لا شك أن هناك جيلًا من اللبنانيين ما زالت ذكرى الاستقلال في ٢٢ تشرين الثاني تستولد عندهم مذاقاً غريباً، يمتزج فيه المرّ والحلو. ذكريات من الطفولة، الطقس خارج المنزل ماطر وبارد، التلفزيون يكاد يكون المنفذ الوحيد لتمضية الوقت، والشاشات جميعها تبث العرض العسكري في الموعد المخصص بالعادة لبرامج الأطفال الصباحية. كان هناك شعور غريب ومسلٍ آنذاك في فكرة أن الإذاعات المختلفة تقدم الصورة ذاتها، للعسكريين والمدرعات. كما أن الموسيقى المبنية على الألحان المكرّرة تطنّ في الاذن طويلاً بعد انتهاء العرض.

بين الأكبر سناً من المقيمين اليوم في لبنان، كان خبر انتماء أحدهم الى العسكر والوظيفة العامة يدل على مكانة اجتماعية مرموقة ومرغوبة.

وهذا كل شيء.

مع مرور السنوات والعقود، يجد أبناء ذاك الجيل ومن بعده أنفسهم في علاقة مختلفة مع الحياة والرموز. الطقس اليوم في الخارج ”مقرف“، والطرقات ”مبهدلة“، البنزين لم يعد متوفراً لإقامة عرض عسكري كما في الماضي، وفائض الصور بين شاشات التلفزيون والهاتف يبعث بكل الأحول بوعيٍ حادٍ بمرور الوقت، عندما لا يشعرك بضياعه أو بالعدم.

ربما يحدّق بنات وأبناء ذاك الجيل بصمت نحو أطفالهم وأحفادهم ويتساءلون، على ضوء تجربتهم، ماذا يدور في ”رؤوس“ هذه الكائنات الصغيرة؟ وأي اشخاص سوف يصبحون؟ هل تدغدغ مخيلتهم الصور ذاتها، أم انهم يتلقفون غيرها؟

الحقيقة أن رمزيات الوطن لم تواكب الاجيال المتتالية في لبنان منذ سنة ١٩٤٣ بعد لحظات العرض العسكري الأولى، هذه اللحظات التي أمّنت بعض شروط تلقفها الطفولة، بانفتاحها على الحياة.

خلال سنوات المراهقة، سوف ينفر جزء من اللبنانيين من رمزيات الوطن كافةً بسبب برنامجي امتحانات البريفيه والبكالوريا، المركبين مثل العوائق، وبخبث، تحضيراً لهجرتهم ولإرضاء معايير الجامعات الغربية. ثم بعد مدة، سوف يكتشف أو يدرك بعضهم من خلال الأحاديث الجامعية، أن جزءًا كبيرًا من السردية الرسمية كان كذبًا ما بعده كذب. فيما ستبدو بطولات حصلت في مواعيد مختلفة عن تاريخ ٢٢ تشرين الثاني اكثر اقناعاً. لكن السرديات البديلة، راديكالية أو فئوية كانت، لن تقدّم الكثير بدورها، إذ أن الجزء الاكبر من الناس سوف يستقر على اعتبار مكان الاقامة، المكان الذي استوطنه اجدادهم وكبروا فيه، عبارة عن ورطة وجودية حقيقية، وتاريخه دوامة فارغة. ”يلي خلق علق“ يقول اللبنانيين.

هذا المسار لعلاقة الفئات العمرية المتعددة مع الرمزيات الوطنية، لو افترضنا تحققه عند اكبر عدد من الناس، ولو وجد القارىء أو القارئة شيئًا من ذاته في كلامنا، هذا المسار يغفل الكثير، بل يكاد يغفل الأساس.

في حين يفيض الخطاب العام بالسرديات المتناحرة، والتي قد تتناول بعضها ”واقعة الاستقلال“ المحتفل بها، من زاوية نقدية أو فئوية، تكاد تشترك كافة السرديات المقدمة للبنانيين في الاعلام أو من خلال الانظمة التربوية الطائفية أو الفئوية في تهميش تاريخ مقومات ومرتكزات العيش في لبنان. اذ قد تحقَّق الأفضل في هذا العيش، منذ سنة ١٩٤٣، من خلال مكتسبات نالها اللبنانيين بفضل نضالات بناتهم وأبنائهم، وقد جاء بعضها في ظروف عالمية استثنائية تميّزت بنزعة للشعوب المستعمرة نحو الاستقلال وطلب الترقّي. مكتسبات مثل التعليم الرسمي، والجامعة اللبنانية، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، التي انتُزعت بالقوة من الطبقات المسيطرة لأن الفقراء الذين هم السواد الاعظم من أجداد هذا الشعب، أرعبوا الطبقات المسيطرة رعباً شديداً. كان ذلك في زمن كانت فيه السلطات تطلق النار على التظاهرات الطلابية وتقتل منهم العشرات.

إن هذه المكتسبات هي من أعمدة استقلال الشعب اللبناني الفعلية وقاعدة تحرره من أَسر المخربّين الممسكين بوطنه. هي ما أتاح الفرصة لغالبية الأطفال ان يشاهدوا العرض العسكري في طمأنينة المنزل عوض عن أن يُرسلوا الى الخارج للعمل أو التسول لإعانة أسرهم. وقد تلمّس جيل لبناني كامل، بات اليوم هرماً وصامتاً، التحول الكبير في أنماط العيش الذي صاحب الترقي الطبقي والانساني الذي قدّمته هذه المؤسسات في مرحلة انطلاقها.

هذه المكتسبات، شعب لبنان اليوم في طور خسارتها نهائياً في ظل صمت وخفّة، بل تآمر كبير، عند المسؤولين السياسيين والإعلاميين، هذا فيما لا تدرك الاجيال الناشئة ما الذي خسرته فعلياً.

العودة الى الذكريات المشتركة مفيدة احياناً، لتذكير اللبنانيين أن كان لديهم شيء لطيف مشترك في وقت أو في آخر، رغم كل شيء. وأنهم اليوم يخسرون هذا الشيء بالفعل، وأن الأمر يتخطى الملموس مباشرةً من دوامة المصائب العالقين فيها، من تدهور سعر الصرف وإفلاس. ما يخسره اللبنانيون اليوم هو محصول تضحيات استثنائية قدّمها اهلهم، ولا يمكن معالجة الأمر بالخطوات الناقصة وتدوير الزوايا والانتظار، ويتطلب منهم وعيًا وإيمانًا كبيرين بقدرتهم الخاصة كما كان حال أسلافهم في الماضي. وليس الأمر بالصعب إذا ما تدارك المرء أن الوضع العام، ووضع الأضعف بيننا، يعني ويطال كل واحد منا شخصياً.

إن الوطن هو أولاً تلك الطمأنينة التي توفّرت للمحظيين منا في ظروف محصورة، هو ذاك الشعور بالانتماء الى مكان لطيف ورقيق، والفرح الناتج عن ادراك أنه لك منذ المهد ودون منة. هو ما يقدّمه بالعادة الوالدان، والحبيب أو الحبيبة. أما الاستقلال، فهو يقضي بتأمين شروط هذه الطمأنينة، وبأعلى المستويات، لجميع بنات وأبناء هذا الوطن. هذا هو الاستقلال الذي من أجله تستحق كل التضحيات وتكتسب الحياة معناها. فكيف بوطن يمكنه بمقدرّاته الطبيعية والبشرية أن يقدم أكثر بكثير.