انّ قرار خوض عمل سياسي هادف يحتّم على الفرد بناء القدرة على استباق الأحداث وعلى تحمّل مسؤوليات ومخاطرات كبيرة، فيختار، متى أدرك ذلك، امّا مواجهة الواقع لتغييره وإما الانخراط في النظام السلطوي القائم، أو الانكفاء والهروب.

لقد استبقنا الإنهيار واخترنا المواجهة!

قررنا تأسيس حركة مواطنون ومواطنات في دولة لمواجهته، والتأثير في مساره، ومنعه من جرف كل ما راكمه هذا المجتمع على مدى مئتي عام.‎

خيار تأسيس حزب سياسي في بلد مثل لبنان ليس بالخيار البسيط، بل هو يواجه تحديات وعقبات كثيرة بسبب تشويه مفهومي السياسة والعمل الحزبي من قبل النقابات الطائفية التي احتكرت ممارستهما لعقود. تصبح هذه المواجهة أصعب عندما يزعم هذا الحزب السياسي حمل مشروع يهدف لوضع أسس سلطة جديدة بعد أن انهارت فاعلية السلطة القائمة وبالتالي شرعيتها. لذا على المنخرطين في هذا المشروع، بأي شكل تنظيمي كان، أن يعلموا يقينا أن لا عودة الى ما قبل الانهيار. انطلاقاً من قراءتنا لهذا الواقع تقع علينا مسؤولية تصور نظام اجتماعي-سلطوي‎ جديد هدفه الدفاع عن مجتمعنا المهدد.‎

من أجل تحقيق هدفنا، أي دولة مدنيّة ديمقراطية عادلة وقادرة، تتميز حركتنا بالاعتماد على وضوح الرؤية والجهد الفكري النقدي أساساً لمنهجيّة عملنا. بالإضافة لذلك، ندعو جميع المنخرطين في مشروعنا الى القيام بالجهد الشخصي المطلوب من أجل تخطي النظرة الجوهرانيّة المرتبطة بالتطورات التاريخية، وتوسيع مفهوم السلطة وعدم اختصار المواجهة بإسقاطات أخلاقية أو أيديولوجية. لذا، تتكوّن حركتنا من أعضاء عاملين هدفهم بلورة الخيارات المتاحة منهجيا، وهم مجنّدون لخوض المعارك السّياسية ضمن حركة تتمتّع بمركزية في القرار تضفي‎ الفعاليةً اتجاه حسم هذه الخيارات وتنظيم هذه المعارك.‎

نعلم جيداً أن الالتزام في حزب سياسي ليس بالخيار السّهل، تحديداً وأنّ حركة مواطنون ومواطنات في دولة تتطلب التزاماَ أكبر من أعضائها مقارنة بالأحزاب أخرى. في المقابل، نعي بأنّ عددا كبيرا من المناصرين مستعدّون للقيام بخطوة تتخطى الاعتراض على الوضع القائم، لاقتناعهم بحدود تأثيره ولتيقّنهم بضرورة التنظيم والدفع باتّجاه مشروعنا، من دون الالتزام كأعضاء في الحركة. لذلك، قمنا بتطوير هذا الدليل الذي يتضمن شرحاً مفصّلاً لمشروعنا وسبل تحقيقه. والهدف منه أن يكون وسيلة تواصل وحوار فيما بيننا للتعارف وتبادل‎ الافكار، بل ولإتاحة وسائل وقنوات عملية للإسهام والتطوّع. وأخيراً لتزويدكم بالأدوات المعرفيّة لتمكين قدرتكم على المحاججة في محيطكم وحلقات تأثيركم.‎

فلنعمل سوياً على اقامة أول دولة مدنية في شرقنا.‎

نحن نعي أنّ السلطة الحالية مسؤولة عن الهدر الذي حصل خلال العقود الماضية، ونعلم أيضا أنّ بعض الفئات استفادت أكثر من فئات أخرى، الّا أننا لا نؤمن بطرح أي مطلب أو اصلاح في ظلّ المنظومة نفسها ولا نعوّل على مسرحياتها في اقرار قوانين لاستعادة الأموال المنهوبة. كما نذكر بعض الأفكار الأساسية عند مقاربة هذا الموضوع:

  • انّ الهدر والنهب لم يأتيا بنتيجة أعمال منعزلة بل قد حصل قانونيّا ومنهجيا، أي تبعا لقوانين شرّعتها المنظومة نفسها، وتم توزيع “منافعه” على أعداد كبيرة من المستفيدين، ولدى المسؤولين حصانات قانونية شكلية وطائفية سياسية لا تتردد في التذرع بها،
  • استعادة الأموال المنهوبة تتطلّب سنوات، إن انطلقت، ان نجح، ونحن في مرحلة انتقالية لحرجة لا يجوز إغفال كلفة الوقت خلالها.، إضافة إلى أن الأموال المنهوبة، إن استعيدت والنظام السلطوي بقي قائما، فهي سوف تذهب إليه مجددا لأنه يمثل، ولو شكلياـ الدولة،
  • ليس واقعيا ان نتوقع من مجلس نواب ومن حكومات خاضعة كليا لزعماء الطوائف ان يسنّ قوانين وأن تعيّن قضاة عكس مصلحة الزعماء.
  • المدخل المفروض اليوم، أولا، هو المواجهة السياسية للسلطة، وكل بعثرة للجهود وللأطروحات خطيرة، لا سيما وأن المطالبة تعزز شرعية المطالَب.

الخلاصة هي انّ محاولات طرح أي اصلاحات في ظلّ بقاء المنظومة الحاكمة نفسها ليست الا مسرحيات وهدر للوقت.

