الحياد

طرح الحياد ليس جديدا في لبنان، ومقولات “قوة لبنان في ضعفه” و”النأي بالنفس” تشير، كل منها في حقبة تاريخية، إلى الفكرة نفسها. وها هو قد عاد اليوم. في المتخيل العام، يربط اللبنانيون مقولة الحياد بالمثل السويسري ويعتبرون أن الحياد خيار سياسي، إذا اتخذه لبنان، يحصل على منافع اقتصادية وعلى الازدهار، تشبها بسويسرا.

ما هي مندرجات الحياد؟ ما هي الدوافع إليه؟ وما هي مفاعيله المرتجاة والمتحققة؟

  • يجب التمييز بين عدة مفاهيم للحياد: يمكن أي بلد أن يقف موقفا محايدا من نزاع عسكري معين، فلا يتدخل مع أي من طرفيه من دون الحاجة لأية إجراءات شكلية، يمكن بلدا أن يعلن حياده رسمياً ليس من نزاع ظرفي قائم بل من نزاعات محتملة بين مجموعتين من البلدان، على شاكلة دول “حركة عدم الانحياز”، أثناء “الحرب الباردة” بين المعسكرين “الغربي” و”الشرقي”، يمكن أيضا أن يلتزم بحياد اتجاه سائر الدول كلها، وحتى عندها يمكن حياد البلد أن يقتصر على عدم المشاركة بالأعمال الحربية ويمكنه أن يشمل عدم بيع الأسلحة وعدم توريد الموارد التي تدخل في إنتاج الأسلحة أو عدم استقبال الوافدين الرسميين من البلدان المحاربة، إلخ.
  • تبدو الدوافع إلى الحياد بديهية إذ توحي الكلمة بتلافي أعباء الحروب والنزاعات ومضارها. فيصبح السؤال: لماذا لا تعلن كل الدول حيادها، ما عدا تلك التي تتبنى مواقف عدوانية، وهي قليلة، لا بل أن الدول العدوانية نفسها تدعي أن قواتها العسكرية دفاعية ليس إلا؟ الجواب بسيط: لا صدقية لأي حياد تعلنه دولة ما، ما عدا الدول الأقوى التي تعتبر أن سائر الدول تهابها إلى حد يلغي أية إمكانية لدولة ما بالاعتداء عليها، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة الأميركية خلال مراحل طويلة من تاريخها باعتمادها سياسة الانعزال، وصولا إلى عدم انضمامها لعصبة الأمم بين الحربين العالميتين. أو الدول المهزومة التي فرض المنتصرون في الحرب نزع سلاحها مع الالتزام بحمايتها عبر إقامة قواعد لقواتهم فيها، اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثثانية مثالا. إعلان أية دولة لحيادها كفعل ذاتي لا يجوز اعتباره عملا جديا، إذ أنه ينافي الوظيفة الأساسية لمؤسسة الدولة أو يتجاهلها. لا يمكن الحياد أن يكون قرارا ذلتيا. ومنظمة الأمم المتحدة لم تنشأ، ومن قبلها عصبة الأمم، إلا إثر الحرب العالمية، وكان هم منشئيهما تلافي حصول أية حروب لاحقة من خلال آليات محكمة للتشاور وإنما أيضا للقمع، وبقيت نتائجها، على الرغم من ذلك، محدودة.
  • دول عديدة أعلنت حيادها وسجلته في دساتيرها بعد أن التزمت به الدول الكبرى وتلك المجاورة لها، لكن الغالبية العظمى من حالات الحياد هذه أطاحت بها الحروب: بلجيكا واللكسمبورغ بعد الحرب العالمية الأولى مثالا. لذلك لا بد من الدول التي تعلن حيادها من تحصينه، أولا، بتعهد كل الدول التي يمكن أن تنشب بينها حروب ونزاعات، وليس الدول التي قد تتقصدها عدوانيا فقط، باحترام حيادها، وثانيا، بتكوين قدرات دفاعية ذاتية رادعة بالقدر الذي يجعل خرق التعهدات الخارجية مكلفا جدا لمن يفكر به، وثالثا، باعتناد سياسة خارجية حذقة، سواء استباقا للحروب أو، بالأخص، خلالها. لا يجوز تجاهل أن سويسرا التي تعهدت كل القوى الأوروبية باحترام حيادها في معاهدة فيينا سنة 1815، إثر حروب نابليون، هي من أكثر البلدان تسلحا وقدرة على الاستنفار في العالم حتى اليوم، ومتابعة تصرفها خلال الحرب العالمية الثانية خير دليل.

الحياد غير متاح أصلا إلا بوجود دولة قوية ومقتدرة. وطرحه في لبنان يأتي بتقديمه بديلا عن وجود دولة قوية أو مدخلا مشكوكا بجدواه لترميم دولة هزيلة. هذا كمنطلق، يأتي من ثم شرط الالتزام الفعلي لكل الدول، الكبرى والمجاورة، بحياده. والشرطان غير متوافرين. علما أن البديل عن الحياد ليس أبدا الدخول المتهور في النزاعات.