عندما نقول بأنّ السّلطة سقطت، نعني بأنّ ادواتها المالية والاقتصادية تعطّلت، بحيث لم تعد قادرة على ادارة العلاقات التي اكسبتها شرعيّتها: من تنظيم العلاقة بين المستأجر و صاحب الملك، وبين المودع و المصارف، وبين محطّات الوقود وموزّعي المحروقات، الى العلاقة بين مقدمي الخدمات الزبائنية والمواطنين. المقومات الضرورية لإدارة كل هذه العلاقات قد استنفذت، وأضحى مستقبل هذه العلاقات رهن الأسس التي يتم وضعها خلال الفترة التي تلي الانهيار.

عندما تسقط السّلطة، يدخل الواقع تلقائيّاً في مرحلة انتقاليّة. أي العبور من شيء يعجز عن الاستمرار، نحو شيء لم يولد بعد والمجتمع غير قادر على تخيّله. ورغم أن هذه المرحلة تحمل معها فرصة استثنائيّة للتغيير إلا أنها محفوفة بالمخاطر، لأنّ الانتقال قد يكون الى الأسوأ أو الى الأفضل، وما ستسرسو عليه هذه المرحلة سيأسس لسلطة مختلفة ولعلاقات مجتمعية جديدة.

الأزمة ليست نهاية العالم، بل هي فرصة استثنائيّة، والمواجهة سياسية في العمق. العمل السياسي هو رسم لوجهة هادفة في لحظات العجز والتخبّط والضياع، وأمّا الخطر الأكبر فهو اطالة عمر المرحلة الانتقاليّة نفسها، كونها تبدد مقدرات المجتمع وتفتته.

نظام المحاصصة الطائفية الذي تمأسس خلال الحرب الأهلية حوّل الكيانات الطائفية التي سيطرت على مناطق جغرافية خلال الحرب الى ما يسمّى “مكوّنات” تسيطر على أجزاء من مؤسسات الدولة. هذه التركيبة لها رموزها من زعماء طوائف ولها أسسها في العلاقات المجتمعية المرتبطة بهم، فيصبح العامل الأساسي في نظر الزعماء عند اتخاذ الخيارات هو القدرة على المحافظة على مكتسبات الطائفة.

في الحالة الاستثنائية التي نعيشها، وعند فقدان مقومات الاستمرار بالنظام الموجود (شحّ الدولار)، يصبح من المستحيل على المنخرطين فيه اتخاذ خيارات متصلة بالواقع المتراجع لكونها تتطلب منهم اتخاذ خيارات عابرة للطوائف. وبما أن أي خيار يضر مصلحة فئة من المجتمع لمصلحة فئة اخرى، فانها تضعهم بمواجهة جزء من طائفتهم مما يقضي على تركيبة العلاقات التي تمأسست خلال الحرب، في حين أنها لن تعطيهم تلك الخيارات مزيدا من التأييد لدى الفئات نفسها من الطوائف الأخرى. وهذا يفسّر العجز الوظيفي الذي نراه أمامنا اليوم

الّسلطة نتاج لرضى المجتمع:

لكون علاقات السلطة قائمة في صلب علاقات المجتمع ومتخيّلاته، ارتضاء شكل هذه العلاقات هو ما يرسم شرعية السلطة. بدون هذا الارتضاء، تّتخذ تناقضات المجتمع الواحد أشكال قطيعة وانعزال، ويُرفض من يزعم امتلاك أية سلطة. وبالتالي، النظام السلطوي لا يمكنه أن يقوم الّا برضى المجتمع أو بالأحرى على رضاه.

السلطة الّتي ورثناها اليوم اكتسبت شرعيّتها في مطالع التّسعينات. تحت رعاية خارجيّة، اتّفق عليها زعماء الحرب وبعض المتموّلين، فاجتمع من كانوا ما زالوا نوابا في حينه، في مدينة الطّائف في السعوديّة، لإقرار التعديلات دستورية ثم أزيحوا. الصيغة التي رست في سنة 1992 أتت على أساس تّفاهم ينظم التحاصص الطّائفي للموارد والتّنفيعات، في مراهنةً على أموال النفط والسّلام الاقليمي. المجتمع في حينها كان مستعدّاً للقبول بأي شيء يطوي صفحة حرب مريرة طالت 15 سنة. فكيف إذا كانت الصّفحة الجديدة تمنح ما هو غير مستحقّ؟ تعفي من محاسبة أخطاء الأمس كأنّ شيئاً لم يكن، وترشو بمستقبل من البذخ والتّرف.