الانتخابات النيابية المبكرة لن تؤمّن الانتقال المرتجى خلال هذه المرحلة. تقوم الانتخابات على توزيع المقاعد بين أقلية وأكثرية إنما ضمن المنظومة التي نعيش تحت وطأتها منذ عقود، في حين يتوجب على المعارضة الحقيقية التركيز على الانتقال الى شكل آخر للسلطة، قوامها دولة مدنية قادرة وعادلة. من الضروري التأكيد على أن أي انتخابات هي، في الوقت نفسه، تأكيد على شرعية النظام السياسي وإمكانية تعديل في الفريق الذي يتولى المسؤولية ضمنه. يصبح للانتخابات معنى لما تكون شرعية الدولة راسخة، فتحدد الأطراف السياسية خيارات حقيقية بين سياسات إجرائية قطاعية واجتماعية واقتصادية، فيتفاعل معها الناخبون بحسب تقديرهم لمصالحهم. أما الانتخابات في ظل المنظومة الطائفية القائمة، فلا تعدو كونها قياسا “لأحجام” الزعامات ضمن كل طائفة وبين الطوائف، لذا تخلو كليا من أي طرح لسياسات عامة، وتقتصر على حشد الهويات والمتاجرة بالقلق، والحكومات هي نفسها، حكومات “الوحدة الوطنية”، ولا تجري السلطة انتخابات إلا بعد أن تتأكد من نتائجها.

قد تكون المشاركة في الانتخابات، على الرغم من ذلك، مبررة إذا حمل تحالف سياسي محدد مشروعا سياسيا بديلا واضحا، تظهيرا للتأييد الذي يلقاه هذا المشروع. لكن هذا المسار، على أهميته، يفترض توفر فسحة مديدة من الوقت كي يؤتي ثماره وهدر الوقت باتت كلفته باهظة أمام الانهيار الحاصل، والأهم أنه يستدعي وضوحا في الطرح السياسي ما زالت غالبية القوى التي تصنف نفسها معارضة غير مستعدة لحمله، عن تهيب حيال المسؤولية أو عن طموح للظهور وللمناصب.

الحراك الشعبي هو تعبير عن رفض الناس لما وصل إليه واقعهم الحياتي وإسقاط لشرعية نظام سلطوي تعثر وتعطلت أدواته الإجرائية. التحدي الكبير يتمثل بتحويل هذا الرفض إلى مشروع سياسي، وهذا ما لم يحصل.

فاجأت تظاهرات 17 تشرين اﻷول 2019 الجميع، باستثناء المصارف التي قررت في اليوم عينه أن تتوقف عن الدفع. السياسيون وعامة الناس، بمن فيهم المتظاهرون، لم يستطيعوا تقييم الأحداث. خرج الاجتماع الأخير لمجلس الوزراء بورقة إصلاح هزلية للغاية لم يكن لها أي وقع في الشوارع والساحات. فيما يتعلق بالتموضع، قدّر بعض أطراف السلطة أن من مصلحتهم التموضع استباقا لما بعد الأزمة، بعدما أدركوا وقعها السياسي على الناس، وإن لم يدركوا أبعادها، فتحولوا إلى “معارضين”. في 29 تشرين الأول، أعلن سعد الحريري استقالة حكومته، على الرغم من الضغوط التي مارسها حزب الله وحركة أمل، لا بل من توسلهما بقاءه. آخرون رأوا في الانتفاضة الشعبية مؤامرة من الخارج وسببا، لا نتيجة، للأزمة الاقتصادية، فقرروا المواجهة. سعوا إلى إخافة المتظاهرين بأعمال عنف منظمة ومدروسة بدقة. وراحوا يبحثون عن وسيلة للاحتواء. قرروا أن يحكموا لوحدهم، ولكن من دون أن يسفروا عن وجوههم. بعد التواصل مع عدة «وجوه من السنّة»، وقع الاختيار على حسان دياب لتأليف حكومة الواجهة، ممن يسمون «تكنوقراط».

شاركت الحركة منذ اللحظة الأولى في التظاهرات، وكانت سباقة في إقامة جلسات شرح وحوار مع المتظاهرين في “الخيمة” التي أنشأتها في موقف اللعازارية. وقمنا منذ اليوم الأول، قبل اكتشاف أركان السلطة لمواهب حسان دياب، بالاتصال بعدد كبير من الوجوه السياسية والإدارية المعترف بكفاءتها وبرمزيتها الجامعة، بمعزل عن ارتباطاتها السابقة وعن خلافاتنا معهم، لتشكيل فريق حكم بديل يتولى لملمة الأوضاع قبل تفاقمها وللالتزام بالمشروع الإنقاذي للحركة. منذ الأيام الأولى، تبين حجم الاختراقات في التظاهرات، قبل أن يعمد حزب الله إلى مطالبة مناصريه الانسحاب من الساحات وقبل تنظيم عمليات القمع المدروسة من قبل “ابناء الخندق” كما أسموا، والأجهزة الأمنية، على السواء. وكان للاختراق أوجه واضحة: من قبل الاحتفاليين الذيت أتوا بالأهازيج وبالشاشات وبمكبرات الصوت المحمولة والثابتة وبالأراكيل، ومن قبل الشتامين المحترفين، ومن قبل المكلفين بمهام قمع تبلور أي مشروع سياسي مؤطر. بمرارة نقول إن الكثيرين، من حيث لا يدرون، ساهموا في إنجاح عمليات الاختراق، إن بانجرارهم إلى الاحتفاليات أو الشتم أو رفض بروز أي قيادة سياسية. غلب على التظاهرات تعبير الغضب والمطالبة بالعودة إلى ما كان، من قروض مدعومة، وتثبيت سعر الصرف، و”تحرير الودائع المحتجزة” وغيرها، أو المطالبة بشعارات عامة كالمحاسبة ومحاربة الفساد واستقلالية القضاء، دون التيقن بأن المطالبة تضفي شرعية على من تجري مطالبته، وأن ما سقط ليس الجهاز المالي بل المنظومة الاجتماعية السلطوية، وأن المواجهة لا تكون بالأحكام الأخلاقية ولا بالوصفات التقنية، ولا بالخبراء المستقلين، بل بالسياسة، اي بمشروع لدولة واقتصاد ولمجتمع.

