تكمن أهميّة تمتع الحكومة بصلاحيات تشريعية في اعتبارها الأداة العمليّة لإدارة المرحلة الانتقاليّة، بنتيجة نجاح ى التفاوض بين زعماء الطوائف والفريق الذي يحمل المشروع السياسي البديل الواضح والذي يتتمتع بالمعرفة والجرأة وحرية القرار

تُعطى الحكومة الانتقاليّة مهلة زمنيّة محدّدة (١٨ شهر) تحصل فيها على صلاحيّات تشريعيّة استثنائيةّ، لإدارة الإرث اللعين للمحاصصة الطائفيّة (أي ضبط مفاعيل الإفلاس) وبالتالي إنقاذ المجتمع (كلّ المجتمع، كما هو)، وإرساء شرعيّة الدولة المدنيّة.

تحتاج الحكومة الانتقاليّة المستقلّة لصلاحيّات تشريعيّة لتفادي العجز البنيوي الذي ينتج عن منظومة التعاونيات الطائفية.

فكرة حكومة تتمتع بصلاحيات تشريعية ليست “اختراع مواطنون ومواطنات في دولة”، ولا هي أمر جديد في لبنان، بل بالعكس تماماً. أبرزها كانت حكومتي عهد فؤاد شهاب برئاسة رشيد كرامي اللتين أسستا من خلال مراسيم تشريعية للعدد الأكبر  من مؤسسات الدولة التي نعرفها، كالضمان الاجتماعي، وقانون الموظفين، وقانون النقد والتسليف، وقانون تنظيم مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي والجامعة اللبنانية، على سبيل المثال. الى جانب حكومتي عهد فؤاد شهاب، إليكم حكومات أخرى مُنحت صلاحيّات تشريعيّة:

  1. خالد شهاب ١٩٥٢-١٩٥٣
  2. سامي الصلح ١٩٥٤
  3. سليم الحص ١٩٧٦/٧٧
  4. شفيق الوزان ١٩٨٢/٨٣
  5. رشيد كرامي ١٩٨٤/٨٥

إقرأ المزيد

بعكس الرأي السائد، عدد كبير من التغيرات في الأنظمة الاجتماعية-السلطوية حصلت نتيجة تفاوض بين أطراف عدة، قد يكون جزء منا داخلياً وجزء آخر خارجياً. أكثر من 50 بلد شهدوا انتقال سلمي للسلطة، ومنهم تونس والسودان وجنوب أفريقيا واسبانيا والبرازيل والمكسيك والمجر والسلفادور وفرنسا وغيرهم.

نكتفي بعرض بعض الأمثلة آملين أن هذا سيدفعكم للاطلاع بنظرة مختلفة على انتقال الأنظمة تاريخيا.

  • أفريقيا الجنوبية: بعد حكم طال لقرابة ٥٠ عاماً، بدأ يواجه نظام الفصل العنصري (apartheid) ضغوطات داخلية وخارجية: توحيد ألمانيا وبوادر إنهيار الإتحاد السوفياتي وحملة المقاطعة. كان يمكن لهذا النظام أن يستمر لكن رئيس البلاد آنذاك، فريديريك دو كليرك، اعتبر أن استمرار النظام يعرضه لمخاطر كبيرة وأن أفقه مسدودة على المدى المتوسط. انطلاقا من هذا الإقرار، قرر دو كليرك العمل مع نيلسون مانديلا، الذي كان مسجوناً آنذاك، على تنظيم انتقال للسلطة.
  • إسبانيا: بعد موت فرانكو في اسبانيا، باشر الملك خوان كارلوس عملية الانتقال إلى نظام ديمقراطي بدل أن يتمسك بالنظام الذي أسسه الدكتاتور. هذا المثل يعتبر أحد أبرز الأمثلة لعمليات الانتقال الناتجة عن تفاوض سياسي

فرنسا: الانتقال من الجمهورية الرابعة إلى الجمهورية الخامسة بدأ بأزمة في الجزائر تحولت إلى انقلاب عسكري في المستعمرة الفرنسية آنذاك، وانتهى بعد بضعة أسابيع بتفاوض سياسي على انتقال سلمي السلطة بين شارل دي غول المعتكف من جهة والسلطات الفرنسية من جهة أخرى.

