فاجأت مظاهرات 17 تشرين اﻷول 2019 الجميع. باستثناء المصارف التي قررت في اليوم عينه أن تتوقف عن الدفع. السياسيون وعامة الناس، بمن فيهم المتظاهرون، لم يستطيعوا تقييم الأحداث. وقد خرج الاجتماع الأخير لمجلس الوزراء بورقة إصلاح هزلية للغاية لم يكن لها أي وقع في الشوارع والساحات.

في مواجهة الغضب الشعبي العارم، اعترى السياسيين الخوف. عادوا إلى حيلهم المفضلة: ألاعيب التموضع والتلاعب بمخاوف الناس.

فيما يتعلق بالتموضع، قدّر بعض الأطراف أن من مصلحتهم التموضع اليوم استباقا لما بعد الأزمة، بعدما أدركوا وقعها السياسي على الناس، وإن لم يدركوا أبعادها، فتحولوا إلى “معارضين”. كان سمير جعجع الأسرع في التموضع، تلاه وليد جنبلاط إنما بحذر. في 29 تشرين الأول، أعلن سعد الحريري استقالة حكومته، على الرغم من الضغوط التي مارسها حزب الله وحركة أمل، لا بل من توسلهما بقاءه.

آخرون رأوا في الانتفاضة الشعبية مؤامرة من الخارج وسببا، لا نتيجة، للأزمة الاقتصادية، فقرروا المواجهة. سعوا إلى إخافة المتظاهرين بأعمال عنف منظمة ومدروسة بدقة. طلب حسن نصر الله من أنصاره بحزم مغادرة الساحات. وراح حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر يبحثون عن وسيلة للاحتواء. قرروا أن يحكموا لوحدهم، ولكن من دون أن يسفروا عن وجوههم. بعد التواصل مع عدة “وجوه” من السنّة، وقع الاختيار على حسان دياب، لتأليف حكومة ممن يسمون “تكنوقراط”.

تعتبر حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” بأن حكومة حسان الدياب مجرد واجهة لسلطة الأمر الواقع، أي سلطة زعماء الطوائف، الساقطة إجرائيا. الهدف من وراء تألفيها كان استيعاب الغضب الشعبي وهدر الوقت بانتظار تسويات خارجية. كان أداء “الحكومة الواجهة” كارثيا: من دون أن تدري ماذا تفعل، أعلنت التوقف عن الدفع وأطلقت التفاوض مع صندوق النقد ثم أوقفنه، ووضعت موازنة هزلية من دون مناقشتها، وهدرت مليارات من الدولارات من دون أفق أو هدف.

تنقسم السنوات الثلاثون منذ نهاية الحرب الأهلية إلى حقبتين متساويتين:

  • خمس عشرة سنة أولى، كانت السلطة تتشكل تحت “رعاية الحكَم السوري”، ممثلا بمن ارتضوا وصايته من زعماء الحرب، بشراكته مع السعودية ممثلة برئيس الحكومات رفيق الحريري، كانت الحكومات خلالها تؤلف بسرعة ويتولى “الحكم السوري”، بشراكته مع السعودية، ترتيب أمورها، تشكيلا وتوجيها.
  • وخمس عشرة سنة ثانية، بعد سحب الوكالة من السوريين، معيارها حكومات “الوحدة الوطنية”، أي ائتلاف ممثلي تعاونية الزعماء الطائفيين، الأصيلين منهم المشاركين في السلطة منذ مطلع التسعينيات، والطارئين الذين دخلوا في نادي الحكومات بعد زلزال سنة 2005، أي حزب الله والقوات اللبنانية والتيار الوطني الحر والكتائب. كان تأليف كل حكومة خلالها يستلزم مفاوضات طويلة وملتبسة.

كل من هاتين الحقبتين استدعت تحضيرا وترتيبا لبضعة سنوات، ولم تخلُ أي منهما من فترات توتر وارتباك. لكن ذلك لا يلغي السمة الغالبة لكل منهما.