اذا بدنا نحط الشعارات والتمنيات على جنب، ونتطلّع للموضوع من باب الواقعية السياسية:

  • اول شي، الموضوع بأفضل حالاتو بياخد سنين طويلة. فما نفكر انو اذا بلش المشروع هلق واذا نجح رح نقدر بالمستقبل القريب نجيب مصاري عالبلد ندير فين الأزمة
  • جزء كبير من المصاري “المنهوبة” عمليا منهوبة بشكل اخلاقياً غلط بس قانونياً ما عليه شي!
  • ما لازم نتخيل انو هالمصاري موجودة، مكدّسة مليارات الدولارات ببيوت الزعما. صحيح انو في جزء كبير منن موجود بحساباتن (وحسابات شركن، عائلاتن، واصدقاءن او شركاءن) برا، بس اكترية هالمصاري انصرفت ل”جماعتن” يعني للشعب
  • هنن يلي بيعيّنوا مجلس النواب، ومجلس النواب يلي بيعيّن القضاة. فعمليا ما في مجلس نواب وما في قضاء، في زعما ستة ماسكين كل شي. المطالبة بمحاسبتن هي مطالبة الحرامي بالحكم على حالو وبإدخال نفسو للسجن
  • حتى اذا قاضي قرر يكون نزيه وبلّش يحاسب حدا منن، بكل بساطة اذا كان في خطر حقيقي علين بيغتالوا
  • موازين القوى مش لمصلحتنا. اغلبية الشعب، ومن ضمنن مقدرات عسكرية كبيرة، معن. انو نفكر نكبن بالحبس او نعلّقلن مشانقن بيتطلّب المقدرة العسكرية انو نروح نسحبن من بيوتن، وهيدا شي مش موجود.

وبركي الأهم انو مشكلتنا مش مشكلة اشخاص قدما هي مشكلة منظومة. بمعنى انو اذا حطينا فلان بالسجن واجى محلو علتان، ما رح يتحسن الوضع: المنظومة الطائفية عاجزة تدير الأزمة والبلد. اذا كنا مقتنعين بعجز المنظومة وضرورة بناء دولة مدنية، مننركّز جهودنا على فرض هالانتقال. خلينا كمان نلاحظ انو فرض هالانتقال، يلي هو اصلا صعب، بيصير مستحيل اذا كان هدفنا نرجع ناخد المصاري يلي سرقوها ونحطّن بالحبس – بيحرقوا البلد وما بيسمحوا هالشي يصير.

بكل بلاد العالم في فساد. بفرنسا واميركا واليابان في فساد. في فساد بس في دولة، في اقتصاد، خيّي في طرقات وفي كهربا. شي مرة سالتوا حالكن ليه بلبنان ما في شي؟ يعني، هاو الزعما الستة، يسرقوا، بس انو يعملوا شي مظبوط (if only كرمال يقدروا يضلّوا يسرقوا). ليه بلبنان ما عملوا اقتصاد طبيعي؟

الجواب: لانو ما بيقدروا. مش لانن زعران ولا لأنن حمير. لأنو دورن الطائفي بيمنعن يعملوا اقتصاد شغال. لانو اقتصاد منتج يعني قرارات سياسية-اقتصادية، وقرارات يعني في قطاعات او مصالح او ناس رح تستفيد وغيرن رح تنضرّ. ولما الزعيم الطائفي يلي متكل على دعم 80-90% من طائفتو الو بياخد اي قرار، بيزعّل فبيخسر ناس من طائفتو، وبيفرّح بس ما بيربح ناس من غير طوايف. هنن اسرى ادوارن. مشان هيك ما بيقدروا يبنوا اقتصاد منتج. ومشان هيك ما عندنا لا طرقات ولا كهربا.

مشان هيك مشكلتنا اول شي مش بالاشخاص اذا نضاف او فاسدين، مشكلتنا انو المنظومة عاجزة تدير البلد. ومشان هيك في شي اهم بكتير من محاربة الفساد. بكلمات تانية، حتى اذا حبسنا كل الفاسدين، يلي رح يجوا محلن، حتى اذا كانوا نضاف، ما رح يقدروا يديروا الازمة ولا البلد. نحن بحاجة لتركيبة سياسية-اجتماعية جديدة، مع ادوار جديدة للنخب ومع تغيير حتى بالعلاقات بين الناس. نحن بحاجة لمشروع سياسي بيعالج هيدي القضية من جزورا، لمشروع بناء دولة مدنية.

ليست سوريا نظاما بل هي مجتمع، واختزال “الموقف” من سوريا بين من يؤيد “النظام” ومن يعارضه، علما أن من يسمَّون زعماء في لبنان تنقلوا مرارا وتكرارا من وضوح الولاء إلى وضوح العداء، لكنهم لم ينظروا يوما إلى سوريا إلا بوصفها نظاما، يستعينون به إن قوي لصالح حساباتهم الصغيرة، ويناهضونه إذا ضعف لحساباتهم الصغيرة أيضا، فهم كانوا وما زالوا عاجزين عن تصور أن هناك مجالا ومجتمعا واقعيا، في لبنان أصلا فكيف في سوريا، وأن السلطة، بسوء وبحسن تدبيرها، متشكلة في المجتمع وتؤثر فيه.

لم تكن العلاقة بين الجمهوريتين اللبنانية والسورية سوية في يوم من الأيام، منذ استقلالهما عن المنتدب-المستعمر الفرنسي. وقد سارتا في اتجاهين مفترقين منذ ذلك الحين، على الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، نتيجة اختلاف بنيتهما الاجتماعية (انتقال ديمغرافي متقدم في لبنان ومتأخر في سوريا، توسع للتعليم، ولا سيما تعليم النساء، في لبنان مقابل سوريا، واختلاف ميزان سكان المدن الريف) والاقتصادية (غلبة التجارة والمصارف في لبنان مقابل غلبة الزراعة والحرف في سوريا) وبنية مجالهما (بين تركز واضح حول بيروت، وتنافس أقطاب مدينية عدة، أبرزها دمشق وحلب) ومواقع السلطة في كل منهما (وزن البنى العشائرية في سوريا مقابل اقتدار البنى الطائفية والدينية في لبنان). حصلت القطيعة وفصل العملة والوحدة الجمركية منذ مطلع الخمسينيات، إذ فضلت البورجوازية اللبنانية اعتماد سياسية ليبرالية متشددة وتعزيز قيمة النقد والاكتفاء بالحد الأدنى من دور للدولة، مطمئنة إلى هيمنتها، ولو خسرت السوق السورية، بينما أصرت البورجوازية السورية على سياسات حمائية لتعزيز الزراعة والصناعة، ووسعت دور الدولة لاستيعاب مجتمع أقل تماسكا. وازداد هذا الافتراق حدة مع سلسلة الانقلابات في سوريا وموجات التأميم. انعكس ذلك تراجعا مضطردا للروابط التجارية بينهما وسعيا حثيثا من قبل سوريا إلى الاستغناء عن موقعي بيروت وطرابلس القطبيين، فضمرت مبادلاتهما السلعية والخدمية بينما ارتفعت وتائر انتقال العمالة والرساميل والتهريب على أنواعه.