تنزيل دراسات عن أمثلة تارخية (باللغة الانكليزية)

هدفنا الانتقال من النظام الاجتماعي-السلطوي القائم على ائتلاف زعماء طوائف المنتهي الصلاحية إلى نظام اجتماعي-سلطوي جديد مبني على أسس متينة يكون فيه اللبنانيين واللبنانيات مواطنون ومواطنات يتمتعون بحقوق، و ذلك بقيام دولة فعلية واثقة بشرعيتها أي دولة مدنية.

نرى أن المرحلة الحالية هي مرحلة انتقالية بطبيعتها، لأنّ الانهيار الاقتصادي والمالي، والخسائر الضخمة التي انكشفت ينتج عنهما انهيار لمنظومة العلاقات الاجتماعية-السلطوية التي بنيت على أوهام مثل ثبات الليرة، حتمية الهجرة، أسعار الأراضي التي لا تنخفض “قيمة الأرض منها وفيها”، أبدية الطوائف، ومقولة إن “قوة لبنان في ضعفه”.

على سبيل المثال لا الحصر، الزبائنيّة والفساد في لبنان ليسا نتيجة تصرفات فردية، بل هما في الواقع منظومة من العلاقات تتمحور حول شراء ولاءات الناس من قبل أصحاب النفوذ وقبول الناس بسلطة هؤلاء مقابل الحصول على منافع ومواقع وامتيازات. إذا خسر اصحاب النفوذ مصدر نفوذهم، كالقدرة على التوظيف وتوزيع المنافع مثلاً، تتبدّد العلاقة الزبائنية ويخسر أصحاب النفوذ سلطتهم.

من هذا المنطلق، وفي ظل انهيار الاقتصاد وتكبّد المجتمع خسائر فادحة، تنتهي تركيبة علاقات السلطة الناجمة عن قدرة أحزاب الطوائف على السطو على الموارد ورشوة المجتمع من خلال جذب الأموال والاقتراض، ونصبح تلقائياً في مرحلة انتقالية تتم فيها اعادة تشكيل تركيبة علاقات جديدة.

الانتقال يحصل أمام أعيننا ولا مفر من ذلك. السؤال الذي يطرح على كل لبناني ولبنانية هو: هل نخضع مجددا ونقبل أن نكون طبقاً على مائدة الذين يستثمرون الهويات والنعارات الطائفية، أم نسعى للتأثير في وجهة الانتقال؟ عمليّاً، نسعى الى ادارة هذا الانتقال لتفادي انهيار تام للمجتمع. نسعى ونجهد بأن ننتقل من تركيبة علاقات زبائنية يُبرّرها المنطق الطائفي الي شرعيّة دولة مدنيّة تتعامل مع المجتمع بوصفه مواطنين ومواطنات، لهم حقوق و تترتّب عليهم واجبات.

عاش الناس وعاش معهم الزعماء في وهم. وهم الازدهار، وهم حتمية الهجرة، وهم أموال المغتربين التي يستقطبها النظام المصرفي الاستثنائي، وهم الليرة اللبنانية الثابتة، وهم استقرار المؤسسات الدستورية والأعراف المواكبة لها، وهم العيش المشترك، وهم السلم الأهلي، وأخيرا وليس آخراً وهم قوة الزعماء.

انهيار الوهم يعني انهيار الأدوات التي استعملها زعماء الطوائف على مدى ثلاثين عاماً لرشوة المجتمع وضبطه والامساك به، وكلما ازداد الوضع سوءاً، كلما ازدادت فرص الانشقاقات وتفكك أحجار من جدار منظومة السلطة. يعجز زعماء الطوائف وظيفياً عن التعامل مع هذا الوضع لأنه نقيض الدور الذي لعبوه لسنوات. فعلى من يتولى المسؤولية اليوم أن يوزع خسائر في وقت بنوا سلطتهم على توزيع المغانم.