حكومات “الوحدة الوطنية” في العالم/ تأتي في الحالات الاستثنائية، كالحروب مثلا. تحويلها إلى قاعدة يلغي كل الكلام عن ثنائية برلمان وحكومة وعن فصل سلطات ورقابة. حكومات “الوحدة الوطنية” في لبنان ليست حكومات بالمعنى المألوف للكلمة، بل هي محطات استراحة، أو هدنة، بين جولتين من التوترات الإقليمية، يسعى خلالها كل من زعماء الطوائف للتوفيق بين ارتهاناته أو رهاناته الإقليمية وحرصه على استبقاء النظام وتكييفه من دون الانزلاق إلى العنف على الساحة الداخلية، وهذا ما يسمى تحديداً “النأي بالنفس”. في غياب الهدنة يكون الفراغ وانتظار التأليف أو حتى “حكومات لون واحد”. والهدنات تأتي دائما بترتيب أو بإيحاء خارجيين: “مؤتمر الدوحة، “التسوية الرئاسية”، “مؤتمر سيدر”… أما جولات التوتر فكانت، تباعا، مسلسل الاغتيالات، وحرب 2006، والمحكمة الدولية، والحرب في سوريا، وأخيرا إفلاس البلد.

عند كل هدنة، يجهد زعماء الطوائف لإدخال تعديلات على نظام “تعاونيتهم”، ويحولون تغيرات موازين القوى الإقليمية إلى “مكاسب” و”استعادة حقوق”، فيسمونها أعرافا وينتجون عبارات تضاف إلى معجم خطابهم: الثلث الضامن/المعطل”،”الشعب والجيش والمقاومة”، “الوزارات السيادية والوزارات الخدماتية”، “المكونات الرئيسية”، “الميثاقية والتوازن الوطني”… وكلها تقع، خلف الصياغات اللفظية، ضمن منطق صياغة حقوق النقض المتبادلة، أي منطق تعطيل إمكانيات اتخاذ أي قرار.

تعتبر حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” أنّ المبادرة الفرنسية تهدف أساساً إلى ترميم النظام الطائفي وإطالة أمده، كما فعلتْ عبر مؤتمرات باريس 1 و2 و3 وآخرها مؤتمر سيدر.

تسعى المبادرة الفرنسية التي طرح فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تأليف “حكومة مهمة”، أي حكومة مهمتها القيام بتنظيم عملية “الشحادة” من الخارج عبر مجموعة “إصلاحات” مزعومة هي تكرار لنغمة قديمة عن مكافحة الفساد؛ وبالتالي، تحافظ على استقرار النظام الطائفي المسؤول عمّا وصلنا إليه من مآسٍ.

فرنسا دولة، والعلاقات الشخصية والتاريخية ليست محركها الرئيس، بل يتوجب النظر إلى اهتمامها بلبنان انطلاقاً من اعتبارها أن لبنان بات مدخلها الرئيس إلى منطقة خسرت فيها مواقعها، إثر رهانات خاطئة اتخذتها، وإثر اقتحام الولايات المتحدة الأميركية للمنطقة بأسرها منذ اجتياح العراق. تدخلها اليوم جزء من أجندةِ مصالحها في شرقي المتوسط، في ظل التوترات الحاصلة في المنطقة والمنافسة التركية-الفرنسية، مستغلّةً الارتباك الأميركي الحاصل.

قد يكون هناك منفعة للبنان بالتعامل مع هذا التدخل وفاقا للمصالح اللبنانية، طبعا بشرط الانطلاق من منطق دولة لبنانية، وليس من منطق التحيّن والمناورة الذي أبدع فيه زعماء الطوائف والذي أفقد الرئيس الفرنسي صوابه. إعادة فرنسا النظر في خياراتها يتطلب جرأة كبيرة. من دون ذلك سوف تبقى المبادرة الفرنسية عاجزة ليس فقط عن الإسهام في الحد من استباحة المنطقة وتهديد استقرار الحوض المتوسطي بمجمله، بل حتى عن تأجيل مفاعيل بنتيجة عدم استعداد أيٍّ من أركان المنظومة لتحمل أية مسؤولية.