استغلت سوريا موقعها الجغرافي الذي بات مطوِّقا للبنان منذ احتلال الصهاينة لفلسطين، ومارست ضغوطا عليه في مراحل عدة، عبر إغلاق الحدود تكرارا، ورفضت قيام علاقات دبلوماسية بين الدولتين، تحت مزاعم الأخوة و”سلخ لبنان عن سوريا” و”الشعب الواحد في دولتين”. تدخلت في الحرب الأهلية اللبنانية خوفا من مفاعيلها عليها، مرة لصد مآرب ياسر عرفات، الفعلية أو المنسوبة، ومن جاراه من اللبنانيين، ومرة لصد مآرب إسرائيل، المعلنة جهارا، ومن جاراها من اللبنانيين. وتوصلت إلى تثبيت هيمنتها عليه، سعيا لتحسين موقعها الإقليمي، من خلال تحيّن ظرف إقليمي ودولي تمثل بما سمي اتفاق الطائف، عقب اجتياح صدام حسين المغامر للكويت، وفي ظل بوادر انهيار الاتحاد السوفياتي الوشيك. فمارست هيمنة سياسية وعسكرية مباشرة على لبنان طوال 30 سنة، نصفها تحيّنا، بين عامي 1976 و1990، ونصفها بتوافق إقليمي ودولي كاملين، بين عامي 1990 و2005.

أدى التداخل الحميم بين أركان النظام السوري وزملائهم اللبنانيين إلى تلاقح مرضي: عمل السوريون منهجيا في لبنان على التصحير المجتمعي الذي مارسته أجهزتهم في سوريا، فحولوا النقابات والنظام الجامعي والأحزاب إلى مسخ، ووزعوا المهام والمغانم بين وكلائهم وشركائهم اللبنانيين، الاقتصاد لهذا والإدارة لذاك والمقاومة لذلك إلخ،  لجعل كل منهم مدينا لهم وفي تنافس مع الأخرين، ولجعلهم جميعا بحاجة دائمة لدور الحكم الذي تولته أجهزتهم. في المقابل، استساغ القياديون السياسيون والأمنيون ما رعوه في لبنان، واندفع اللبنانيون إلى إغداق المنافع إليهم، فراحت تلك القيادات تستنسخ “النموذج اللبناني” في سوريا، من أمثال سوليدير والمناطق الحرة وعقود الخلوي والمصارف… وما أن انتقل الحكم من حافظ إلى بشار الأسد حتى انطلقت في سوريا، بتشجيع دولي لافت، عملية إغراء للأغنياء الجدد، ولا سيما من أبناء المسؤولين الأمنيين وأقربائهم، مشفوعة بحملة من النيو-ليبرالية القصيرة النظر، أدت إلى تفكيك التحالف الطبقي الذي كانت السلطة قائمة عليه، وإلى زعزعة الآليات التي كانت تسمح لها، عبر دعم الأرياف، باستيعاب الأعداد المتزايدة من الريفيين في أجهزتها. فحصلت موجة هائلة من النزوح من الريف، زادت حجمها الظروف المناخية، إلى ضواحي مدن كانت تشهد في الوقت نفسه فورة في أسعار العقارات، فتشكلت العشوائيات التي تحولت، بعد حين، إلى حاضنة للثورة التي فاجأت الحكم في مطلع سنة 2012.

تفكك البنيان السياسي والمؤسسي والاجتماعي الذي جهدت السلطات المتعاقبة في سوريا، تحت عناوين مختلفة ومتباينة، وطول ستين سنة، لإنشائه، تفكك في ظل رهانات وارتهانات مجرمة وغافلة أقرب ما تكون إلى استعادة لما شهده لبنان، قبل سوريا بأربعين سنة. لن تعود سوريا كما كانت أو كما صِوّرت، ولا لبنان يعود كما كان وكما صوُّر. انتهت الأساطير. الأسبقية في المعاناة والحاجة الوظيفية الحيوية ترسمان للبنان، متى تشكل كدولة واثقة من شرعيتها، أن يسهم في إعادة تشكيل المجال الإقليمي، وإلا الاستباحة والتبدد.

في ظل المراهنات القاصرة، استقر في لبنان ما يقارب مليون ونصف مليون سوري، وجلهم من الريف الممزق. لم يستقبلهم اللبنانيون عن وعي سياسي أو عن إحساس إنساني، بل بنتيجة رهانات من مع بشار الأسد أنه يربح غدا، ومن ضد بشار أنه يسقط غدا، وكلا الفريقين يجتمعان على الاستفادة من عمالة السوريين لأنها أرخص عليهم، سواء نادوا بإعادتهم الآمنة أو أصروا على عودتهم الطوعية، وسواء أسموهم نازحين أو لاجئين.

المسألة أخطر من ذلك. لهفة “المجتمع الدولي” لمساعدة “اللاجئين السوريين” و”البيئات المضيفة” لا تخفي واقع أن المجتمع في لبنان قد تغير، ولادات السوريين باتت تفوق ولادات اللبنانيين، وقد مضت عشر سنوات على قدومهم إلى لبنان، والأطر الاجتماعية والسياسية ووالتعليمية التي يعيشون فيها لا تتصل بأي مشروع واع ومسؤول، بل تتركهم فريسة لكل أشكال التآمر الخارجي، وتغذي العنصرية التي تطبع مجتمعاتنا اتجاه القريب الأقرب، فكيف اتجاه اللاجئ النازح، والعواطف الإنسانية المزعومة للمجتمع الدولي، الذي غطى تدمير مجتمعات بأكملها، من فلسطين إلى العراق فسوريا ولبنان ايضا، يكون ساذجا، بأقل تقدير، من يركن إليها.

انتهى زمن العنجهية السورية كما انتهى زمن التشاطر اللبناني، وكلاهما كان وهما، إيهاما من جهة وتوهما من أخرى. المنطقة في طور التفكك وإعادة التشكل، والانعزال عن مفاعيلهما ضرب من العمى.

