العنف المتواري في طرابلس
*عبيدة ويوسف تكريتي
العنف المتواري خلف “السلم”
في تلك الرحلات المدرسية المتكرّرة لزيارة صخرة الروشة تأكيدًا على هويتنا المشتركة، ثلاثة حواجز كانت كفيلة ليشعر الطلاب بأنهم مميزون لحملهم “هوية” إضافية كطرابلسيين، بالإضافة إلى كل الصفات المرفقة بهذه الهوية؛ تلك التي عليهم أن يعملوا جاهدين لنفيها أو تبريرها. في طريق العودة، تمرّ بحاجز للجيش عند نقطة المدفون فتتأكد أنك اجتزت لبنان لتصل إلى “لبنان الشمالي”، يليه حاجز لقوى الأمن الداخلي عند البحصاص لتعرف أنك وصلت إلى طرابلس، انتهاءً بتلك الحواجز الداخلية، قبل 2005، بين مناطق المدينة لقوات “الردع”، وهو الاسم الذي يطلقه الطرابلسيون على عناصر الجيش السوري النظامي. يحلو للكثيرين اختصار هذه الهوية المميزة باعتبار طرابلس “قلعة للمسلمين”، وكأنه يذكّر الجميع بأن هذه المدينة مغلقة، وبأنها -بمنظماتها الإسلامية- خطر على الوطن وعلى أهل المدينة “المساكين”. يذكّر الجميع بساحة “النور” كذكرى لسيطرة حركة التوحيد الإسلامية عام 1982 على طرابلس، وكأنه حدث منفرد وغريب لا علاقة له بخمسة عشر عامًا من “الحرب الأهلية”. وكأن هذه الأحداث لم تتوقف مع إعلان الطائف، فأحداث الضنية عام 2000 كما أحداث نهر البارد وفتح الإسلام في 2006 كانت كفيلة لتعزيز تلك الصورة النمطية للمدينة. حوّل السياسيون هذا الخوف من “الإرهاب” والضرورة للحفاظ على “السلم الأهلي” إلى أداة سياسية استطاعوا من خلالها إدارة المجتمع.
يطالعنا الكثير من المثقفين، خاصة الطرابلسيين منهم، حول الهوية المميزة لأهل المدينة، وكأنها خاصية يولدون بها وامتياز يجب الافتخار به! ولا ينتبه هؤلاء إلى أن هذا التميّز هو إحدى طرق العنف تجاههم، فهذه “الهوية” جعلتهم في العقود الثلاثة الماضية متهمين دون أن يُقدِموا على أي فعل. كما جعلتهم يعيشون في قلق دائم خوفًا من أن تنكّل بهم القوى الأمنية سجنًا أو إهانةً لحملهم هذه الهوية. هي أيضًا إهانة ووزر ضمن حدود المدينة، فمن يحملها هو فقط ذلك الذي يعيش في الجزء الشرقي من المدينة، الجزء الأفقر والأكثر تهميشًا، وهو بذلك المذنب أيضًا، دون أن يقوم بأيّ شيء، لتدهور صورة المدينة المتخيّلة. كل هذا العنف المنظّم والمتراكم يتلاشى فجأة ويصبح موضوعًا سخيفًا وثانويًّا لمثقفي هذا البلد، ووجهائه، وضباطه. فهم يتفاجؤون لرؤية بعض أعمال الشغب ضد مؤسسات حكومية، فيستنكرونه بشدة. ولطالما كرّروا انذهالهم من كل تلك الصور والأعلام لدول وشخصيات إقليمية كحالة غريبة عن “ثقافة” أهل المدينة.
يأتي ساسة هذا الوطن ليؤكدوا نظرتهم باستحالة التحوّل إلى دولة مدنية في ظلّ كلّ تلك الفروق الطائفية والمناطقية، ويساندهم بذلك الأمنيون الذين يؤكدون عزمهم الحفاظ على “السلم”. مسرحية تعيد تمثيلها السلطة عند كل اختلال لسيطرتها، بالعنف المنظّم والهمجي بوجهه القمعي الشرس، مستترة وراء كل تلك الشعارات التي تبجّل تميز هذه المدينة وأهلها. تلجأ السلطة إلى العنف كوسيلة، كما تقول هانا أراندت، عندما تفقد قوتها الحقيقية وشرعيتها المجتمعية. وما “أعمال الشغب”، إن كانت عشوائية أو مسيّسة، وردة فعل السلطة تجاهها إلّا تأكيد للحقيقة، وهي أن السلطة سقطت.
