الفدراليّة

السلطة في لبنان، في واقعها، فدرالية، لا بل كونفدرالية، أقله منذ سنة 2005، ولكنها سلطة من دون دولة، ما خلا الشكليات. والكونفدراليات ليست، أو بالأحرى لم تعد، موجودة في الواقع اليوم (ما عدا الاتجاه المتردد لتحول “الاتحاد الأوروبي” إلى صيغة كونفدرالية) على خلاف الصيغ الفدرالية القائمة في دول عديدة. يجدر التنبه إلى أن كلمة “ميثاقية” هي الترجمة الحرفية لكلمتي فدرالية وكونفدرالية ، فأصلهما اللاتيني (fœdus, fœderis) يعني الميثاق، أي اتفاق كيانات قائمة بذاتها على إقامة صيغة سياسية مشتركة. والفرق بين الفدرالية والكونفدرالية أن “مكونات” الأولى لا تتمتع بالسيادة ضمن الصيغة السياسية المشتركة، بل تستمد مسؤولياتها وصلاحياتها من دستور الدولة، بينما تتمتع “مكونات” الثانية بالسيادة. و”المكونات الطائفية اللبنانية” تجاهر، بدءا من تسميتها هذه، بأسبقيتها على الصيغة السياسية المشتركة، وهي لا تتورع حتى عن ادعاء سيادتها، لما تشعر أن في ذلك منفعة، لا سيما في تعاملها المتفلت مع الخارج.

فما معنى المطالبة بالفدرالية في لبنان إذاً؟

يسود التباس مقصود بين الدعوات للفدرالية والتذكير بما ورد في “وثيقة الوفاق الوطني” المسماة “اتفاق الطائف”، حول “اﻟﻼﻣرﻛزﯾﺔ اﻹدارﯾﺔ”.

يجدر التذكير أولا أن لا شيء من هذا القبيل وارداً في نص الدستور، وهو النص الشرعي، شكليا على الأقل، خلافا لوثيقة الوفاق الوطني التي لا تعدو كونها مرجعا سياسيا استوحتها التعديلات الدستورية التي أجريت سنة 1989، فأسقط ذكر اللامركزية الإدارية.

عودة إلى “وثيقة الوفاق الوطني”، يتناول النص مسألة اﻟﻼﻣرﻛزﯾﺔ اﻹدارﯾﺔ في خمس فقرات. تؤكد الأولى أن “اﻟدوﻟﺔ اﻟﻠﺑﻧﺎﻧﯾﺔ دوﻟﺔ واﺣدة ﻣوﺣدة ذات ﺳﻠطﺔ ﻣرﻛزﯾﺔ ﻗوﯾة”، نافية أية فكرة عن الفدرالية. تتناول الثانية ما يعرف باللاحصرية، عبر “ﺗﻣﺛﯾـل ﺟﻣﯾـﻊ إدارات اﻟدوﻟـﺔ ﻓـﻲ اﻟﻣﻧـﺎطق اﻹدارﯾـﺔ ﻋﻠـﻰ أﻋﻠـﻰ ﻣﺳـﺗوى ﻣﻣﻛن ﺗﺳﻬﯾﻼً ﻟﺧدﻣﺔ اﻟﻣواطﻧﯾن”، علما أن انتشار استخدام الإنترنت قد تخطى هذه المسألة من أساسها. تتناول الثالثة “اﻟﺗﻘﺳﯾم اﻹداري”، إنما ليس من ناحية تقريبه من أشكال التوزع المجالي الفعلي لأماكن السكن والعمل وتعزيزا للترابط الحياتي ضمن كل منطقة إدارية، بل للتخفيف من وقع عمليات التهجير القسري التي ولدتها الحرب الأهلية، أي “ﺑﻣﺎ ﯾؤﻣن اﻻﻧﺻﻬﺎر اﻟوطﻧﻲ وﺿﻣن اﻟﺣﻔﺎظ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﯾش اﻟﻣﺷﺗرك ووﺣدة اﻷرض واﻟﺷﻌب واﻟﻣؤﺳﺳﺎت”. الفقرة الرابعة هي التي تقارب أخيرا الموضوع فتقول بـ”اﻋﺗﻣﺎد اﻟﻼﻣرﻛزﯾﺔ اﻹدارﯾﺔ اﻟﻣوﺳﻌﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﺳـﺗوى اﻟوﺣدات اﻹدارﯾﺔ اﻟﺻﻐرى (اﻟﻘﺿﺎء وﻣﺎ دون) ﻋــن طرﯾق اﻧﺗﺧﺎب ﻣﺟﻠس ﻟﻛل ﻗﺿﺎء ﯾرﺋﺳﻪ اﻟﻘﺎﺋﻣﻘﺎم، ﺗﺄﻣﯾﻧﺎً ﻟﻠﻣﺷﺎرﻛﺔ اﻟﻣﺣﻠﯾﺔ”، حاصرة دور المجلس بمعاونة القائمقام وبتعزيز علاقة الإدارة المحلية بالسكان، وهذا أيضا لا يمت إلى الفدرالية بصلة. أما الفقرة الخامسة، فتوصي بـ “اعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحدة والاتحادات البلدية بالإمكانات المالية اللازمة”. وقد وضعت هذه الخطة بالفعل في سنة 2004، تحت اسم “المخطط الشامل لترتيب الأراضي في لبنان” (sdatl) وأقرت في مجلس الوزراء سنة 2008، لكنها لم تحترم من قبل مجلس الوزراء نفسه ولم تطبق من قبل الإدارات المعنية. أما تعزيز موارد البلديات فذكره يؤكد عدم استحداث أية هيئة غير البلديات واتحاداتها تتمتع باستقلالية مالية.