انطلاقا من هذه القراءة، يواجه الزعماء ضغوطاً داخلية وخارجية حادة:

الضغوط الداخلية:

أي قرار يتخذه الزعماء اليوم، في ظل الأزمة، أي تراكم الخسائر، سوف يضرّ بمصالح فئة ويعزّز مصالح فئة أخرى، ولو نسبياً. هذا النّوع من القرارات إن اتخذها زعيم طائفة، ومهما كانت مضامينها، سوف يتسبب له بخسارته تأييد أناس من طائفته من دون أن يكسبه تأييد أناس من طائفة أخرى، ولو راعى مصالحهم. الزّعماء هم أسرى لأدوارهم الطّائفيّة، وبالتّالي هم عاجزون عن إدارة الأزمة. إنّ الوضع المالي والاجتماعي الخطير الذي آلت إليه البلاد يشكّل ضغطاً عليهم. صحيح أنّهم زعماء حرب ولكن هذا لا يعني أنّهم يستسهلون خوض حرب جديدة أو المراهنة على تقسيم البلاد. يجب ألا ننسى أنّهم اختبروا الحرب وأنّهم يعرفون جيّداً أن زعماء قبلهم اغتيلوا أو قُتل أحد أفراد عائلاتهم، هم مدركون أنّ أيّة اضطرابات داخليّة يمكن أن تسبب لهم خطراً شخصياً مباشراً. جل ما يقومون به اليوم، بسبب عجزهم، افتعال الخلافات وإلقاء التهم على بعضهم البعض، ما يزيد التشنج الطائفي ويرفع منسوب المخاطر الأمنية.

الضغوط الخارجية:

يتوهم البعض أن أي تدخل خارجي في لبنان هدفه ترميم المنظومة بالشكل التي كانت عليه، في وقت أنّ الدول الإقليمية والعالمية هدفها إما المحافظة على حد أدنى من الاستقرار، ولو بشروط عيش دنيا للمواطنين، وإما استعمال لبنان كورقة تفاوض في صراعاتها. وفي كلتا الحالتين لا تأثير للزعماء على ما يقرره الخارج، و هم قلقون جدّاً مما قد تؤول إليه أية اتفاقات، لذا يحرصون على تقديم أوراق اعتمادهم عند من يستطيعون الوصول إليه من تلك الدول.

نتعامل مع الخارج انطلاقا من أن لبنان دولة. العداء حالة استثنائية بين الدول لما يرتب من تبعات جدية، ولبنان في عداء مع المشروع الصهيوني لأنه مصمم لتقويض مجتمعنا وأسس الدولة المدنية التي تحميه. أما سائر الدول فعلاقات لبنان معها تقوم على مراتب مختلفة من تلاقي المصالح أو تباعدها. وعليه، فإننا في تواصلنا مع الأطراف الخارجية، نقدر بدقة مصالح كل منها ونبين بوضوح كامل ما يتناسب مع رؤيتنا لحاجات المجتمع اللبناني، في الظرف الواقعي الذي نعيشه، وهذا بدوره تفاوض.

المقايضة المطروحة اليوم أمام زعماء الطوائف واضحة. إما المجازفة بخسارة كل شيء، متى أقلعوا عن إنكار عجزهم وعن نقل قلقهم إلى الناس بتأجيج الانشقاقات الداخلية واستقدام التدخلات الخارجية، وإما التفاوض على خسارة بعض ما راكموه من سلطة ونفوذ وبقائهم في الحياة السياسية إنما من ضمن دولة تحظى بشرعية مدنية كاملة، مقابل القبول بالتخلي عن السلطة خلال مرحلة انتقالية وفق مشروع واضح المعالم، قد ينجخ وقد يفشل. ودورنا طبعا أن نعزز حظوظ نجاحه.

مع انهيار النظام الاجتماعي-السلطوي وبنيته المؤسسية، تنهار جميع الأوهام التي بنيت على مدى عقود ويفقد الناس كل المعالم والقيم المجتمعية التي بنوا واقعهم على أساس وجودها. في هكذا لحظات، رفض ومعارضة النظام، وان كانا محقّين، لكنّهما لا يكفيان. عندما يدخل المجتمع في المجهول، يتمسّك أبناءه بما يعرفنه مهما كانت هشاشته. لذلك تقديم تصوّر سياسي واضح لنظام اجتماعي-سلطوي جديد ضرورة مسبقة لأي عمل معارض جدّي، ان كان حزب سياسي   أو تحالف أو جبهة معارضة موحّدة.