التحدي كبير ولكنه تحدٍّ مزدوج.

ترفض حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” اعتماد العقوبات على أية دولة كوسيلة من وسائل التعامل بين الدول. فالعقوبات التجارية والمالية على الدولة ليست سوى حصار على شعوبها.

الزعم بأنها تؤدّي إلى معاقبة الحكّام وإخضاع الأنظمة أو تأليب السكّان ضدهم تدحضه كل الوقائع في العالم، وفي منطقتنا بالأخص بعد ما شهدته من تجارب مؤلمة تكرارًا. ما تؤدّي إليه تلك العقوبات فعليًا، وبمعزل عن طبائع الأنظمة التي تدّعي العقوبات إصابتها، هو التضييق على حياة السكّان وتشجيع المهرّبين والمحتكرين، ودفع من يستطيع إلى مغادرة البلاد، وتعزيز شرعية السلطات القائمة كونها تصبح في موقع الدفاع ضد خارج معتدٍ على أهل البلد. في المحصلة يتمّ تشويه المجتمع وإصابة بنيته الأساسية، البشرية والمعنوية، إصابات بليغة ومديدة الوقع والتأثير.

غالبًا ما يختلف هدف العقوبات، مثلها مثل أشكال العنف الأخرى، عن الروايات التي تغلِّفها. والأدلة على ذلك عديدة. فالدول التي تفرض عقوبات غالبًا ما تفرضها على دول تكون قد دعمت أنظمتها لفترات طويلة، وخير مثال على ذلك الولايات المتّحدة الأميركية في تعاملها مع العراق ومع سوريا ومع باناما وغيرها، ما يبدِّد كل مزاعم الدوافع الأخلاقية وراء العقوبات. الغاية من العقوبات في الكثير من الأحيان إرغام “حلفاء” تمردوا على مرجعيتهم على العودة للسير في ركبها. وفي كل الحالات تُستخدم الشعوب، قبل حكّامها، أدوات مسترخصة لتحقيق مكاسب لا علاقة لها بالدولة المستهدفة 

العقوبات التجارية والمالية وسيلة خبيثة، وهي لا تنمّ عن فائض قوة الدولة التي تبادر إليها وعن تفوّقها على الدولة التي تعاقبها، لأن ميزان القوى التلقائي لا يخفى إلّا على الأغبياء. بل هي تشي بحاجة الدول التي تبادر إلى فرض العقوبات لحشر “الحلفاء” والاستقواء عليهم قبل الاستقواء بهم، للتغطية على تراجع قدراتها وشرعيّتها السياسية نسبة إلى منافسين مُستجدّين، مستفيدة من خبث “المستحلَفين” وارتباكهم السياسي. العقوبات التجارية والمالية هي أخذ الشعوب والمجتمعات رهائن للتغطية على الفشل السياسي، سواء لدى المبادر إليها، أو لدى السائر بركبه أو حتى، في أحيان كثيرة، لدى القيادة التي تستهدفها تلك العقوبات.

طرح الحياد ليس جديدا في لبنان، ومقولات “قوة لبنان في ضعفه” و”النأي بالنفس” تشير، كل منها في حقبة تاريخية، إلى الفكرة نفسها. وها هو قد عاد اليوم. في المتخيل العام، يربط اللبنانيون مقولة الحياد بالمثل السويسري ويعتبرون أن الحياد خيار سياسي، إذا اتخذه لبنان، يحصل على منافع اقتصادية وعلى الازدهار، تشبها بسويسرا.