تمزق المجال السوري داخليا وتحول إلى ساحة صراع دولي، فقد بات كل من المجتمعين مشوها في توازناته الداخلية. من هنا تصبح عمليتا إعادة الإعمار في سوريا وتخطي الإفلاس في لبنان بحاجة لإدارة التشوهات الاجتماعية والاقتصادية في كل منهما، لا تجاهلا ولا تماثلا، بل بشكل تكاملي، لتقوية التماسك الداخلي لكل منهما أولا، ولتعزيز وزنهما السياسي والتجاري بالمطلق واتجاه الخارج. وهذا لا يكون إلا على أساس قيام دولة فعلية، مدنية ومقتدرة في لبنان تشكل رافعة لمشروع مماثل ومتكامل في سوريا.

باتت مسألة سلاح حزب الله أشد المواضيع خلافية في لبنان. لذا لا بد من الوضوح اتجاهها.

يعتقد البعض أن الوضوح يكون إما بتأييد “سلاح المقاومة” كحالة وجودية لا بل مقدسة، وإما برفض ” سلاح الحزب” والقول بنزعه، كحالة شاذة لا بل شيطانية، لا يرون الوضوح إلا بجواب من كلمة واحدة: مع أو ضد. نقول إن موقفين من هذا النوع واضحان من دون شك، إنما ما يوضحانه هو بالتحديد غياب الفكر والفعل السياسيين. فتأييد بقاء سلاح حزب الله على وضعه والدعوة لنزعه لا يقدمان أي عنصر يمكنه أن يؤثر في الانقسام الحاصل، داخليا أولا ومن ثم خارجيا، وينتهيان إلى تأبيد حالة العجز والفشل التي باتت تهدد المجتمع في بقائه.

الوضوح النافع يستدعي جهدا أكبر، للتمكن أولا من ربط الأحداث والظواهر، وظاهرة سلاح حزب الله تحديدا، بظروف حصولها واستمرارها، ومن ثم ربط الظروف بشروط تشكلها وأسبابه، كي تكون السياسة فعلا لتخطي تلك الشروط والأسباب، ولا تبقى انفعالا وأسرا.

ليست المسألة مسألة سلاح أولا، فالسلاح بضاعة تصنع أو تشترى، بل هي في التنظيم المسلح، حزب الله، في الوقت نفسه، حركة مقاومة سياسية وعسكرية، وحزب طائفي وديني.

المقاومة رد على هزيمة تقبلتها السلطة القائمة في المجتمع، وهي بالتالي، حكما، مقاومة ضد العدو وإنما هي، بالتلازم، مشروع سياسي بديل عن السلطة التي ارتضت الهزيمة. وقد شهد لبنان سلسلة مفجعة من الهزائم، كانت محطتها الفاصلة اجتياح سنة 1982، وقد تقبلت السلطة هذه الهزيمة العسكرية، لا بل رحب بعض أركانها بها بينما تكيّف معها أركانها الآخرون. وما كان الأمر ليكون كذلك لو لم تسبق الهزيمة العسكرية وتمهد لتقبلها هزيمة سياسية، بدأت تتشكل بعد الهزيمة العربية الكاسحة في سنة 1967، وترجمت، عبر رهانات وارتهانات متعددة من معظم أركان السلطة، ومن منظمة التحرير الفلسطينية أيضا، في الحرب الأهلية. وهذا ما يضاعف أهمية الوجه السياسي للمقاومة.

أما الحزب الطائفي فهو الشكل التنظيمي الذي تقوم عليه السلطة في لبنان، السلطة نفسها التي مهّدت للهزيمة أو تكيّفت معها، وهو الشكل الذي تكرست الهزيمة السياسية عبره، خلال الحرب الأهلية، فبات المجتمع مجردا من حماية الدولة، واستعيض عنها بوصاية خارجية فرضت بترتيب دولي-إقليمي، بين سنتي 1990 و2005، ثم، بعد نقض هذا الترتيب خارجيا،  بسلسلة من الترتيبات الخارجية (مؤتمر الدوحة ومؤتمر سيدر مثالا)  والداخلية (حكومات “الوحدة الوطنية” ومراكمة الأعراف التي تثبت حقوق النقض المتبادلة) آلت إلى الانهيار الكامل سنة 2019 وإلى تدحرج مفاعيله في ظل عجز كامل.

قضى الترتيب المعتمد خلال مرحلة الوصاية الخارجية بفسح المجال لعمل حزب الله العسكري (بعد مواجهات داخلية مديدة ومريرة، وبنتيجة حسابات إقليمية دقيقة بين سوريا وإيران في ظل الحرب العراقية والإيرانية والمصاعب السورية الداخلية) إنما مقابل فصله عن الإدارة السياسية للبلد فصلا يكاد يكون كليا (هانوي وهونغ كونغ شعارا)، ما سمح بإخفاء التناقض الجوهري في طبيعة الحزب. حتى تحرير الجنوب في سنة 2000، وهو إنجاز غير مسبوق على صعيد المنطقة كلها، لم ينتج أي حصيلة سياسية، لا بل تزامن مع تعزيز قبضة السلطة القائمة عبر الانتخابات التي رتبتها “الوصاية”.

لكن هذه الصيغة لم تعد ممكنة بعد إسقاط ترتيب الوصاية، فسارع حزب الله، منذ الاتفاق الرباعي في انتخابات سنة 2005، إلى الانضمام للمنظومة الحاكمة، ركنا أساسيا فيها. أتت حرب سنة 2006 لضربه وعزله، لكنه أصر على انخراطه في السلطة على الرغم من الإنجاز المدوي الذي حققه في صدها. ولما انفجرت الحرب على الساحة السورية وتأججت الصراعات الإقليمية، راح، هو هذه المرة، يقيم فصلا بين انخراطه في الحرب السورية وفي الصراع الإقليمي من جهة، والتزامه بالمنظومة السلطوية اللبنانية، من جهة أخرى. إلى أن أتى الانهيار الاقتصادي والمالي، فانتقل إلى الخط الأمامي لترميم النظام الفاشل والعاجز.

تحول التناقض التأسيسي لحزب الله إلى افتراق عملي: إنجازات عسكرية مقاومة أظهرت أن الشعب اللبناني والشعوب العربية تزخر بالطاقات الفنية والتنظيمية على نقيض ما رسخه تاريخ أنظمة الهزيمة من إحباط ومن استسلام وجوديين، وانهزام سياسي جعل حزب الله أسير سجنين: النظام اللبناني الساقط، النقيض للدولة والساعي للاستغناء عنها، وحسابات دول إقليمية تسعى للتشكل كقوى مستقلة على الساحة الدولية في ظل المتغيرات التي تشهدها.

