بيروت: المدينة والمرفأ وشبكة النقل
مقال ل علي الزين، عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة، تم نشره في جريدة الأخبار على هذا الرابط.
بالإضافة إلى الأضرار المادية والمعنوية الهائلة التي نتجت من انفجار مرفأ بيروت، أثار هذا الحدث المفاجئ أسئلة عدّة بخصوص المرفأ بحد ذاته. طاولت هذه الأسئلة، الحلول المرجوّة لإعادة إعماره، هيكلته، إدارته… من دون أن تتطرق النقاشات إلى اعتبار الأمر فرصة لإعادة النظر في شبكة النقل التي تخدم المرفأ خارج أسواره.
بعكس الأغلبية الساحقة من المرافئ التي تُعتبر رئيسية في دولها، لم ينعم مرفأ بيروت، منذ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، ببنى تحتية خاصة به لإخراج وإدخال البضائع (والركاب) إليه. إن شبكة النقل التي تؤمّن دخول البضائع إلى السوق اللبنانية أو خروجها نحو الدول العربية عبر المرفأ، تقتصر على الطرقات التي تؤدّي إليه والتي تتقاسمها الشاحنات مع السيارات حتى مدخله. الحديث هنا هو عن أوتوستراد بيروت – الشمال، وتحديداً عند مخرج بيروت الشمالي من وسط المدينة حتى «الفوروم دو بيروت» حيث يتلاقى الأوتوستراد مع الشريان الثاني، أي أوتوستراد إميل لحود الذي يصل مدخل بيروت الشرقي (من جهة البقاع) بالمرفأ. وجود الطرقات المؤدّية إلى مداخل المرفأ على مدخلين رئيسين لبيروت وتمحورهما حول واحدة من أكثر النقاط ازدحاماً (من شارل الحلو حتى الدورة) يشكّل نقطة الضعف الأساسية لشبكة النقل المؤدية إلى المرفأ.
رغم وضوح هذه المشكلة وأثرها السلبي على حركة دخول وخروج البضائع وعلى حركة السير في محيطه، إلا أنه لم تُجرَ حتى الآن، أي دراسة تهدف إلى إجراء نقلة نوعية في شبكة النقل المؤدية إلى المرفأ بعكس ما جرى في مرفأ طرابلس حيث تم وضع دراسات في السنوات الأخيرة تظهر إمكانية ربطه بالحدود السورية عند نقطة العبودية عبر سكة حديد تعيد إحياء جزء من خط طرابلس-حمص الذي توقف جراء الحرب الأهلية اللبنانية. بل أكثر من ذلك، وخلال مؤتمر «سيدر» في عام 2018 تم الاتفاق على أن يخصّص 1% من أموال المؤتمر لتمويل هذا الخط (يصعب الجزم بأن المشروع كان سيُنفّذ حتى لو جاءت أموال «سيدر»).
ويذكر أنه منذ نحو 120 سنة كان مرفأ بيروت ينعم بخط سكك حديد تم تأسيسه عام 1903 ليوصل أرصفته بمحطة بيروت الرئيسية بهدف ربطه بخط بيروت -دمشق – حوران، تسهيلاً لاستجرار القمح والحبوب من الشمال السوري إلى المرفأ.
ويضاف إلى شبكة النقل الضعيفة، وجود المرفأ ضمن محيط سكاني – تجاري -سياحي، حيث تنتشر بكثافة، المباني السكانية والأثرية كما المحال التجارية والشركات والمؤسسات السياحية والدوائر الرسمية ضمن قُطْر لا يتجاوز الكيلومتر الواحد، وفي بعضها تقلّ هذه المسافة إلى عشرات الأمتار كما هو الحال في الكرنتينا. وما الدمار الهائل الذي طاول هذا الحي والجميزة، مار مخايل، الأشرفية، وسط بيروت… جراء الانفجار، سوى دليل على مدى تقارب هذه الأحياء من المرفأ.
إنشاء شبكات نقل تربط بيروت بالمدن الأخرى وصولاً إلى شبكة القطار السورية، أو اتخاذ قرار جريء بنقل المرفأ شمالاً أو جنوباً
إن وجود هاتين الخاصّتين (ضعف شبكة النقل المؤدّية للمرفأ وموقعه الجغرافي ضمن محيط مدني عمراني كثيف) يجعل مرفأ بيروت يبدو بعيداً عن الخصائص التي تمتاز بها غالبية المرافئ الرئيسية في العالم والتي تتمتع بشبكة مواصلات خاصة بها: قطار بضائع وركاب يخدم المرفأ، طرق مخصّصة للمرفأ ومحيطه. فضلاً عن بُعد الأماكن السكنية والتجارية عنه، ما عدا ما له علاقة مباشرة بالعمل فيه… كما أنه يحرم بيروت أن تكون مدينة مرفئية بما تحمله هذه الصفة من موجبات تنظيمية على الصعيد العمراني والاقتصادي أو حتى الاجتماعي والسياسي.
