية شبكات المعلومات وتوسيعها، وكذلك تعزيز الروابط بين المصدّرين والمغتربين أمرًا حاسمًا لتأمين استدامة الإنتاج اللبناني وصادراته.

في الخلاصة، لا بدّ من التذكير بأنّ الفائزين في الأسواق العالميّة هم القادرون على تطوير قدرات ديناميكيّة (Dynamic Capabilities) مثل الاستجابة إلى الطلب الخارجي وتلبيته في الوقت المناسب، وكذلك الابتكار السريع والمرن للمنتجات القابلة للتبادل، بالإضافة إلى القدرة على الإدارة السليمة، وتكييف الموارد والمهارات التي تتوافق مع بيئة الأعمال المتغيّرة باستمرار، والتي تتميّز بالتغيّر التكنولوجي السريع، وبطبيعة الأسواق المستقبليّة التي يصعب توقّعها. فإذا افترضنا أن القطاعات الإنتاجية التي تُعتبر أكثر تطوّراً من الناحية التكنولوجية وأعلى قدرة على التصدير تلعب دورًا حاسماً في العبور نحو نموذج تنموي يقوم على المهارات والإنتاج والتصدير. وبالتالي، في بناء “اقتصاد ودولة للبنان”، فيُمكن الاستفادة من تجربة قطاع الآلات والمعدّات في لبنان من أجل توجيه الخيارات السياسية والسياسات العامة على النحو الذي يخدم مصلحة المجتمع ورفاهيته على المديين، المتوسط والطويل.

مقال من كتابة حسن شري، عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة، نُشر في ملحق القضايا، جريدة العربي الجديد.

لنبدأ بالحقائق البديهية، لأن النقاش في البلد غالباً ما يقفز فوق الحقائق لتضيع العدالة بين تضليل وكليشيهات يكرّسها إعلام رديء ومأجور. ويا للصدف، يصب ذلك دوماً في خدمة أصحاب المليارات والنفوذ. البديهيات إذاً: نحن نتحدّث عن توزيع خسائر، وليس عن تعويضات عن خسائر، وليس عن إعادة أموال مسَّها بلل أو حريق. نحن حرفياً نوزّع خسائر، أي عملية تحديد كم سيخسر فرد ما مقابل كم سيخسر فرد آخر، أو نسبة الخسائر التي ستتحملها فئة من الناس مقابل فئة أخرى. كل كلام عن توزيع الخسائر يجب أن ينطلق من هذه الحقيقة: إن الخسائر محققة وقائمة ومنجزة والصراع الآن هو من سيتحمّل خسارة أكثر ممّن وما نسبتها.

جاءت هذه المبادرة في إطار تحويل المهرجان الإنتخابي من محطة لبيع الأوهام إلى فرصة للإضاءة على نقاط ضعف النظام وتحويل المعارضين الحقيقيين إلى تغييريين من خلال التصويب عليها