مسألة سلاح حزب الله، عبر نشأتها ومراحل تطورها، وصولا إلى مفصل اليوم بخطورته، تطرح إشكالية أساسية: علاقة السلطة بالمجتمع، أي موقع الدولة، حاجة للمجتمع وشرعية ضمنه. لا الترتيبات الإقليمية ولا التسويات الداخلية باتت تسمح بإخفاء الخيار أو تأجيله، بين أن يكون للبنان دولة تحمي مجتمعه في الداخل، وتتعامل مع دول الخارج كدولة، ومن دون دولة، لا خارج ولا داخل بل تداخل واستباحة وارتهانات. ولم تعد إشاحة النظر عن ضرورة حسم هذا الخيار تنفع، سواء بإنكار الخطر على المجتمع من غياب دولة تحميه بشد العصب اتجاه تآمر الخرج، أو بصد الانتقادات التي تصيبه بوصفه شريكا في النظام الساقط بالتورية حينا، والاختباء خلف حكومات الواجهة، وبحمل راية محاربة الفساد حينا، وباتهام المنتقدين بتهم شتى حينا آخر.

كما باقي الأحزاب في لبنان، ووفق منطق علاقات السلطة الطائفية، اكتسب حزب الله، انطلاقا من تنظيمه الأساسي، شرعيته الشعبية الواسعة ضمن الطائفة الشيعية، من تأييد الناس له لمواجهته خطرا وتهديدا حقيقيين، إنما الخطر والتهديد هنا لم يأتيا من الداخل، بل كانا خارجيين بالمطلق، مصدرهما العدو الإسرائيلي، من دون مواجهة أطراف داخلية، أقله منذ رسو الترتيب الاقليمي. وقد أحرز في مواجهته نجاحات باهرة. وهو بهذا يختلف عن الأحزاب الطائفية الأخرى لسببين: السبب الأول أن تلك الأحزاب واجهت “أخطارا” مستشعرة داخلية أو ممتزجة بأخطار داخلية، كما حصل مع المواجهة التي قادتها ميليشيات “الجبهة اللبنانية” ضد “الغرباء”، وإنما أيضا ضد “حلفاء” الغرباء من أبناء البلد. والسبب الثاني أن المواجهات التي خاضها أحرزت نجاحات باهرة، من دون استعانة بمقاتلين من أطراف أخرى، على خلاف الأحزاب الطائفية الأخرى.

ليس حزب الله بالتالي الكلام جسما غريبا عن المجتمع اللبناني، مهما شدد على تمايزه السلوكي، لا بل هو يمثل حالة قصوى لآليات التجييش التي تكمن في المجتمع، وشعارات “شيعة شيعة” دلالة بشعة عن ذلك وامتهان لتضحيات المناضلين. ونحن نعتبر أن الكفاءة القتالية العالية، وليس السلاح، التي راكمها لبنانيون ولبنانيات في المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، تشكل رصيدا كبيرا للبنان. آخذين ما سبق بالإضافة الى موجبات العداء للمشروع الصهيوني، يصبح لزاما أن يتمحور النقاش حول انتقال المقاومة، مع الحفاظ على فعاليتها، من مقاومة “طائفة” ومن عمل عسكري، إلى منظومة وطنية، عسكرية طبعاً، وإنما منخرطة ضمن مشروع سياسي يرسي شرعية دولة مقتدرة، فتتوزع أعباؤها على الجميع كما يعود نفعها على الجميع، وتصيب الأسس التي أسست للهزيمة وللانهزام، بدل أن تكون أسيرة دور في سلطة ساقطة أو على هامشها أو في الدفاع عنها. لا يجوز الاستمرار في أسر يحول الوسيلة إلى غاية.

حقيقتان لا تنفصلان: كل عمل عسكري يكون خاضعاً للسلطة السياسية للدولة. والعداء للمشروع الصهيوني أساسي لتكريس شرعية الدولة. أشكال تأدية العمل العسكري، على أهميتها وعلى تنوعها، تبقى خيارت إجرائية.

شُنّت حملة هائلة ضد فقرة مجتزأة من شرح كان الأمين العام يقدمه عن أهمية القرار السياسي الذي اخذته اقلية من المواطنين لمواجهة الهزيمة عقب الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، وعن أهمية حمل من يقاوم الهزيمة مشروعا جامعا بديلا عن النظام الذي ارتضى الهزيمة، أي ائتلاف الطوائف برهاناتها وارتهاناتها، بدل الانخراط في النظام الطائفي نفسه وذلك بسبب التزام حزب الله بعقيدة دينية طائفية. ربما كانت التعابير المستخدمة غير مناسبة، فلم نتردد في الاعتذار عن الإساءة ممن شعر بها بين ابناء مجتمعنا، لكن التوضيح لم يغير من المواقف شيئا، لأن النظام كان يواجه بإصرار لإطالة أمده على حساب المجتمع.

أمام حزب الله خيار حاسم وإن كان صعبا، لأنه الطرف الأقوى في لبنان، وقوته شعبية قبل أن تكون عسكرية، ولأنه الأكثر عرضة للتهديد الخارجي. الخيار بين أن يبقى أسير البنيان الطائفي، ويتحمل تبعات تدميره للمجتمع، وأسير المحاور الإقليمية، في تصادمها وفي تسوياتها، وبين أن ينخرط، عبر التفاوض، في انتقال سلمي للسلطة يرسي شرعية دولة، الدولة الفعلية الوحيدة الممكنة في لبنان، أي الدولة المدنية، بما يستتبع وثوق شرعيتها من مترتبات، ومنها العداء للمشروع الصهيوني.