حتى الآن، لم ننجح في إقناع أحزاب ومجموعات المعارضة بأهمية توضيح الرؤية والعمل على تشكيل بديل يتحمل مسؤولية إدارة المرحلة الانتقالية. التواصل بين المجموعات اقتصر على التنسيق الميداني، وهو يبقى بالتالي دون مستوى تطلعات الناس ودون ما نحن بحاجة إليه من أجل إحداث التغيير.

خلال السنوات الخمس الماضية، كان لحركة مواطنون ومواطنات محاولات عديدة لجمع قوة المعارضة حول مشروع سياسي واضح:

  • قبل خوض الانتخابات البلدية سنة ٢٠١٦ وتأسيس الحركة فيما بعد، كان من المفترض أن تكون مواطنون ومواطنات إطارا جامعا لقوى المعارضة لتشكيل بديل عن سلطة أصبح واضحاً أنها تترنح. لكن المحاولة لم تنجح وطغت اعتبارات ضيقة لم تسمح بتشكيل بديل سياسي عن السلطة،
  • استباقاً لانتخابات النيابية الماضية، رأينا في خلافات السلطة حول قانون الانتخاب فرصة لخرق جدارها والدفع نحو قانون يرسخ شرعية الدولة المدنية دون أن يطيح بالضوابط التي تشكل خطوط التّماس بين الطوائف. كان لنا على أثر ذلك محاولة جديدة لجمع قوى معارضة حول طرح سياسي واضح من خلال حملة “الدولة المدنية”. شارك في هذه الحملة ٤٣ مبادر ومبادرة ينتمي الجزء الأكبر منهم إلى مجموعات المعارضة البارزة آنذاك والجزء الآخر هم شخصيات سياسية واجتماعية وإعلامية تتمتع بمصداقية،
  • كانت حملة “الدولة المدنية” المدخل إلى اجتماع عدد من المجموعات في محاولة جديدة لبلورة بديل سياسي. لعبت حركة مواطنون ومواطنات في دولة دور أساسي في تشكيله وكان من المفترض على التحالف أن يقدم مرشحين ملتزمين بهذا  المشروع. لسوء الحظ، هاجس التوحيد طغى على ضرورة الوضوح، ففضّلت أطراف كثيرة توسيع الجبهة حتّى تحولت الى تحالف انتخابي فاقد للوضوح السياسي. تُرجِم ذلك في النتائج وانفكّ التحالف مع انتهاء الانتخابات،
  • عندما تحولت تحذيرات مواطنون ومواطنات في دولة إلى واقع مع انتفاضة تشرين، اعتبرنا أن هذا الحدث فرصة أخرى لجمع القوى المستعدّة لتحمّل مسؤولية إدارة المرحلة حول مشروع سياسي، ولكن الجبهة عجزت عن التّشكّل حتى اليوم.

كما في الماضي، لن تتوقف مساعينا لجمع القوى المعارضة حول مشروع سياسي واضح، ولكن علينا العمل أيضاً وأولاً على تقوية الحركة، من حيث التأييد والتّنظيم، لرفع قدرتها على المواجهة وعلى التأثير، وصولاً الى تظهير ميزان قوى قادر أن يفرض جدول الأعمال في وجه ائتلاف زعماء الطوائف.

لتكن خياراتنا أوضح، قد يكون مجدياً الاطلاع على منهجية الحركة ومقاربتها للعمل السياسي أوّلاً. النظام السلطوي-الاجتماعي الذي نسعى إلى تغييره ليس مادة جامدة بل لديه مناعة تسمح له بتخطي تناقضاته الداخلية والضغوط الخارجية ولو ضمن حدود. قدرة النظام على استيعاب انتفاضتي أزمة النفايات وتشرين من جهة واستمراره حتى الآن رغم التغيرات الدولية خير دليل على هذه المناعة. لذلك، لا يمكن أن يأتي التغيير كنتيجة لعمل تقني على غرار ما يسمى خططا وبرامج في المؤسسات التجارية. هذه التناقضات والضغوط نفسها هي التي تفسح المجال أمام تغيير النظام من قبل طرف قادر على استباقها وتحويل المواجهة باتجاهها.