ما هي مندرجات الحياد؟ ما هي الدوافع إليه؟ وما هي مفاعيله المرتجاة والمتحققة؟

  • يجب التمييز بين عدة مفاهيم للحياد: يمكن أي بلد أن يقف موقفا محايدا من نزاع عسكري معين، فلا يتدخل مع أي من طرفيه من دون الحاجة لأية إجراءات شكلية، يمكن بلدا أن يعلن حياده رسمياً ليس من نزاع ظرفي قائم بل من نزاعات محتملة بين مجموعتين من البلدان، على شاكلة دول “حركة عدم الانحياز”، أثناء “الحرب الباردة” بين المعسكرين “الغربي” و”الشرقي”، يمكن أيضا أن يلتزم بحياد اتجاه سائر الدول كلها، وحتى عندها يمكن حياد البلد أن يقتصر على عدم المشاركة بالأعمال الحربية ويمكنه أن يشمل عدم بيع الأسلحة وعدم توريد الموارد التي تدخل في إنتاج الأسلحة أو عدم استقبال الوافدين الرسميين من البلدان المحاربة، إلخ.
  • تبدو الدوافع إلى الحياد بديهية إذ توحي الكلمة بتلافي أعباء الحروب والنزاعات ومضارها. فيصبح السؤال: لماذا لا تعلن كل الدول حيادها، ما عدا تلك التي تتبنى مواقف عدوانية، وهي قليلة، لا بل أن الدول العدوانية نفسها تدعي أن قواتها العسكرية دفاعية ليس إلا؟ الجواب بسيط: لا صدقية لأي حياد تعلنه دولة ما، ما عدا الدول الأقوى التي تعتبر أن سائر الدول تهابها إلى حد يلغي أية إمكانية لدولة ما بالاعتداء عليها، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة الأميركية خلال مراحل طويلة من تاريخها باعتمادها سياسة الانعزال، وصولا إلى عدم انضمامها لعصبة الأمم بين الحربين العالميتين. أو الدول المهزومة التي فرض المنتصرون في الحرب نزع سلاحها مع الالتزام بحمايتها عبر إقامة قواعد لقواتهم فيها، اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثثانية مثالا. إعلان أية دولة لحيادها كفعل ذاتي لا يجوز اعتباره عملا جديا، إذ أنه ينافي الوظيفة الأساسية لمؤسسة الدولة أو يتجاهلها. لا يمكن الحياد أن يكون قرارا ذلتيا. ومنظمة الأمم المتحدة لم تنشأ، ومن قبلها عصبة الأمم، إلا إثر الحرب العالمية، وكان هم منشئيهما تلافي حصول أية حروب لاحقة من خلال آليات محكمة للتشاور وإنما أيضا للقمع، وبقيت نتائجها، على الرغم من ذلك، محدودة.
  • دول عديدة أعلنت حيادها وسجلته في دساتيرها بعد أن التزمت به الدول الكبرى وتلك المجاورة لها، لكن الغالبية العظمى من حالات الحياد هذه أطاحت بها الحروب: بلجيكا واللكسمبورغ بعد الحرب العالمية الأولى مثالا. لذلك لا بد من الدول التي تعلن حيادها من تحصينه، أولا، بتعهد كل الدول التي يمكن أن تنشب بينها حروب ونزاعات، وليس الدول التي قد تتقصدها عدوانيا فقط، باحترام حيادها، وثانيا، بتكوين قدرات دفاعية ذاتية رادعة بالقدر الذي يجعل خرق التعهدات الخارجية مكلفا جدا لمن يفكر به، وثالثا، باعتناد سياسة خارجية حذقة، سواء استباقا للحروب أو، بالأخص، خلالها. لا يجوز تجاهل أن سويسرا التي تعهدت كل القوى الأوروبية باحترام حيادها في معاهدة فيينا سنة 1815، إثر حروب نابليون، هي من أكثر البلدان تسلحا وقدرة على الاستنفار في العالم حتى اليوم، ومتابعة تصرفها خلال الحرب العالمية الثانية خير دليل.

الحياد غير متاح أصلا إلا بوجود دولة قوية ومقتدرة. وطرحه في لبنان يأتي بتقديمه بديلا عن وجود دولة قوية أو مدخلا مشكوكا بجدواه لترميم دولة هزيلة. هذا كمنطلق، يأتي من ثم شرط الالتزام الفعلي لكل الدول، الكبرى والمجاورة، بحياده. والشرطان غير متوافرين. علما أن البديل عن الحياد ليس أبدا الدخول المتهور في النزاعات.