المجتمع أيضاً بدوره يتشكَل و يتطوّر وفق النظام السّلطوي الذي ارتضاه:

إذا كانت وظيفة السلطة تنظيم العلاقات وفق قواعد وضوابط ومؤسسات، فهي حتماً المساهم الأساسي في تعزيز وتكوين بعض الروابط من جهة، والتفكيك التدريجي لبعضها الآخر من جهة ثانية. من هنا نقول بأنّ المشروع قادر أن ينتج مجتمعا اذا حرص على صياغة شبكة علاقات هادفة بما يكثّف التمايز اتجاه الخارج والانصهار في الداخل. السّلطة ليست شيئاً يؤخذ ويعطى أو فئة تبقى أو تزاح، بل هي بنيان مؤسسي في صلب التّشكّل المجتمعي.

السلطة التي قامت في التسعينات، ساهمت بترسيخ متخيّل وهو عيش مشترك بين هويّات طائفية. الهويّات الطائفية أخذت ملامحها المتطرّفة في فترة الحرب، لكن تعزّزها واستمرارها بعد 30 سنة، هو نتيجة ترسّخ لعلاقات سلطوية تعميم الاستزلام والولاء لزعماء الطوائف. فالزعيم وظيفته أن يناتش الزّعماء الآخرين على حقوق (حصص) طائفته، وهو من يعيد توزيع هذه الحصص على من يعتبرهم جماعته. ما يعني أنّ من لم ينتمِ لجماعة أضحى بلا حقوق.

ومن هنا نقول إنّ واقع مجتمعنا ليس صدفة، ومستقبل مجتمعنا ليس قدراً.

المجتمع في تغيّر مستمر

كما أشرنا سابقاً، تتكوّن السّلطة في لحظة مفصليّة عندما يرتضي أبناء مجتمع ما على شكل العلاقات التّي يخضعون لها، فنقول بأنّ السّلطة اكتسبت شرعيّتها. ولكن المجتمعات في تتطوّر دائم، لذلك على السلطة أن تزعم أنّ المرجعيّات الّتي أعطتها شرعيّتها ثابتة لتتمكن من الاستمرار، أي أنّها تصر على صورة معيّنة للمجتمع رغم تغيّره في الواقع.

هل الانتخابات تغيّر السّلطة؟

الانتخابات هنا، بخلاف الاعتقاد السّائد، لا تغيّر السّلطة بل تجدّد شرعيّتها. أي أنّ المجتمع، بمعزل عمن يفوز بالانتخابات، يرتضي اختيار “ممثّليه” وفقاً للسلطة التي تُجري الانتخابات.

كيف تتغيّر السّلطة اذا؟

ما عدا التغيرات المفروضة بالقوة الخارجية، فإن السلطة تتغيّر عبر الأزمات. لا يفقد النظام الاجتماعي-السلطوي شرعيته المجتمعية (أي “شعبيته” كما يدرج القول) إلّا في حالات تعطل شرعيته الاجرائية، أي في الحالات التي تحتم خيارات لا تقوى السلطة القائمة على استيعاب مفاعيلها السياسية، وتُدعى بحقّ “أزمات”. وفي حال تمّ تجاهل هذه التحوّلات السلطويّة، يتبدد المجتمع ويتفكك عنفاً وضياعاً.

للأسف وقع الانهيار ووصلنا للإفلاس. هذا الإفلاس يؤدي الى تأثيرات تصيب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حياة الناس في يومياتهم ولكن أيضا في مستقبلهم على المديين المنظور والبعيد.

تبدأ هذه التأثيرات من مداخيل الناس ومدخراتهم ولا تنتهي الى نزاعات مجتمعية فيما بينهم قد تصل الى مراحل شديدة الخطورة. على الصعيد المالي، جعل هذا الانهيار الأغلب الأعم من الناس يخسرون جزءا من مداخيلها أكان بالمطلق أو بقيمته الفعلية، حيث أن من دخله بالليرة اللبنانية، وهم الأكثرية الساحقة، قد خسر 80% من قيمة راتبه كما خسر الناس مدخراتهم فعليا فأصبحت أرقاما على ورق في المصارف لا أكثر. الأثار لا تقف هنا، فتدهور العملة وانهيار كل مقومات الدولة قد أصابا الخدمات الأساسية كالكهرباء والنقل والطعام والسكن… فأصبح تأمين بعضها شبه “ترف” لدى فئة من الناس وصار يتطلب جهدا وتكلفة مضاعفة لدى البعض الاخر.