من هنا، تمعنت حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” في التركيز على المقاربة المنهجية الصارمة من ناحية، وعلى الواقعية التقديرية في اختيار ساحات المواجهة وسبلها من ناحية أخرى.

 الساحات التي اختارتها الحركة منذ تأسيسها تتضمن:

  • الانتخابات البلدية وكان هدفها إظهار بديل سياسي على مساحة البلد في وقت كانت قوى السلطة منهمكة بخلافات محلية ومحرجة أمام الضغوط المالية،
  • قانون الانتخابات النيابية الذي سعت الحركة من خلاله للإسهام في بناء أسس تحالف من خلال حملة “الدولة المدنية” من جهة، وأن تخترق منظومة كانت نا زالت عاجزة عن الاتفاق على قانون الانتخاب من جهةٍ أخرى،
  • الانتخابات النيابية التي كانت فرصة لسرقة مهرجان السلطة، بعدما توافق أركانها على نتيجة الانتخابات فقرروا إجراءها وصاغوا القانون المناسب لذلك،
  • صناديق تعاضض نقابات المهن الحرة والمعلمين. حاولت الحركة دفع النقابات الى التحرك من أجل الحفاظ عن مدخراتها وتشكيل قوة ضغط على السلطة والحصول على مقعد على طاولة المفاوضات عندما يدخل البلد في الأزمة التي كانت مرتقبة،
  • تشكيل جبهة معارضة مجتمعة على مشروع واضح لتحويل انتفاضة تشرين إلى رافعة لفرض هذا المشروع،
  • العمل مع متقاعدي الخدمة المدنية والعسكريين المتقاعدين بشكل خاص لتشكيل قوة ضغط على النظام بعد تبخر قيمة معاشهم التقاعدي.

في هذه المرحلة الدقيقة المتفجرة نركّز كحركة على بناء قدراتنا الذاتية، تحديداً بعدما تبينت صعوبة تشكيل  جبهة سياسية موحّدة. في الوقت نفسه، نتابع رصد التحولات على المستويين اللبناني والخارجي ونشهد  أن عدداً من الوجوه البارزة التي تتمتع بمصداقية لدى الناس تنفكّ عن المنظومة بحثاً عن بديل، ونشهد أيضاً بوادر تغيير في مواقف بعض القوى الخارجية اتجاه زعماء الطوائف. نعمل اليوم على التموضع اتجاه هذه الأحداث للتأثير على مسارها ولكي تصبّ في مصلحة مشروع بناء دولة في لبنان.

إن آخر تعداد فعلي للمقيمين في لبنان حصل عام 1932 في ظل الانتداب الفرنسي.

منذ ذلك الحين، تجهل الدولة العدد الفعلي للمقيمين وتقوم بتقديره فقط من وقت لآخر. ولعل مسألة التطعيم ضد كورونا أوضح دليل على أهمّيّة هكذا تعداد. إن تعداد السكان لا يصب في مصلحة نظام الطوائف القائم حالياً بل يشكل خطراً عليه. فعدم معرفة العدد الفعلي للمقيمين، جنسهم، توزّعهم الجغرافي، جنسيّاتهم، بنيتهم العمريّة، عملهم ومصادر دخلهم يمكّن السلطة من رسم المشهد الذي يصب في مصلحة استمراريّة هذا النظام، كل ذلك بحجة “الميثاقيّة الطائفيّة”. يستكمل التعداد بالإجراءات اللازمة ليشمل اللبنانيين المهاجرين، كي يصبح التمثيل السياسي متصلاً فعلاً بأماكن إقامة الناس ومنفصلاً عن الروابط العائلية والطائفية وتأثير المفاتيح الانتخابيّة، وكي تطال التقديمات كالتغطية الصحية المقيمين فعلياً، وكي يطال التكليف الضريبي جميع المقيمين على ما يحصّلونه فعليًّا من مداخيل سواء في لبنان او من خارجه

طرحنا على صعيد الفصل بين الداخل والخارج يتمحور حول تولي الحكومة إقامة علاقات جدية مع الخارج بوصفه خارجا. فالانتقال الذي تفرضه الأزمة على من يريد تخطي مفاعيلها وأسبابها يحتاج، لا سيما في بلد صغير، إلى عقد علاقات اقتصادية ثابتة مع دول لا تناصبنا العداء ولا تسعى إلى تفتيت مجتمعنا وتهديد شرعية سلطتنا. فالاقتصاد سياسي بطبيعته.