تعتبر حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” أن التدقيق الجنائي هو مناورة لا أكثر، تهدفُ إلى هدر الوقت وتصفية الحسابات في حين أن المجتمع مهددٌ ببقائه.

 العقبات أمام التدقيق الجنائي كثيرة، منها التذرع بالسرية المصرفية وهذا ما قام به رياض سلامة فعلًا وجاراه في ذلك مجلس النواب، أي ممثلو الزعماء الطائفيين. كما أن التدقيق لا ينتج عنه سوى تقرير يُقدم للحكومة، لكن المحاسبة تبقى على عاتق القضاء الغائب كلّيًّا، فهل سيحاسب القضاء المرتكبين في مصرف لبنان أم سيتعامل معهم كما تعامل مع أصحاب المصارف ومع تصرف ممثلي زعماء الطوائف من الوزراء بالمال العام خلال عقود؟ ثم إن الحكومة قد عيّنت مفوضها لها لدى مصرف لبنان، وهو مدير عام في وزارة المال وليس عاملاً في المصرف المركزي ولا يخضع بالتالي بتاتا للسرية المصرفية المذكورة في المادة 151 من قانون النقد والتسليف، إلا فيما خص زبائن المصارف، وليس المصارف ولا حسابات الدولة طبعاً، وهو مسؤول عن مراقبة عمل المركزي ويحق له الاطلاع على حساباته ومستنداته كافة، فلماذا لا يقوم بعمله؟

نستنتج من هذا كله أن التدقيق الجنائي مجرّدُ مناورة لكسب الوقت عبر إثارة الموضوع إعلاميًّا ليتلهّى به الرأي العام، وقد يكون من ورائه أيضًا تصفية حسابات بين أركان السلطة. بالإضافة إلى ذلك، فإن موقع حاكم المصرف رياض سلامة أقوى من التدقيق الجنائي وغيره، فهو يؤدي وظيفةً حيوية للمنظومة بكاملها بوصفه المدير المالي لها.

ليس العداء موقفا لفظيا ولا هو حالة طبيعية في العلاقات بين الدول، بل هو موقف استثنائي يرتب على من يلتزم به أعباء جساما. غالبا ما يكون العداء مجرد موقف لفظي. وحتى متى كان جديا، يتوجب أن يقوم على خيار عقلاني، لا أن يأتي نتيجة مشاعر ذاتية، واقعية متأصلة أو مفتعلة لخدمة غايات معينة، وإلا يتحول من يلتزم به إلى أسير له. ولا بد بالتالي من أن يكون مبررا بأسباب وأهداف. العداء يكون ردا أو قصدا، ردا على سلوك عدواني تعتبره الدولة مهددا لمصالحها الأساسية، أو قصدا لفرض ما تعتبره الدولة تحقيقا لمصالحها الأساسية، وهو بالتالي يفترض عداء مقابلا أو يستولد عداء مقابلا. في الحالة الأولى تكون غايته تعطيل الأسباب التي أدت إلى اعتماده، أي فرض تغيير القواعد العدائية لسلوك الخصم، أما في الحالة الثانية فتكون غايته فرض تحقيق الهدف الذي يرمي إليه، أي فرض تسليم الخصم بالشروط التي تحقق هذا الهدف.

العداء ينطوي حكما على مخاطر استخدام العنف، بأشكاله المختلفة، لكنه لا يقتصر على استخدام العنف. فالعداء فعل سياسي بينما العنف وسيلة، والتهديد به جزء من حالة العداء، ردعا من موقع العداء الدفاعي، وترهيبا من موقع العداء العدواني.

نحن، في حركة “مواطنون ومواطنات في دولة”، نعتبر أن المشروع الصهيوني، في أساسه، وقبل أن ينشئ دولة ويشكل مجتمعا، مشروع عدوان يصيب مجتمعنا ويهدد أسس شرعية الدولة المدنية الذي يحتاجها.

