مئوية لبنان الكبير… لماذا الدولة المدنية؟
مقال لأسامة الشيخ، عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة
مضى مئة عام على تلك الصورة للجنرال غورو في قصر الصنوبر، يجلس إلى جانبه عدد من رجال الدين والسياسة اللبنانيين، وهو يعلن قيام “دولة لبنان الكبير”. لم يقتنع أهل لبنان كلهم يومها بأن هذا الكيان وطنهم وحدوده هي تلك التي خطّها الفرنسيون، لذلك راحوا يكتبون في كلّ دستور يضعونه “لبنان وطن نهائي”. مرّ البلد خلال مئة عام بتقلبات وتغيرات وأزمات كثيرة، لنعود اليوم إلى مشهد يشبه ذاك الذي كان قبل قرنٍ من الزمن. الخيارات التاريخية، التي لم نقم بها، استحقت كلّها الآن.
قبل طرح الحلول واتخاذ الخيارات، يجب معاينة أصل العلّة وفهم عمقها وأبعادها. فما هي علّة لبنان؟
قلّما شهد، وربما لم يشهد لبنان دولةً فعلية مكتملة الشرعية تفرض سلطتها وتتحمل مسؤولياتها، بل كان الحال دومًا عبارة عن ائتلافٍ لطوائف تتفق على السلم وفق صيغة تحاصصية تضعف وتقوى ولكنها تنتكس أمام كل استحقاق يفترض التغيير عبر اتخاذ قرارات جريئة وحاسمة. هذه الطوائفية، والتي هي شكل من أشكال القبلية على نطاق واسع، عزّزت مفهوم الجماعة على حساب المواطنة من خلال شبكة من المصالح الوهمية لكل طائفة في مواجهة الأخرى وهي أدّت بدورها إلى تكوّن هواجس مختلفة عند كثير من أبناء المجتمع.
إحدى هذه الهواجس العميقة الموجودة اليوم، هي شعور من يعتبرون أنفسهم ينتمون إلى الطوائف الأقل عددًا، أي “الأقليات”، بأنهم مهددون بما يحصل في الإقليم من صراعات ويخافون على مصيرهم أن يكون كمصير الأقليات الأخرى في العراق وسوريا وما حلَّ بهم من قتل وتهجير فظيعين. كذلك قسم من اللبنانيين تتمثل هواجسهم بتخلي الدولة عن مسؤولياتها في مواجهة الاحتلال والعدوان الإسرائيلي والخطر التكفيري، مما أدّى بالكثيرين لفقدان كامل الثقة بالدولة. حال القلق على الوجود والمصير دفعت كل طائفة، مجبرةً، إلى التحالف مع طرف خارجي لتحمي نفسها وتؤمّن مصالحها، ما سهّل الطريق للتدخل الخارجي الذي وصل إلى حدّ الوصاية المباشرة. ومع حصول التجاذبات بين الأطراف الدولية المتحالفة مع طوائف الداخل تنعكس الصراعات الخارجية على أرضنا، فيصبح الداخل مرآة للخارج وتشتدّ الفُرقة وتتعمق الهواجس أكثر.
للأسباب نفسها، وعند كل اختلال في ميزان القوى بين الطوائف من جهة وتزايد الفروقات الطبقية وبروزها من جهة أخرى، تنشب التوترات الأمنية التي تتطوّر لتصبح حروبًا أهلية كما حصل عامي 1860 و1975. وقد نتج عن الحرب الأهلية الأخيرة (1975-1990) النظام السياسي المتداعي اليوم. هذا النظام قام منذ بدايته على تقاسم زعماء الميليشيات لموارد الدولة والاقتصاد، وبذلك، لا يُعتبر الفساد هامشيًّا في لبنان، بل هو من صلب النظام السياسي حيث المحاصصة الطائفية في الإدارات والحكومات لتقاسم الدولة، والكارتيلات في مختلف القطاعات لتقاسم الاقتصاد والقطاع الخاص. نحن اليوم أمام استحقاقات كبيرة وتاريخية، الإفلاس وخطر الحرب الأهلية والوصاية الخارجية.