نعرف جيدا أنه يصعب على اللبنانيين واللبنانيات المنخرطين في الطوائف عموماً، وعلى زعماء الطوائف خصوصاً، تصور أننا في دولة تتعامل مع الخارج بوصفه خارجاً، بالقدر نفسه الذي يصعب عليهم تصور أن الداخل هو مجتمع واقعي. فالطوائف هي في الأصل افتراق عن الواقع المجتمعي وعن مفهوم الدولة الذي من دونه لا معنى لداخل وخارج، وهي بشكل أدق انحراف عن العلاقة السوية بين المجتمع والسلطة

السلطة هي منظومة من العلاقات السائدة بين أفراد أو مجموعات من البشر، بما يتضمن ذلك من غلبة للبعض على البعض الآخر. ينتج عن هذه الأدوار عدد من المسلمات أهمها الأدوات الأمنية والمالية المحدِدة والتي ترتضي بها الأكثرية فتكون الجهة الوحيدة المخولة استعمال العنف على أنواعه بوجه من لا يرضى بأنماط سلوكية معينة تحددها منظومة هذه العلاقات. للسلطة وظائف عليها العمل على تأديتها للحفاظ على شرعيتها، أي إعتراف فئة كبيرة من الناس بوجودها والقبول بكيفية تسييرها لأمورهم.

بعض الأمثلة عما أسميناه منظومة العلاقات:

  • العلاقة بين الرجل والمرأة داخل الأسرة الذي يسودها تسلط الرجل واعتبار المرأة تابعة لقراره وسلطته.
  • علاقة رب العمل بالعمال وقدرته على ممارسة سلطته عليهم.
  • علاقة الفرد بالدولة والتي تمر في لبنان بزعامات مناطقية وطائفية بحيث يصبح المواطن مجرد زبون لا يحصل على حقوقه دون تأدية الولاء لهذا الزعيم أو ذاك، وهو ما يعرف بالعلاقة الزبائنية.

غيرت الحرب الأهلية اللبنانية شكل المجتمع بعد هجرة آلاف المواطنين الى بلدان ذات معدل دخل أعلى فتكرس شكل جديد للعلاقات في مجتمعنا بما يتناسب مع الاقتصاد الريعي المستجد وبدأ نمط يعتمد على سلطة الميليشيات المتمثلة بزعماء وأمراء الطوائف وتحالفها مع أصحاب المليارات المشبوهة المصدر.

التغير بمنظومة العلاقات يُنتج حكماً تغيراً في أشكال السلطة. التغيرات هذه تأتي نتيجة التطورات التاريخية المادية وما تتخلله من نكسات وأزمات وحروب تفرض التغيير، أو بقرارات أقلوية تأتي من داخل السلطة نفسها. كالهزائم العسكرية لبعض الدول في الحرب العالمية الثانية وما تلاه من سقوط لإيدوليجيات ونظم قائمة، أو سيطرة نمط الإنتاج الرأسمالي على معظم الدول التي كانت ضمن المعسكر السوفياتي، أو الكوارث الطبيعية كزلزال لشبونة الذي فتح الباب واسعاً للفلسفة والعلوم، أو كما حدث التغيير أيضاً بقرار سلطوي في عهد بسمارك بألمانيا.

أما على الصعيد اللبناني حدثت تغيرات عميقة بعد الإنزلاق إلى العنف والاقتتال في الحرب الأهلية مع ما أنتجته من فرز ومأسسة طائفية، والذي تكرس عند دخول الدولارات من المواطنين المغادرين وتكيّف الاقتصاد مع هذا النمط الريعي، فتغيّرت العلاقات المجتمعية الى ما نعرفه اليوم.

التغيير في المفاهيم والعادات السائدة ليس بالأمر السهل، من هنا تصبح مهمة التغيير عملاً ثورياً تقوم به قلة ثورية. تصبح حظوظ التغيير مرتفعة عندما تتصدع قدرة منظومة العلاقات على الاستمرار نتيجة الأزمات والإنتكاسات.