انتفاضة تشرين
الحراك الشعبي هو تعبير عن رفض الناس لما وصل إليه واقعهم الحياتي وإسقاط لشرعية نظام سلطوي تعثر وتعطلت أدواته الإجرائية. التحدي الكبير يتمثل بتحويل هذا الرفض إلى مشروع سياسي، وهذا ما لم يحصل.
فاجأت تظاهرات 17 تشرين اﻷول 2019 الجميع، باستثناء المصارف التي قررت في اليوم عينه أن تتوقف عن الدفع. السياسيون وعامة الناس، بمن فيهم المتظاهرون، لم يستطيعوا تقييم الأحداث. خرج الاجتماع الأخير لمجلس الوزراء بورقة إصلاح هزلية للغاية لم يكن لها أي وقع في الشوارع والساحات. فيما يتعلق بالتموضع، قدّر بعض أطراف السلطة أن من مصلحتهم التموضع استباقا لما بعد الأزمة، بعدما أدركوا وقعها السياسي على الناس، وإن لم يدركوا أبعادها، فتحولوا إلى “معارضين”. في 29 تشرين الأول، أعلن سعد الحريري استقالة حكومته، على الرغم من الضغوط التي مارسها حزب الله وحركة أمل، لا بل من توسلهما بقاءه. آخرون رأوا في الانتفاضة الشعبية مؤامرة من الخارج وسببا، لا نتيجة، للأزمة الاقتصادية، فقرروا المواجهة. سعوا إلى إخافة المتظاهرين بأعمال عنف منظمة ومدروسة بدقة. وراحوا يبحثون عن وسيلة للاحتواء. قرروا أن يحكموا لوحدهم، ولكن من دون أن يسفروا عن وجوههم. بعد التواصل مع عدة «وجوه من السنّة»، وقع الاختيار على حسان دياب لتأليف حكومة الواجهة، ممن يسمون «تكنوقراط».
شاركت الحركة منذ اللحظة الأولى في التظاهرات، وكانت سباقة في إقامة جلسات شرح وحوار مع المتظاهرين في “الخيمة” التي أنشأتها في موقف اللعازارية. وقمنا منذ اليوم الأول، قبل اكتشاف أركان السلطة لمواهب حسان دياب، بالاتصال بعدد كبير من الوجوه السياسية والإدارية المعترف بكفاءتها وبرمزيتها الجامعة، بمعزل عن ارتباطاتها السابقة وعن خلافاتنا معهم، لتشكيل فريق حكم بديل يتولى لملمة الأوضاع قبل تفاقمها وللالتزام بالمشروع الإنقاذي للحركة. منذ الأيام الأولى، تبين حجم الاختراقات في التظاهرات، قبل أن يعمد حزب الله إلى مطالبة مناصريه الانسحاب من الساحات وقبل تنظيم عمليات القمع المدروسة من قبل “ابناء الخندق” كما أسموا، والأجهزة الأمنية، على السواء. وكان للاختراق أوجه واضحة: من قبل الاحتفاليين الذيت أتوا بالأهازيج وبالشاشات وبمكبرات الصوت المحمولة والثابتة وبالأراكيل، ومن قبل الشتامين المحترفين، ومن قبل المكلفين بمهام قمع تبلور أي مشروع سياسي مؤطر. بمرارة نقول إن الكثيرين، من حيث لا يدرون، ساهموا في إنجاح عمليات الاختراق، إن بانجرارهم إلى الاحتفاليات أو الشتم أو رفض بروز أي قيادة سياسية. غلب على التظاهرات تعبير الغضب والمطالبة بالعودة إلى ما كان، من قروض مدعومة، وتثبيت سعر الصرف، و”تحرير الودائع المحتجزة” وغيرها، أو المطالبة بشعارات عامة كالمحاسبة ومحاربة الفساد واستقلالية القضاء، دون التيقن بأن المطالبة تضفي شرعية على من تجري مطالبته، وأن ما سقط ليس الجهاز المالي بل المنظومة الاجتماعية السلطوية، وأن المواجهة لا تكون بالأحكام الأخلاقية ولا بالوصفات التقنية، ولا بالخبراء المستقلين، بل بالسياسة، اي بمشروع لدولة واقتصاد ولمجتمع.