ومن المهم التركيز هنا عن أهم خدمتين للمجتمع ألا وهما التعليم والطبابة حيث أصبحت الأولى عبئا كبير على المواطنين خصوصا مع سيطرة القطاع الخاص على التعليم (سيطرة قد تصل الى حد الاحتكار أحيانا). أما فيما يخص الطبابة فان الكارثة أكبر حيث أن الوضع أصبح مأساويا وهو يتدهور بسرعة فائقة قد تجعل الاستشفاء او الحصول على الدواء نعمة قد لا تصل الى جزء كبير من مجتمعنا. يضاف الى ذلك الضغط المهول على قطاع الصحة جراء وباء كورونا لا سيما مع الإدارة الضعيفة جدا للأزمة كما وهجرة النخب الطبية (من ضمن كثيرين أخرين) حيث أن جزءا كبير من أطباء لبنان قد هاجروا نهائيا خلال العام المنصرم فيما جزء أكبر ينتظر الفرصة لترك البلد.

هذه الهجرة لم تصب الأطباء والنخب فقط ولا التلاميذ والطلاب كما كان الحال سابقا، بل انها أصبحت الهدف للكثير من العائلات من كل الطبقات الاجتماعية، كل المناطق، وجميع الاختصاصات، وقد أصبحت اليد العاملة اللبنانية في الخارج شيئا فشيئا يدا عاملة رخيصة كل هدفها ارسال ما تيسر من عملات اجنبية الى الأهل في لبنان.

في هذا الانهيار أغلب الناس ضحايا (وان بدرجات مختلفة). تراجع الموارد والخدمات يوشك على توليد نزاعات بين الأفراد والمجموعات ضمن المجتمع نفسه على لقمة العيش كما على ما تبقى من خدمات أساسية وقد يصل الأمر الى حد الاقتتال للأسف.

اذا سلمنا بأن المجتمع لا يتماسك الّا من ضمن نظام سلطوي اجتماعي، و متى زعم أي تنظيم سياسي أنّ هدفه هو تغيير النظام القائم، فلا يمكنه أن يكون هدفه الا التحكم بالمرحلة الانتقاليّة، ليرسم حدود النظام الذي يريده هدفاً لمشروعه السياسي. والّا فمن ينتحل صفة الثورة يطيل أمد المرحلة الانتقاليّة ويستنفذ مقدّرات المجتمع، وتحديداً البشريّة منها.

قلّة منظمة تحمل مشروعا سياسيا اجتماعيا، ولديها وعي لدوافع المواجهة وما يترتب عليها من تبعات ومخاطر، تجهد لاستباق الاحداث وتحديد الخيارات، مشروعاً وغاية، وتتهيأ لتشكيل ميزان قوى يلزم الأخصام ويكتّل الأنصار. لكون السلطة في المجتمع ولكونها هي نظامه، فانّ الدفاع عن المجتمع لا يقوم من دون امتلاك الرؤية والارادة والاقتدار لخوض المواجهة السياسيّة.

مقولة الاصلاح توحي بأن هنالك سلطة حالية وُجِدت لكي تؤمّن المصلحة العامة، وأنّها قد استطاعت بفترات معيّنة من اثبات قدرتها على تحقيق غاياتها، فتمكّنت من برهنة نجاحها. أما اليوم فقد تعطّلت قدرة هذه السلطة على تأدية مهامها بنجاح، فتجلّى عجزها عن تحقيق الغايات التي وُجدت من أجلها.