السلطة في لبنان، في واقعها، فدرالية، لا بل كونفدرالية، أقله منذ سنة 2005، ولكنها سلطة من دون دولة، ما خلا الشكليات. والكونفدراليات ليست، أو بالأحرى لم تعد، موجودة في الواقع اليوم (ما عدا الاتجاه المتردد لتحول “الاتحاد الأوروبي” إلى صيغة كونفدرالية) على خلاف الصيغ الفدرالية القائمة في دول عديدة. يجدر التنبه إلى أن كلمة “ميثاقية” هي الترجمة الحرفية لكلمتي فدرالية وكونفدرالية ، فأصلهما اللاتيني (fœdus, fœderis) يعني الميثاق، أي اتفاق كيانات قائمة بذاتها على إقامة صيغة سياسية مشتركة. والفرق بين الفدرالية والكونفدرالية أن “مكونات” الأولى لا تتمتع بالسيادة ضمن الصيغة السياسية المشتركة، بل تستمد مسؤولياتها وصلاحياتها من دستور الدولة، بينما تتمتع “مكونات” الثانية بالسيادة. و”المكونات الطائفية اللبنانية” تجاهر، بدءا من تسميتها هذه، بأسبقيتها على الصيغة السياسية المشتركة، وهي لا تتورع حتى عن ادعاء سيادتها، لما تشعر أن في ذلك منفعة، لا سيما في تعاملها المتفلت مع الخارج.

فما معنى المطالبة بالفدرالية في لبنان إذاً؟

يسود التباس مقصود بين الدعوات للفدرالية والتذكير بما ورد في “وثيقة الوفاق الوطني” المسماة “اتفاق الطائف”، حول “اﻟﻼﻣرﻛزﯾﺔ اﻹدارﯾﺔ”.

يجدر التذكير أولا أن لا شيء من هذا القبيل وارداً في نص الدستور، وهو النص الشرعي، شكليا على الأقل، خلافا لوثيقة الوفاق الوطني التي لا تعدو كونها مرجعا سياسيا استوحتها التعديلات الدستورية التي أجريت سنة 1989، فأسقط ذكر اللامركزية الإدارية.

عودة إلى “وثيقة الوفاق الوطني”، يتناول النص مسألة اﻟﻼﻣرﻛزﯾﺔ اﻹدارﯾﺔ في خمس فقرات. تؤكد الأولى أن “اﻟدوﻟﺔ اﻟﻠﺑﻧﺎﻧﯾﺔ دوﻟﺔ واﺣدة ﻣوﺣدة ذات ﺳﻠطﺔ ﻣرﻛزﯾﺔ ﻗوﯾة”، نافية أية فكرة عن الفدرالية. تتناول الثانية ما يعرف باللاحصرية، عبر “ﺗﻣﺛﯾـل ﺟﻣﯾـﻊ إدارات اﻟدوﻟـﺔ ﻓـﻲ اﻟﻣﻧـﺎطق اﻹدارﯾـﺔ ﻋﻠـﻰ أﻋﻠـﻰ ﻣﺳـﺗوى ﻣﻣﻛن ﺗﺳﻬﯾﻼً ﻟﺧدﻣﺔ اﻟﻣواطﻧﯾن”، علما أن انتشار استخدام الإنترنت قد تخطى هذه المسألة من أساسها. تتناول الثالثة “اﻟﺗﻘﺳﯾم اﻹداري”، إنما ليس من ناحية تقريبه من أشكال التوزع المجالي الفعلي لأماكن السكن والعمل وتعزيزا للترابط الحياتي ضمن كل منطقة إدارية، بل للتخفيف من وقع عمليات التهجير القسري التي ولدتها الحرب الأهلية، أي “ﺑﻣﺎ ﯾؤﻣن اﻻﻧﺻﻬﺎر اﻟوطﻧﻲ وﺿﻣن اﻟﺣﻔﺎظ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﯾش اﻟﻣﺷﺗرك ووﺣدة اﻷرض واﻟﺷﻌب واﻟﻣؤﺳﺳﺎت”. الفقرة الرابعة هي التي تقارب أخيرا الموضوع فتقول بـ”اﻋﺗﻣﺎد اﻟﻼﻣرﻛزﯾﺔ اﻹدارﯾﺔ اﻟﻣوﺳﻌﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﺳـﺗوى اﻟوﺣدات اﻹدارﯾﺔ اﻟﺻﻐرى (اﻟﻘﺿﺎء وﻣﺎ دون) ﻋــن طرﯾق اﻧﺗﺧﺎب ﻣﺟﻠس ﻟﻛل ﻗﺿﺎء ﯾرﺋﺳﻪ اﻟﻘﺎﺋﻣﻘﺎم، ﺗﺄﻣﯾﻧﺎً ﻟﻠﻣﺷﺎرﻛﺔ اﻟﻣﺣﻠﯾﺔ”، حاصرة دور المجلس بمعاونة القائمقام وبتعزيز علاقة الإدارة المحلية بالسكان، وهذا أيضا لا يمت إلى الفدرالية بصلة. أما الفقرة الخامسة، فتوصي بـ “اعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحدة والاتحادات البلدية بالإمكانات المالية اللازمة”. وقد وضعت هذه الخطة بالفعل في سنة 2004، تحت اسم “المخطط الشامل لترتيب الأراضي في لبنان” (sdatl) وأقرت في مجلس الوزراء سنة 2008، لكنها لم تحترم من قبل مجلس الوزراء نفسه ولم تطبق من قبل الإدارات المعنية. أما تعزيز موارد البلديات فذكره يؤكد عدم استحداث أية هيئة غير البلديات واتحاداتها تتمتع باستقلالية مالية.

الذين يطرحون الفدرالية، الجديون منهم على الأقل، ليس همهم تسهيل المعاملات الإدارية بتفريع الإدارات وتوسيع الخدمات الإلكترونية، ولا هو إشراك منتخَبين في الأقضية في تأدية مهام القائمقام، ولا هو حتى وضع تقسيم إداري يوائم الوحدات الإدارية مع التشكل الواقعي للمجال، ولا هو أخيرا إقرار شكلي للفدرالية السياسية للطوائف القائمة في الممارسة والأعراف من دون منة من أحد. بعد إشاحة هذه الالتباسات والتوريات كلها، نصل إلى الطرح الجدي، بدوافعه وبنتائجه، وهو التقسيم السياسي والمالي، أو أقله الكونفدرالية السياسية والمالية.

