لقراءة الواقع عبر المصالح
رباب يحيى*
حان الوقت لأن نزيل عقدة “الهوية الطائفية” أو أيّ هوية أخرى، من صلب أيّ عمل سياسي معارض. إذا أردنا أن نواجه نظامًا قائمًا على إثارة تناحر مبني على اختلاف الهوّيات، يجب أن نترفّع عن الدخول في صراع الهوّيات ذاته، لأن ذلك يعني اللعب في ملعب النظام. فنظام كهذا يجمع أفرادًا ذوي مصالح متعددة تحت هوية واحدة، ويضخّم وجود مصلحة موحدة لهذه الهوية، غالبًا ما تكون هي المصلحة بالوجود والبقاء. لذلك لا نحتاج إلى هوّية “لاطائفية” تأتي لتتبنى سردية النظام. لقد انزلق العديد من حركات المعارضة قبل وبعد ١٧ تشرين للتقسيم الثنائي والعمودي للمجتمع، “مع الطائفة” أو “ضد الطائفة”، مع “الثورة” أو “ضد الثورة” وكأن الأفراد ضمن هذه الخانات جميعهم يمتلكون الحاجات والمصالح نفسها، وكأن الحل يكمن بإلغاء الفئة الأخرى، أو بتبني “هوية لبنانية جامعة”، أيضًا تضم فئات ذات مصالح متعددة. لالتماس الواقع من حولنا، يجب أولًا أن نتصالح مع فكرة “الطائفة”، ثم أن نحاكي الواقع عبر صراع المصالح.
كُثر هم الأشخاص الذين يسعون لدحض “الطائفية” عبر رفض وإقصاء كل ما يتعلق بالطائفة. ولكن الحقيقة هي أن “الطائفية” وكذلك “الطائفة”، هما مصطلحان فضفاضان، قد يحملان معاني وتأويلات مختلفة. مع الارتباط اللصيق بين الهوية الطائفية والهوية المناطقية، الطائفة قد تتعدى بُعدها الديني لتتضمن أبعادًا اجتماعية وثقافية نابعة من عادات وتاريخ ومآسٍ مشتركة. من المهم أن نفهم السياق السياسي والتاريخي الذي صَنع، وما زال يصنع مختلف مكونات الهوية الطائفية في لبنان، وأن نعي أيضًا أن هذه الهويات تتغير وليست أبدية، وأنها تتقاطع مع هويات أخرى فردية أو جماعية. طبعًا، ليس للطائفة مكونات ثابتة تصنع هوية موحدة لكلّ أفرادها. قد يختلف أو يتقاطع مثلًا ما يندرج ضمن الهوية الطائفية للشيعي الجنوبي والشيعي البقاعي، أو السني الطرابلسي والسني البيروتي. وهنا يظهر الطابع غير الحصري للهويات، حيث يمكن للفرد أن يمتلك هويات متعددة، يتقاطع بعضها مع بعض ليصنع هويته الفردية. إلّا أننا إذا سلّمنا جدلًا بأن كل الأبعاد الاجتماعية والثقافية والمناطقية/الطبقية المختلفة التي قد تُلصق بالطائفة هي فعليًّا مرتبطة بها، لأقول إننا جميعًا نمتلك هوية طائفية بدرجات متفاوتة. قلّة في لبنان هي التي في تكوين هوّيتها الفردية، لم تقتبس أمورًا قد تندرج ضمن الهوّية الطائفية. فإذا كان الصراع السياسي ليس بين من يملك هوية طائفية ومن لا يملكها، فما هي طبيعة هذا الصراع والانقسام إذن؟
قراءة الانقسام يجب أن تنطلق من مبدأ إرساء حقوق ومصالح: المواجهة أولًا مع من يريد، ويرضى، بتغليب مصالح قلّة قليلة على مصالح أغلبية المجتمع، وهذه الفئة قد تتضمن أناسًا “لاطائفيين”. نرى ذلك اليوم في التوزيع غير العادل للخسائر واستماتة أحزاب السلطة للدفاع عن أصحاب المصارف. فمن اللافت أن مهمة حكومة الإنقاذ كانت قد أُوكلت إلى سعد الحريري، وهو مالك سابق لبنك البحر المتوسط. والآن تألّفت حكومة برئاسة نجيب ميقاتي، الذي يملك حصصًا في مصرف سرادار، ويمتلك هو وأخوه طه حصةً في بنك عودة، أكبر مصرف في لبنان. هذا الجانب من الصراع ليس محصورًا بالأحزاب الطائفية، فقد نجد حركات معارضة تكتفي بطابعها “اللاطائفي” وتتبنى سردية صراع الهويات، من دون الإعلان بوضوح عن موقفها من صراع المصالح، وهنا تكمن أهمية وجود مشروع سياسي.
أما الانقسام الثاني، فهو بين من يربط مصالحه بمصالح الطائفة ومن لا يربطها بها. أي مع الذين لا يزالون يناصرون أحزاب الطوائف. إن النظر إلى مناصري أحزاب الطوائف كأفراد وجدوا مصلحتهم من مصلحة الطائفة، يجنبنا منزلق الفكر الإلغائي، وهو يسمح بفهم الأسباب والهواجس التي تدفع الأفراد لرؤية مصالحهم ضمن الطائفة. وهي طبعًا أسباب مختلفة ومتشعبة وقد تختلف بين الطوائف والأفراد. فربط المصالح بالطائفة، أي ربطها بمجموعة، ليس أمرًا سيئًا بحدّ ذاته. لكن المشكلة هي أن النظام المبني على أساس توافق الطوائف يتناسى أن في هذه الطوائف أفرادًا ذوي مصالح مختلفة. ولذلك يصنع أحزابًا محدودة في خياراتها، غير قادرة على إدارة المجتمع، أو اتخاذ أيّ قرار واضح يحرمها من تأييد جزء من أفرادها. من الواضح أن الأحزاب القائمة على أساس حماية حقوق الطوائف قد اتخذت ضمنيًّا قرارًا بإنقاذ نفسها عبر السكوت عن مصالح أغلب المجتمع، وإن ادّعت عكس ذلك. فإذا كان الخوف الوجودي هو الذي يدفعنا لربط مصالحنا بالطائفة والحفاظ على الأحزاب القائمة، فإن التهديد الحقيقي يكمن في الحفاظ على هذه الأحزاب ومنظومتها. وإن واقعنا اليومي في لبنان هو خير دليل.
في الخلاصة، لسنا أمام صراع هويات، بل صراع مصالح، وعلى من يتلطّى خلف الهويات أن يحسم خياره ويوضح عن أيّ مصالح يدافع.
*عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة.