سلاح حزب الله

باتت مسألة سلاح حزب الله أشد المواضيع خلافية في لبنان. لذا لا بد من الوضوح اتجاهها.

يعتقد البعض أن الوضوح يكون إما بتأييد “سلاح المقاومة” كحالة وجودية لا بل مقدسة، وإما برفض ” سلاح الحزب” والقول بنزعه، كحالة شاذة لا بل شيطانية، لا يرون الوضوح إلا بجواب من كلمة واحدة: مع أو ضد. نقول إن موقفين من هذا النوع واضحان من دون شك، إنما ما يوضحانه هو بالتحديد غياب الفكر والفعل السياسيين. فتأييد بقاء سلاح حزب الله على وضعه والدعوة لنزعه لا يقدمان أي عنصر يمكنه أن يؤثر في الانقسام الحاصل، داخليا أولا ومن ثم خارجيا، وينتهيان إلى تأبيد حالة العجز والفشل التي باتت تهدد المجتمع في بقائه.

الوضوح النافع يستدعي جهدا أكبر، للتمكن أولا من ربط الأحداث والظواهر، وظاهرة سلاح حزب الله تحديدا، بظروف حصولها واستمرارها، ومن ثم ربط الظروف بشروط تشكلها وأسبابه، كي تكون السياسة فعلا لتخطي تلك الشروط والأسباب، ولا تبقى انفعالا وأسرا.

ليست المسألة مسألة سلاح أولا، فالسلاح بضاعة تصنع أو تشترى، بل هي في التنظيم المسلح، حزب الله، في الوقت نفسه، حركة مقاومة سياسية وعسكرية، وحزب طائفي وديني.

المقاومة رد على هزيمة تقبلتها السلطة القائمة في المجتمع، وهي بالتالي، حكما، مقاومة ضد العدو وإنما هي، بالتلازم، مشروع سياسي بديل عن السلطة التي ارتضت الهزيمة. وقد شهد لبنان سلسلة مفجعة من الهزائم، كانت محطتها الفاصلة اجتياح سنة 1982، وقد تقبلت السلطة هذه الهزيمة العسكرية، لا بل رحب بعض أركانها بها بينما تكيّف معها أركانها الآخرون. وما كان الأمر ليكون كذلك لو لم تسبق الهزيمة العسكرية وتمهد لتقبلها هزيمة سياسية، بدأت تتشكل بعد الهزيمة العربية الكاسحة في سنة 1967، وترجمت، عبر رهانات وارتهانات متعددة من معظم أركان السلطة، ومن منظمة التحرير الفلسطينية أيضا، في الحرب الأهلية. وهذا ما يضاعف أهمية الوجه السياسي للمقاومة.

أما الحزب الطائفي فهو الشكل التنظيمي الذي تقوم عليه السلطة في لبنان، السلطة نفسها التي مهّدت للهزيمة أو تكيّفت معها، وهو الشكل الذي تكرست الهزيمة السياسية عبره، خلال الحرب الأهلية، فبات المجتمع مجردا من حماية الدولة، واستعيض عنها بوصاية خارجية فرضت بترتيب دولي-إقليمي، بين سنتي 1990 و2005، ثم، بعد نقض هذا الترتيب خارجيا،  بسلسلة من الترتيبات الخارجية (مؤتمر الدوحة ومؤتمر سيدر مثالا)  والداخلية (حكومات “الوحدة الوطنية” ومراكمة الأعراف التي تثبت حقوق النقض المتبادلة) آلت إلى الانهيار الكامل سنة 2019 وإلى تدحرج مفاعيله في ظل عجز كامل.

قضى الترتيب المعتمد خلال مرحلة الوصاية الخارجية بفسح المجال لعمل حزب الله العسكري (بعد مواجهات داخلية مديدة ومريرة، وبنتيجة حسابات إقليمية دقيقة بين سوريا وإيران في ظل الحرب العراقية والإيرانية والمصاعب السورية الداخلية) إنما مقابل فصله عن الإدارة السياسية للبلد فصلا يكاد يكون كليا (هانوي وهونغ كونغ شعارا)، ما سمح بإخفاء التناقض الجوهري في طبيعة الحزب. حتى تحرير الجنوب في سنة 2000، وهو إنجاز غير مسبوق على صعيد المنطقة كلها، لم ينتج أي حصيلة سياسية، لا بل تزامن مع تعزيز قبضة السلطة القائمة عبر الانتخابات التي رتبتها “الوصاية”.

لكن هذه الصيغة لم تعد ممكنة بعد إسقاط ترتيب الوصاية، فسارع حزب الله، منذ الاتفاق الرباعي في انتخابات سنة 2005، إلى الانضمام للمنظومة الحاكمة، ركنا أساسيا فيها. أتت حرب سنة 2006 لضربه وعزله، لكنه أصر على انخراطه في السلطة على الرغم من الإنجاز المدوي الذي حققه في صدها. ولما انفجرت الحرب على الساحة السورية وتأججت الصراعات الإقليمية، راح، هو هذه المرة، يقيم فصلا بين انخراطه في الحرب السورية وفي الصراع الإقليمي من جهة، والتزامه بالمنظومة السلطوية اللبنانية، من جهة أخرى. إلى أن أتى الانهيار الاقتصادي والمالي، فانتقل إلى الخط الأمامي لترميم النظام الفاشل والعاجز.

تحول التناقض التأسيسي لحزب الله إلى افتراق عملي: إنجازات عسكرية مقاومة أظهرت أن الشعب اللبناني والشعوب العربية تزخر بالطاقات الفنية والتنظيمية على نقيض ما رسخه تاريخ أنظمة الهزيمة من إحباط ومن استسلام وجوديين، وانهزام سياسي جعل حزب الله أسير سجنين: النظام اللبناني الساقط، النقيض للدولة والساعي للاستغناء عنها، وحسابات دول إقليمية تسعى للتشكل كقوى مستقلة على الساحة الدولية في ظل المتغيرات التي تشهدها.

مسألة سلاح حزب الله، عبر نشأتها ومراحل تطورها، وصولا إلى مفصل اليوم بخطورته، تطرح إشكالية أساسية: علاقة السلطة بالمجتمع، أي موقع الدولة، حاجة للمجتمع وشرعية ضمنه. لا الترتيبات الإقليمية ولا التسويات الداخلية باتت تسمح بإخفاء الخيار أو تأجيله، بين أن يكون للبنان دولة تحمي مجتمعه في الداخل، وتتعامل مع دول الخارج كدولة، ومن دون دولة، لا خارج ولا داخل بل تداخل واستباحة وارتهانات. ولم تعد إشاحة النظر عن ضرورة حسم هذا الخيار تنفع، سواء بإنكار الخطر على المجتمع من غياب دولة تحميه بشد العصب اتجاه تآمر الخرج، أو بصد الانتقادات التي تصيبه بوصفه شريكا في النظام الساقط بالتورية حينا، والاختباء خلف حكومات الواجهة، وبحمل راية محاربة الفساد حينا، وباتهام المنتقدين بتهم شتى حينا آخر.

كما باقي الأحزاب في لبنان، ووفق منطق علاقات السلطة الطائفية، اكتسب حزب الله، انطلاقا من تنظيمه الأساسي، شرعيته الشعبية الواسعة ضمن الطائفة الشيعية، من تأييد الناس له لمواجهته خطرا وتهديدا حقيقيين، إنما الخطر والتهديد هنا لم يأتيا من الداخل، بل كانا خارجيين بالمطلق، مصدرهما العدو الإسرائيلي، من دون مواجهة أطراف داخلية، أقله منذ رسو الترتيب الاقليمي. وقد أحرز في مواجهته نجاحات باهرة. وهو بهذا يختلف عن الأحزاب الطائفية الأخرى لسببين: السبب الأول أن تلك الأحزاب واجهت “أخطارا” مستشعرة داخلية أو ممتزجة بأخطار داخلية، كما حصل مع المواجهة التي قادتها ميليشيات “الجبهة اللبنانية” ضد “الغرباء”، وإنما أيضا ضد “حلفاء” الغرباء من أبناء البلد. والسبب الثاني أن المواجهات التي خاضها أحرزت نجاحات باهرة، من دون استعانة بمقاتلين من أطراف أخرى، على خلاف الأحزاب الطائفية الأخرى.