لماذا عادت هذه الأطروحات تتردد الآن؟ وما الذي يقف وراءها؟ مشروعان سياسيان؟ 

نقول أولا إن عودة هذه الأطروحات لا تنفصل عن أمرين متزامنين: الانهيار المالي وارتفاع منسوب الصراعات الإقليمية، والذين يقدمونها يعتبرون أن الانهيار المالي ناتج عن تصاعد الصراعات الإقليمية، ويزعمون بالتالي أن الخروج من الصراعات الإقليمية (تحت عنوان “الحياد”) أو الالتزام بالـ”محور” الغربي-الخليجي كفيلان بعودة “الازدهار”. في المقابل، يعتبر معارضو هذه الأطروحات أن الـ”محور” الغربي-الخليجي يستهدفهم خصوصا ويستهدف لبنان عموما، وهذا الاستهداف سبب أساسي للأزمة المالية، ويخلصون بالتالي إلى زعم أن مواجهته أي مقاومته، واجب مفروض. اللافت أن كلا الطرفين يربط الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي بالخارج، متغاضيا عن أية مسؤولية للنظام السياسي القائم، فينتهي الفريق الأول، في سياق تغييب أي دور لدولة فعلية في لبنان، إلى القول بالانفصال بينما يصر الفريق الثاني على ترميم النظام الطائفي بأي ثمن. ليست المواجهة بالتالي بين مشروعين سياسيين متقابلين لدولة، بين بين لا مشروعين.

نحن، في مواطنون ومواطنات”، نختلف مع منطلقات كلا الفريقين: الانهيار المالي ليس نتاج الصراعات الإقليمية والدولية، وإن كانت قد فاقمته، ولا هو يعالج بالعلاقات الإقليمية والدولية، وإن كانت قد تسهل العلاح أو تصعبه، الانهيار نتاج النظام السياسي المجتمعي الذي استمر منذ الحرب الأهلية وانتهت صلاحيته، وبالتالي تخطيه يمر ببناء دولة مكتملة الشرعية، ولا يمر أبدا بترميم النظام الساقط ولا بتجزئته واستنساخه على مقاسات أصغر.

أما للذين ما زالوا تائهين في الشعارات التي تغلف الطرح السياسي-المالي الأساس، فنقول:

  • إن اللا-مركزية والفدرالية ليستا سوى شكلين بين أشكال متدرجة لتنظيم عمل الدولة، متى كان هناك دولة، وهما لا يعفيان من إرساء شرعية الدولة أولا في اي حال من الأحوال.
  • إن أي تقسيم مناطقي للمسؤوليات بين هيئات مناطقية وأخرى مركزية لا معنى له إن لم يستند إلى التوزع الفعلي للسكان وللأنشطة الاقتصادية، وبالتالي للموارد المالية وللحاجات الخدماتية في بلد لم يحصل فيه تعداد للمقيمين منذ سنة 1932، لا  علاقة للمسجلين بالسكّان الفعليين، وقد باتت المجالس البلدية مجرّد جمعية تضمّ وجهاء البلدة الذي ، يمثّلون ملّاكي الأراضي وحلقة وصل بزعماء الطوائف. ارتفع عدد البلديات بشكل مطرد إلى 1100 بلدية، غالبيتها لقرى صغيرة وبقدرات تشغيلية هزيلة، ما خلا البلديات المدينية الكبيرة التي تسيطر عليها السلطة السياسية مباشرة.
  • يتوجب، سواء مع اللا-مركزية والفدرالية أو من دونهما إعادة صياغة التقسيمات الإدارية لتكون البلديات قادرة على تحمّل مسؤوليّاتها بشكل فعّال والتفاوض مع القطاع الخاص والبلديات المجاورة والإدارة المركزية.وهو ما سيقلّل عددها بشكل كبير. كما يتوجب إعادة صياغة صفتي المقيم والمسجل بحيث يكون المستفيدون من الخدمات أو الذين يعانون منها، والذين يدفعون الرسوم، هم من يعيّنون أو ينتخبون المولجين بالإدارة، وذلك من خلال التعداد المنتظم للسكّان.
  • إن الانهيار المالي والاقتصادي يرتب ضرورة القيام بتوزيع عادل وهادف للخسائر، ومواجهة الإرث العين للنظام الساقط، من خلال ترتيبات نقدية ومالية وقطاعية دقيقة وضاغطة، ولبنان ليس في وضع يسمح ببعثرة موارده القليلة عبر استسهال تجزئة مجاله وتفتيت قراره السياسي.

تفجير المرفأ جريمة كبرى، وهي تفضح سقوط نظام السلطة بمجمل أجهزتها، لناحية تحملها أبسط مسؤولياتها الإجرائية، وإنما سقوط شرعيتها.

يعرف الجميع أن التحقيقات لن تؤدي إلى نتيجة، وقد بينت بمجرياتها المرتبكة وبالحجج التي قدمت لصدها، أنها لا تحاكي حجم الجريمة. لا ثقة بأركان سلطة الأمر الواقع للتحقيق بالمسؤوليّات الفعلية، ولا بمعارضيهم من داخل المنظومة الذين يدعون لـ«تحقيق دولي» وهمهم فتح الطريق واسعة للتدخّلات الخارجية لا ثقة بهم جميعا لأي شيء.

إزاحة المحقق العدلي الذي عينته الحكومة، وبمعزل عن كيفية إدارته لمهمته، بحجة أن منزله قد تضرر من الانفجار، وبحجة حصانات موهومة للسياسيين الذين ائتلفوا فور استدعائهم أو اتهامهم، ينم عن وقاحة غير مسبوقة من قبل سلطة لا تتورع، لحماية أركانها، عن ازدراء مأساة هائلة أصابت مئات الألوف وعن تهديم ما تبقى من أوهام لدى البعض عن جدوى أية مقاربة شكلية حقوقية في ظل بقاء هكذا سلطة. سواء كان التفجير عرضيا أو مقصودا، لا يجوز عقلانيا التوقف عند الروايات المطروحة: لا مسار الباخرة طبيعي، ولا وصولها إلى بيروت طبيعي، ولا تفريغ المواد وحفظها في المرفأ طبيعي، ولا وجود فجوة في بوابات العنبر طبيعي… إضاعة البحث خلف مراسلات إدارية باهتة وملتبسة استمرت سبع سنوات لا يمكن أن تخفي تورط عدد كبير من أركان سلطة الأمر الواقع، عبر أزلامهم المدنيين والعسكريين، في عملية بقيت دوافعها غامضة، بين التهريب والتخريب…