إذا، كيف تكون الدولة المدنية هي الحل لسلسلة الأزمات المركّبة والمعقدة؟ كيف تبدّد الهواجس التي لا تنتهي؟
أولًا، في بلد تتعدد فيه الطوائف، لا يمكن قيام دولة تستمد شرعيتها من الدين، كما لا يمكن أن تستمد شرعيتها من القومية كون اللبنانيين لم يتفقوا على قومية واحدة، وبالتأكيد ليس من الطائفية، فالطائفية نوع من القبلية، والقبلية تتناقض بشكل تام مع مفهوم الدولة، إذ لا يمكن للدولة أن تقوم وتكتسب شرعيةً إلّا بعلاقتها المباشرة مع مواطنيها، أي قدرتها على تسيير مصالحهم والدفاع عنها والروابط المجتمعية التي تخلقها بين المقيمين على أرضها. والشرعية هنا هي المبرر الذي على أساسه تمارس الدولة سلطتها على الناس وتكتسبها من خلال تأديتها لواجباتها وليس من خلال الانتخابات.
إن قيام دولة فعلية، دولة مدنية عادلة وقادرة، تلغي الفوارق بين الطوائف وتساوي بين جميع الأفراد دون استثناء أو خصوصيات، فتتبدّد المخاوف لدى الأفراد المنتمين إلى “أقليات” حيث يتساوون مع بقية أفراد المجتمع بحكم المواطنة؛ ويتبدّد أيضاً الشعور بالغلبة لدى الجماعات الأكثر عددًا، وبذلك يغلب الشعور بالانتماء إلى الوطن بأكمله بدل الانتماء إلى الجماعة الضيقة أي الطائفة. إضافةً، يؤدي إيقاف مفاعيل الإفلاس وتحقيق العدالة الاجتماعية إلى الحدّ من الهجرة عمومًا ومن هجرة الأقليات خصوصًا، وهذا يساهم في تبديد هواجسهم أكثر وترسيخ شرعية الدولة، أي تماسك المجتمع. فشرعية الدول تعكس مدى تماسك المجتمع ضمن إطار واحد. التماسك يؤدي حكمًا إلى إغلاق الباب أمام التدخل الخارجي وانحساره تدريجيًّا، فتصبح الدولة هي الممثل الشرعي الوحيد للمجتمع للتعامل مع الخارج بغضّ النظر عن السياسة الخارجية المتّبعة.
كذلك الأمر فإن وجود دولة شرعية قادرة تكنّ العداء المطلق لـ”إسرائيل”، ولديها المقومات العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية لتردع أيّ عدوان، ستعيد ثقة الكثيرين بالدولة وتُشرك بقية المجتمع في عملية الدفاع والتصدي، حيث إن الأمن والاستقرار – كما المصالح – في لبنان مترابط ولا يمكن أن يكون في منطقة دون أخرى. هذا ما يعطي للمقاومة والتصدي بعدًا وطنيًّا عمليًّا وليس نظريًّا. وتجدر الإشارة إلى أن الدولة المدنية المستمدة لشرعيتها من مفهوم المواطنة الذي يحافظ على تماسك المجتمع هي في حالة عداء مع أيّ مشروع استعماري يهدف إلى تفتيت المجتمع وتقسيمه، ويأتي المشروع الصهيوني في طليعة المشاريع الاستعمارية. بالتالي، ليست الدولة المدنية بطبيعتها ضد “إسرائيل”، بل الدولة المدنية في لبنان هي حكمًا كذلك، مما يفسر قيام دول مدنية في العالم لا تكنّ العداء للكيان الصهيوني الذي لا يشكل خطرًا عليها.
نحن اليوم في مرحلة مفصلية لم يشهد لبنان مثيلها في تاريخه المعاصر. إن انهيار النظام الاقتصادي والاجتماعي، في مئوية لبنان، عار ودليل على فشل الأجيال المتعاقبة. لكن قيام الدولة المدنية يشكل المنعطف الوحيد الذي سيغير مسار الانحدار، ليكون عام 2020، وهذه المرة عن حق واستحقاق، الولادة الثانية لـ”دولة” لبنان الكبير، والانتقال من حكم القبائل الطائفية إلى مجتمع ودولة. إما أن نقيم دولتنا بأيدينا وليس بفبركة خارجية أو أنها لن تكون أبدًا.