المشروع الصهيوني نشأ من تقاطع مسعيين: تأطير رعايا الأمبراطورية القيصرية اليهود في مشروع قومي، إثر تعرضهم للاضطهاد نتيجة اعتمادها القومية الروسية اساسا لشرعية السلطة، والمراهنة الدؤوبة على كسب دعم الدول العظمى من خلال التجند لخدمة مشاريع بعضها في الإقليم، سواء في المرحلة الاستعمارية عبر توفير المساندة للبريطانيين في الحرب العالمية الأولى، وللفرنسيين غداة الحرب العالمية الثانية، أو في المرحلة الإمبريالية، عبر التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية.

لم يكن إنجاز أي من هذين المسعيين تلقائيا. فالتشكل القومي ليهود أوروبا الشرقية كان على تعارض مع ميل العديد منهم للهجرة إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية من جهة، ولانخراطهم العديد منهم أيضا في الحركات الليبرالية والاشتراكية في بلدانهم أو في البلدان التي هاجروا إليها. الفظائع التي ارتكبها النازيون خلال الحرب العالمية الثانية عززت الخيار الصهيوني. أما توسع المشروع الصهيوني ليطال يهود الدول العربية، فلم يحصل إلا بعد إنشاء دولة إسرائيل وقد اعتمد على استغلال حثيث لا بل على افتعال وتأجيج لمصاعب مجتمعاتها. أما المراهنات الخارجية فكانت دوما محفوفة بالمخاطر، وتكفي الإشارة إلى ما ولده انحياز الحركة الصهيونية لبريطانيا من امتعاض في ألمانيا استغله النازيون في حملات الإبادة، وإلى تصادمها مع بريطانيا عندما راحت تخسر مستعمراتها على الرغم من رعايتها له طوال مرحلة “انتدابها” على فلسطين، وإلى ما ولده انحيازها للأمريكيين في الاتحاد السوفياتي من مناهضة للتوسع الإسرائيلي حتى السبعينيات.

نجاح المشروع الصهيوني ترجم إقامة لدولة قوية وتشكيلا لمجتمع، من ضمن هذه الدولة، بات أوسع وأكثر تعقيدا من مجموعات رواد المشروع الأصليين. تفاقمت الإشكاليات المجتمعية بحكم تزايد الفوارق الطبقية والثقافية بداخله وإنما أيضا بنتيجة ضم أعداد كبيرة ومتزايدة من العرب الفلسطينيين سواء ضمن حدود سنة 1948 أو ضمن المناطق المحتلة سنة 1967. نجاح المشروع في تشكيل مجتمع ولّد حاجة متزايدة لاستبقاء عدوانيته، وإلا تتفلت التناقضات الطبقية والثقافية داخل المجتمع، وتُصاب أسس شرعية الدولة التي حرصت على “الديمقراطية” و”العدالة الاجتماعية” و”حكم القانون”، لا لشيء بل للتمكن من استيعاب المهاجرين اليهود، فتتعطل فاعلية المشروع الأصلي بذاته. الحاجة الوظيفية للعدوانية ترجمت، بشكل متزايد منذ عقد التسعينيات،  توسيعا مستمرا للمستوطنات، ومنحا المستوطنين الامتيازات، وتعميقا لنظام فصل عنصري، وبناء للجدار، وانسحابا من غزة مع فرض الحصار عليها، وعزلا “للجيوب الفلسطينية”، ونموا للنزعات الدينية الأصولية، وانحرافا متزايدا للتشكل السياسي اتجاه اليمين المتصلب، وإعلانا ليهودية الدولة، وإطباقا على ما سمي “مسيرة السلام” و”حل الدولتين”.