إزاء هذا «الضعف» يظهر تساؤل حول ما يمكن فعله حالياً في ظل وجود جزء من المرفأ خارج الخدمة، والكلام عن مخطط إعادة إعماره.
في الواقع، للأسف، إن التمدّد العمراني والكثافة اللذين يلفّان المرفأ، بالإضافة إلى الضغوط المهولة على شبكة الطرق لا تجعل تخصيص شبكة نقل خاصة للمرفأ بالأمر السهل وذلك يفرض علينا خيارين أحدهما أصعب من الثاني؛
– الأول، هو البدء بإرساء شبكتَي نقل. الأولى تعتمد على نظام نقل حضري متكامل في بيروت الكبرى قوامه نظام نقل مشترك جماعي وليِّن يعمد إلى تقليل التنقلات بالسيارات وتخفيف الزحمة. والثانية، قوامها نظام نقل مشترك يعتمد أساساً على القطار للركاب والبضائع لربط بيروت بالمدن اللبنانية الأخرى، وبشبكة القطار السورية، ومنها بشبكات الدول المجاورة، ثم ربط المرفأ بهاتين الشبكتين. بذلك يتم تخفيف الضغط عن شبكة الطرق في بيروت وبالتحديد تلك المؤدية إلى المرفأ، ويقلّل الكمّ الهائل من الشاحنات على الطرق، ما يسهّل دخول وخروج الأفراد والشاحنات المتبقية إليه (أحياناً يكون نقل البضائع بالشاحنات أرخص وأسرع من القطار خصوصاً في المسافات القريبة وعلى المسارات القليلة الزحمة).
لا يجب هنا إغفال ما لهذه الخطوة من أهمية على صعيد تخفيف ضغط السير على المحاور الرئيسية ضمن بيروت، لكن أيضاً على الأوتوسترادات الرئيسية (باتجاه الشمال والبقاع) كما أثرها الإيجابي على تحسين السلامة المرورية.
– الخيار الثاني هو أخذ قرار جريء بنقل المرفأ من مكانه الحالي إلى منطقة أخرى شمال بيروت الكبرى أو جنوبها. إن قراراً كهذا، بالإضافة إلى ما يتطلبه من جرأة، إلا أنه أيضاً يجب أن يترافق مع خطة شاملة لإعادة تنظيم أحياء رئيسية من العاصمة وللمنطقة المنوي اختيارها لإنشاء المرفأ الجديد. كما يحتّم أيضاً ربط المرفأ بشبكة نقل خاصّة به، قوامها قطار بضائع وطرق مخصّصة للشاحنات تبعده عن المناطق السكنية.
إن هذا الخيار يساهم في إعادة تنظيم وترتيب بيروت وتخفيف الضغط عنها كما يسهم بإنعاش المنطقة المختارة للمرفأ الجديد ويفسح المجال لتخطيطها بطريقة سليمة لتفادي الوقوع بما حصل في حالة مرفأ بيروت. بعيداً عن الشق التقني للموضوع، إن كلَّ ما يُخشى في هذا القرار هو الحساسيات الطائفية والمناطقية التي سترافقه، وقد شهدنا أحداثاً مماثلة مع الحديث عن توسعة الأحواض في مرفأ طرابلس منذ بضع سنين.
الخيار الأخير هو الإبقاء على المرافئ كما هي مع توزيع ثقل الاستيراد والتصدير في لبنان على عدة مرافئ أبرزها طرابلس وصيدا. ولكن في بلد صغير جغرافياً وهزيل اقتصادياً مثل لبنان يبدو هذا الخيار صعباً وغير محبّذ.
في الظرف الراهن محلياً وخارجياً، لا نملك ترف الوقت بتاتاً، لذا يجب التحرك بسرعة للانطلاق في خطة إعادة إعمار المرفأ بالترافق مع وضع خطّة نقل خاصة به لما لذلك من نتائج إيجابية متوقّعة على الصعيد المحلي وعلى صعيد التنافس الإقليمي أيضاً، لأن المرافئ الأخرى تتوقّع تطوّراً قريباً، ولا سيما مرفأ حيفا في فلسطين المحتلة وسط الحديث عن مشروع قطار سيربطه بدول الخليج، بعد توقيع اتفاقيات التطبيع بين هذه الدول والكيان الإسرائيلي منذ بضعة أسابيع.