الذين يطرحون الفدرالية، الجديون منهم على الأقل، ليس همهم تسهيل المعاملات الإدارية بتفريع الإدارات وتوسيع الخدمات الإلكترونية، ولا هو إشراك منتخَبين في الأقضية في تأدية مهام القائمقام، ولا هو حتى وضع تقسيم إداري يوائم الوحدات الإدارية مع التشكل الواقعي للمجال، ولا هو أخيرا إقرار شكلي للفدرالية السياسية للطوائف القائمة في الممارسة والأعراف من دون منة من أحد. بعد إشاحة هذه الالتباسات والتوريات كلها، نصل إلى الطرح الجدي، بدوافعه وبنتائجه، وهو التقسيم السياسي والمالي، أو أقله الكونفدرالية السياسية والمالية.

لماذا عادت هذه الأطروحات تتردد الآن؟ وما الذي يقف وراءها؟ مشروعان سياسيان؟ 

نقول أولا إن عودة هذه الأطروحات لا تنفصل عن أمرين متزامنين: الانهيار المالي وارتفاع منسوب الصراعات الإقليمية، والذين يقدمونها يعتبرون أن الانهيار المالي ناتج عن تصاعد الصراعات الإقليمية، ويزعمون بالتالي أن الخروج من الصراعات الإقليمية (تحت عنوان “الحياد”) أو الالتزام بالـ”محور” الغربي-الخليجي كفيلان بعودة “الازدهار”. في المقابل، يعتبر معارضو هذه الأطروحات أن الـ”محور” الغربي-الخليجي يستهدفهم خصوصا ويستهدف لبنان عموما، وهذا الاستهداف سبب أساسي للأزمة المالية، ويخلصون بالتالي إلى زعم أن مواجهته أي مقاومته، واجب مفروض. اللافت أن كلا الطرفين يربط الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي بالخارج، متغاضيا عن أية مسؤولية للنظام السياسي القائم، فينتهي الفريق الأول، في سياق تغييب أي دور لدولة فعلية في لبنان، إلى القول بالانفصال بينما يصر الفريق الثاني على ترميم النظام الطائفي بأي ثمن. ليست المواجهة بالتالي بين مشروعين سياسيين متقابلين لدولة، بين بين لا مشروعين.

نحن، في مواطنون ومواطنات”، نختلف مع منطلقات كلا الفريقين: الانهيار المالي ليس نتاج الصراعات الإقليمية والدولية، وإن كانت قد فاقمته، ولا هو يعالج بالعلاقات الإقليمية والدولية، وإن كانت قد تسهل العلاح أو تصعبه، الانهيار نتاج النظام السياسي المجتمعي الذي استمر منذ الحرب الأهلية وانتهت صلاحيته، وبالتالي تخطيه يمر ببناء دولة مكتملة الشرعية، ولا يمر أبدا بترميم النظام الساقط ولا بتجزئته واستنساخه على مقاسات أصغر.

أما للذين ما زالوا تائهين في الشعارات التي تغلف الطرح السياسي-المالي الأساس، فنقول:

  • إن اللا-مركزية والفدرالية ليستا سوى شكلين بين أشكال متدرجة لتنظيم عمل الدولة، متى كان هناك دولة، وهما لا يعفيان من إرساء شرعية الدولة أولا في اي حال من الأحوال.
  • إن أي تقسيم مناطقي للمسؤوليات بين هيئات مناطقية وأخرى مركزية لا معنى له إن لم يستند إلى التوزع الفعلي للسكان وللأنشطة الاقتصادية، وبالتالي للموارد المالية وللحاجات الخدماتية في بلد لم يحصل فيه تعداد للمقيمين منذ سنة 1932، لا  علاقة للمسجلين بالسكّان الفعليين، وقد باتت المجالس البلدية مجرّد جمعية تضمّ وجهاء البلدة الذي ، يمثّلون ملّاكي الأراضي وحلقة وصل بزعماء الطوائف. ارتفع عدد البلديات بشكل مطرد إلى 1100 بلدية، غالبيتها لقرى صغيرة وبقدرات تشغيلية هزيلة، ما خلا البلديات المدينية الكبيرة التي تسيطر عليها السلطة السياسية مباشرة.
  • يتوجب، سواء مع اللا-مركزية والفدرالية أو من دونهما إعادة صياغة التقسيمات الإدارية لتكون البلديات قادرة على تحمّل مسؤوليّاتها بشكل فعّال والتفاوض مع القطاع الخاص والبلديات المجاورة والإدارة المركزية.وهو ما سيقلّل عددها بشكل كبير. كما يتوجب إعادة صياغة صفتي المقيم والمسجل بحيث يكون المستفيدون من الخدمات أو الذين يعانون منها، والذين يدفعون الرسوم، هم من يعيّنون أو ينتخبون المولجين بالإدارة، وذلك من خلال التعداد المنتظم للسكّان.
  • إن الانهيار المالي والاقتصادي يرتب ضرورة القيام بتوزيع عادل وهادف للخسائر، ومواجهة الإرث العين للنظام الساقط، من خلال ترتيبات نقدية ومالية وقطاعية دقيقة وضاغطة، ولبنان ليس في وضع يسمح ببعثرة موارده القليلة عبر استسهال تجزئة مجاله وتفتيت قراره السياسي.