اقترح العديد اصلاح الأسباب التي عطّلتها، حتّى تتمكّن من استعادة نجاحات التجارب السابقة. لكن الحقيقة أنّ سلطة ائتلاف زعماء الطوائف التي نعرفها اليوم لم تتمكّن قطعًا، ولا بأي فترة سابقة، من أن تحقق أي مصلحة عامّة. المانع أمام تحقيقها للمصلحة العامّة قوامه خلل وظيفي بنيوي بتركيبة النظام، ليست مسألة أشخاص ولا سوء ادارة، بل نظام لا يمكنه العمل الّا بهذه الطريقة. وبالتالي أي نجاح توهّم البعض أنّه قد سبق وحصل هو نجاح مزيّف، ارتضى به المجتمع لينهي مرحلة حرب دامت ل 15 سنة، وخوفاً من استعادة مرارتها، وارتشوا بمنافع ونمط حياة مترف غير مستحق.

لذلك لا نسعى الى اصلاح الموجود باعتبار انه أساسًا غير قابل للإصلاح.  بل يجب اقتناص فرصة سقوطه المدوّي للسعي الي التغيير نحو الأفضل. وبالتالي الاسهام الحاسم في طرح وبلورة بديل يفرض انتقالا للسلطة، لبناء الدولة المدنية الديمقراطية العادلة، الوحيدة القادرة على حماية المجتمع عبر تأمين المصلحة العامّة.

فاذا، الإصلاح الفعلي لا يكمن بتغيير اللاعبين أو بترقيع الثغرات، بل بتغيير جذري لقواعد اللعبة يطال بنية النظام نفسه.

النظام الذي تكرس خلال الحرب الأهلية وأصبح قائما بوضوح منذ التسعينات الى يومنا هذا، يعتمد بشكل حيوي على تدفّق كميّة كافية من العملات الأجنبيّة سنويّاً، أي الدولارات. هذه الاحتياطات من الدولارات المتراكمة عبر السنين، شارفت على النفاذ. وظروف قدوم دولارات غيرها بالكميّة الوافية وبشكل مستدام، لم تعد متاحة. لذلك، الوقود الذي يحرك المنظومة القائمة لم يعد متوفّرا، فكيف إذا لهذه العجلة أن تستمر بالدوران؟ من هنا، نستخلص بأن التغيير حتمي، ليس لأنّنا أردناه، بل لأن استمرارية ما كان قائماً أصبحت مستحيلة.

ان كان التغيير حتمياً، فما هو الذي سيتغير؟ يمكننا تبسيط الإجابة بخيارين:

  • الخيار الأسوأ وهذا للأسف ما يجري حاليًّا، وهو أن يتكيّف المجتمع بما يسمح بإطالة عمر سلطة ائتلاف زعماء الطوائف. فتُجبر نسبة كبيرة من الطبقة المنتجة في هذا المجتمع، بشكل أساسي الشباب، على الهجرة. فيتقلّص الاستهلاك المحلي للدولارات ويتعزّز التدفق مجدّداً من خلال ارسالهم أموالًا لإعانة أهاليهم. فيتآكل المجتمع تدريجيًّا حتّى يتحقق توازن كافٍ يؤمن استمرارية النظام بشكله الحالي. ويتجرّد المجتمع من أي مقدرة على النهوض لفترة طويلة، ويقضى على أية فرصة له للتعاف لعقود.
  • أمّا الخيار الثاني، فهو أن يُنظر الى المجتمع كأولوية فيتوجب حمايته والدفاع عنه. وليتحقق ذلك، لا مفر من أن يصيب التغيير بنية النظام نفسه. فتنتقل السلطة من ائتلاف لزعماء طوائف، الى الصيغة الوحيدة القادرة وظيفيّاً عن الدّفاع عن المجتمع، كل المجتمع، وهي الدّولة.

نحن في مواطنون ومواطنات في دولة، نعي بأنّ التغيير محتوم، وبالتالي هدفنا الاسهام في التأثير على وجهته، وهذا الاسهام يجب أن يكون حاسماً. الآن وهنا، أي خطوة أو موقف أو خيار مواجهة يؤخذ من قبلنا يجب أن يكون خدمةً لهذا الاسهام، أي بناء الدولة المدنية الديمقراطية العادلة والقادرة. انّ فرصة التغيير مؤاتيه، بل تاريخيّة، وقد لا تتكرر، والحاجة ملحّة لقيام دولة تحمي مجتمعنا المهدد، فأي خسائر تطال المجتمع لن تكون قابلة للاسترداد ولكن الخسائر تتحول إلى تضحيات متى كانت هادفة في سبيل بناء دولة