العنف المتواري خلف “الأعمال الخيرية“
ما هو أعنف من وسم المدينة بالإرهاب، هو اعتبار الفقر جزءًا من هوية مجتمع بأكمله، وبذلك نخلق صورة لذاك المسكين المتسوّل مقابل كل المتصدقين الأخيار. متنوعون هم “رواد الأعمال الخيرية” كما تفسيراتهم للفقر؛ فالجمعيات الخيرية، مثلًا، بمحسنيها من الطبقة الميسورة والمتوسطة ينظرون إلى الفقر كبلاء من الله والكون، وهم بالطبع المنتدبون للمساعدة كطريقة للتكفير عن كل ذنوبهم. أما المنظمات غير الحكومية فتُرجع الفقر إلى نقص في القدرات التقنية أو القيم الثقافية، فتغرق المجتمعات الفقيرة بدورات مهنية تحت مسمّى “التمكين”، ومحاضرات عن المواطنة. ثم يأتي الوجهاء في المدينة ليلقوا اللوم على تلك السلطة المركزية المتآمرة، فهي التي سرقت أموال هؤلاء الفقراء وأوصلتهم إلى هذا الدرك. أما الزعماء فيضيفون البعد الطائفي إلى البعد المناطقي فيتهمون بذلك الشيعة والمسيحيين بسرقة أموال إخوانهم السنة. هو الفقير والمهمّش أكثر من يعرف الحقيقة مجرّدةً، أن الفقر أداة للسيطرة المجتمعية، أداة لا تقلّ عنفًا عن الأمن إلّا لاستتارها بالرداء البطولي لفاعلي الخير. والمشكلة في الفقر، كما يقول سلافوك جيجيك، هو أن “الظالمين” يختبئون وراء عيوب النظام الذي لم يفكروا يومًا في نقده. وكم هو مهين لكل من همّشهم النظام وأفقرهم عبر عقود متتالية، أن يذلّهم مرارًا بتوسل المساعدة للصحة والغذاء والتعليم! ثم يذلّهم مجددًا وبكلّ عنف بوسمهم بالتسوّل الجماعي من خلال أعمال الشغب، وكأنهم يعبرون عن فقرهم وحاجتهم لا عن غضبهم ونقمتهم. استطاعت السلطة رشوة الفقراء -كما غيرهم- وقمعهم، لكن حين تفقد القدرة على الاستمرار في الرشوة، تصبح عاجزة عن الوفاء بـ”وعد الزبائنيّة” فتتزعزع أركانها.
للسلطة قدرة لامتناهية على إعادة تعريف العنف، فقتل الناس ببطء، وإفقارهم بانتظام، وتحطيم أحلامهم، وإهانتهم باستمرار هي أمور ثانوية وقدر إلهي. أما أعمال الشغب، الموجهة أو العشوائية أو المندسّة، فهي أعمال شريرة خارجة عن الطبيعة ومنافية لقيم هذا البلد! فحرق البلدية والمحكمة الشرعية، واقتحام مؤسسة كهرباء لبنان، وسبّ الزعماء أجمعين، أو إغلاق الطرقات هي جرائم لا تغتفر، وتستدعي تشديد القبضة الأمنية حفاظًا على “السلم”، كما استنهاضًا لأعمال “الخير”. بذلك يعيد النظام تحطيم كل محاولة للتغيير، يعيد لململة نفسه بادعاء قوة مزيفة، علّه يصرف نظر الناس ومعرفتهم لحقيقة أن السلطة قد اهتزّت شرعيّتتها وركائزها، رغم استغلالها للعنف لتثبيت قوتها، قد سقطت فعليًّا.
إن سقوط السلطة فرصة لا تعوّض، فالنظام يتشكّل في ظروف تاريخيّة كهذه. وبدل أن تتحوّل طرابلس (وغيرها) إلى بؤرة للقمع الأمني وتجمّعٍ للمنظمات غير الحكومية، المطلوب اليوم لنقض هذه السرديات والأفكار هو الدفع إلى قيام تنظيمات تحوّل الغضب إلى عمل سياسي، وتعيد توجيه البوصلة نحو تأمين شبكة الأمان الاجتماعي، من تعليم مجاني وطبابة لجميع المقيمين والمقيمات تقطع أيدي الزبائيّة و”الخير”، فنبنيَ دولة المجتمع بأسره.
*أعضاء في حركة مواطنون ومواطنات في دولة