ليس حزب الله بالتالي الكلام جسما غريبا عن المجتمع اللبناني، مهما شدد على تمايزه السلوكي، لا بل هو يمثل حالة قصوى لآليات التجييش التي تكمن في المجتمع، وشعارات “شيعة شيعة” دلالة بشعة عن ذلك وامتهان لتضحيات المناضلين. ونحن نعتبر أن الكفاءة القتالية العالية، وليس السلاح، التي راكمها لبنانيون ولبنانيات في المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، تشكل رصيدا كبيرا للبنان. آخذين ما سبق بالإضافة الى موجبات العداء للمشروع الصهيوني، يصبح لزاما أن يتمحور النقاش حول انتقال المقاومة، مع الحفاظ على فعاليتها، من مقاومة “طائفة” ومن عمل عسكري، إلى منظومة وطنية، عسكرية طبعاً، وإنما منخرطة ضمن مشروع سياسي يرسي شرعية دولة مقتدرة، فتتوزع أعباؤها على الجميع كما يعود نفعها على الجميع، وتصيب الأسس التي أسست للهزيمة وللانهزام، بدل أن تكون أسيرة دور في سلطة ساقطة أو على هامشها أو في الدفاع عنها. لا يجوز الاستمرار في أسر يحول الوسيلة إلى غاية.

حقيقتان لا تنفصلان: كل عمل عسكري يكون خاضعاً للسلطة السياسية للدولة. والعداء للمشروع الصهيوني أساسي لتكريس شرعية الدولة. أشكال تأدية العمل العسكري، على أهميتها وعلى تنوعها، تبقى خيارت إجرائية.

شُنّت حملة هائلة ضد فقرة مجتزأة من شرح كان الأمين العام يقدمه عن أهمية القرار السياسي الذي اخذته اقلية من المواطنين لمواجهة الهزيمة عقب الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، وعن أهمية حمل من يقاوم الهزيمة مشروعا جامعا بديلا عن النظام الذي ارتضى الهزيمة، أي ائتلاف الطوائف برهاناتها وارتهاناتها، بدل الانخراط في النظام الطائفي نفسه وذلك بسبب التزام حزب الله بعقيدة دينية طائفية. ربما كانت التعابير المستخدمة غير مناسبة، فلم نتردد في الاعتذار عن الإساءة ممن شعر بها بين ابناء مجتمعنا، لكن التوضيح لم يغير من المواقف شيئا، لأن النظام كان يواجه بإصرار لإطالة أمده على حساب المجتمع.

أمام حزب الله خيار حاسم وإن كان صعبا، لأنه الطرف الأقوى في لبنان، وقوته شعبية قبل أن تكون عسكرية، ولأنه الأكثر عرضة للتهديد الخارجي. الخيار بين أن يبقى أسير البنيان الطائفي، ويتحمل تبعات تدميره للمجتمع، وأسير المحاور الإقليمية، في تصادمها وفي تسوياتها، وبين أن ينخرط، عبر التفاوض، في انتقال سلمي للسلطة يرسي شرعية دولة، الدولة الفعلية الوحيدة الممكنة في لبنان، أي الدولة المدنية، بما يستتبع وثوق شرعيتها من مترتبات، ومنها العداء للمشروع الصهيوني.