لم يتعامل المشروع الصهيوني يوما مع المجتمعات الذي زرع كيانه بينها، وأولها المجتمع اللبناني، إلا باحتقار شديد، في سياق الفكر الاستعماري الذي نشأ المشروع ضمنه. ودأب على تفتيتها وتعزيز انقساماتها واستغلالها لإضعاف ممانعتها طبعا وإنما أيضا لتظهير، لا بل لصناعة الأشكال من “الأعداء” التي تصون لحمة مجتمعه وعصبيته وتعزز مبررات دعمه لدى الدول الغربية، من الأصوليات الدينية تحديدا. ولم يحد يوما عن اعتبار أي مشروع سياسي “نهضوي”، بدءا من المشروع الناصري، تهديدا له، ليس بقدراته العسكرية حصرا بل بمضمونه السياسي الذي يصيب أسس المشروع الصهيوني وشرعيته ضمن مجتمعه ولدى داعميه على السواء. و”التطبيع” الجاري مع عدد متزايد من الأنظمة العربية يندرج في هذا السياق تماما، فهو، إلى جانب المصالح التجارية التي يوفرها، يرمي إلى إعادة تشكيل المجال الإقليمي جيوسياسيا عبر تهميش الدول المحيطة لا بل تفتيتها (لبنان وسوريا والعراق) وتطويع مصر والأردن (السيطرة على البحر الأحمر عضوية في هذا السياق) وربط إسرائل بالخليج كقطب مقابل لها، وصولا إلى المحيط الهندي وآسيا. وعملية التطبيع هذه تستغل حاجة الأنظمة التي تنجر إليه إما للحماية الأميركية وإما لـ”ـلمساعدات” الأميركية. عداء لبنان للمشروع الصهيوني ليس إيديولوجيا ولا لفظيا، وليس مقتصرا على مساحة محتلة من الأرض، قد تسوى، أو على رفض الظلم الإجرامي الذي ألحقه بالشعب الفلسطيني، الذي قد يرضخ بعض ممثليه للقهر فيسلموا به، بل هو ينبع من كونه، كمشروع سياسي في الأساس، يعارض الشرعية المدنية للدولة التي وحدها تستطيع تأطير مصالح مجتمعنا. المشروع الصهيوني يتعامل مع المجتمعات عموما بوصفها طوائف وشبكات سلطوية، ويتعامل مع منطقتنا بوصفها ممرات استراتيجية ونفطا، ويثابر على دك الشرعية الداخلية للأنظمة، ولا سيما التحديثية الوطنية، وعلى تعزيز العصبيات العنصرية فيها، وهو يفعل ذلك حتى في المجتمعات الغربية وصولا إلى رفع منسوب القلق ضمن المجموعات اليهودية فيها، وعلى ابتزاز الانظمة ومصالح حكامها. عداء لبنان، كدولة، أي كمشروع سياسي، للمشروع الصهيوني هو بالتالي عداء أصيل وعقلاني.

المطالبة هي اعتراف ضمني بشرعيّة الجهة التي تُطالب وبقدرتها. نحن متأكدّون من أنّ زعماء الطوائف أعجز من اتخاذ أي قرار (سيئ أم جيد، لا فرق وهذا نقاش آخر). لذا لا نرى اي جدوى من مطالبتهم بإجراء إصلاحات من هنا أو من هناك. الطرح الوحيد هو فرض التفاوض على انتقال سلمي للسلطة.

لأن السلطة لا تقتصر على طبقة سياسية أو زعماء أو فئة معيّنة، بل هي منظومة العلاقات داخل المجتمع، فأي تغيير في نظام إجتماعي-سلطوي، إن لم يأتِ مفروضاً من الخارج بالقوة، يأتي نتيجة تفاوض يفضّل أن يكون سلمياً في حال تعامل القيّمون على النظام بعقلانية. أمّا في حال سقطت الرهانات على عقلانية هؤلاء وتحسسهم للمسؤولية، فالتفاوض يأتي لينهي مرحلة الفوضى والاحتراب. من الأجدى اليوم العمل على فرض تفاوض سلمي على الزعماء الذين لا يزالون يتمتّعون بدعم شعبي كبير بدلاً من الدفع نحو فوضى تسمح للكيانات الطائفية (وليس الزعماء قصراً) أن تحكم قبضتها على ما سيتبقى من المجتمع.