بين التفاوض السلمىِّ والوعي الاجتماعي
مقال لسمير العيطة نشر على موقع الشروق تاريخ 19 أيلول 2021 على هذا الرابط.
لم يكن تغيير سلطة قائمة، مهما كان فشلها ومقدار الدمار الذي ألحقته بمجتمعاتها، أمرًا سهلًا في أيّ يومٍ من الأيّام. ومهما كان نظام الحكم الذي تعتمده تلك السلطة صوريًّا للهيمنة على هذا المجتمع وعلى دولته. فكلّما ظهر فشلها وآثاره جليًّا، زادت شراستها فى استخدام آليّات مؤسّسات الدولة لقمع مجتمعها واستغلال أمراض المجتمع ذاته لدفعه إلى «قوقعة فئويّة» وتوظيف علاقاتها الخارجيّة لتثبيت موقعها. وبالتالي تتحدّى أيّة إمكانيّة لتفاوض سلميّ يُمكن أن يُنهي استئثارها بالسلطة «إلى الأبد».
لا يحتاج الأمر الكثير من البراهين لتوضيح فشل السلطة القائمة فى سوريا، مهما كان حجم المؤامرات الخارجيّة التي تعرّضت لها البلاد. فهذه المؤامرات والتدخّلات ليست جديدة فى التاريخ السوريّ. إنّ السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تمّ اعتمادها خاصّة منذ العام 2000، فضلًا عن قمع الحدّ الأدنى من الحريّات، هي التي صنعت أرضيّة التفجّر الاجتماعي. بالمقابل استبدلت السلطة التعامل السياسيّ فى مواجهة الانتفاضة الشعبيّة بالحلّ الأمنيّ «المجنون»، أي زُجّ جيش البلاد في صراعٍ ضدّ المجتمع. وما أدّى إلى انقسام الاثنين على بعضهما البعض.
لم تجرؤ السلطة على التفاوض السياسيّ المباشر حين كان ذلك ممكنًا، أي بالتحديد فى صيف 2011. آنذاك رفض الرئيس الجلوس على طاولة «اللقاء التشاوري للحوار الوطني السوري» الذي جرى في مجمّع «صحارى» قرب دمشق، وضرب بمقرّرات اللقاء الذي رعاه نائبه عرض الحائط. ولم تردَع مبادرة المبعوث الأمميّ كوفي عنان بنقاطها الستّ السلطة عن الاستشراس فى حلّها الأمني كي تذهب البلاد فى صيف 2012 إلى «الحرب الأهليّة» المفتوحة وتنفلت التنظيمات المتطرّفة وصولًا لإنشاء «دويلاتها». لكنّ فرص التفاوض السياسيّ عادت واقعيًّا منذ سنة 2015، إلّا أنّ السلطة استهزأت بها، وما زالت تستهزئ، سواءً جرى هذا التفاوض مباشرةً في جنيف أو في موسكو، أو بشكلٍ غير مباشر.
لم يعُد وضع سوريا يشبه كثيرًا اليوم عمّا كان عليه فى 2011، بالتزامن مع شرذمة البلاد وتواجد القواعد الأجنبيّة والانهيار الاقتصادي والمعيشي. كما تغيّرت الأوضاع الإقليميّة والدوليّة بشكلٍ كبير مؤخّرًا. وهذا ما يجعل التساؤل عمّا إن كانت هناك إمكانيّة لحلّ سياسي مشروع، أي لحلٍّ على أساس التفاوض السياسيّ السلمي!
يعتمد موقف السلطة السوريّة اليوم على شعورٍ تعمل على نشره مفاده أنّها «انتصرت». علمًا أنّ التدخّل العسكري لروسيا الاتحاديّة وبشكلٍ أقلّ الولايات المتحدة هو الذي أدّى إلى القضاء على دويلة «داعش» وأسّس للتوافقات الدوليّة على تجميد الأوضاع الميدانيّة على واقعها الحالي. هذا دون الاستخفاف بحجم التضحيات البشريّة التي دفعها السوريّون من أجل ذلك. لكنّ تدخّلات هذه الدول، وكذلك تركيا وإيران وغيرهما، تجعل هدف «إعادة توحيد البلاد» بعيدًا عن الإمكان عبر الحلّ العسكري. فلا سبيل لذلك سوى عبر حلٍّ سياسيّ مقبول دوليًّا يقوم على أسس قرار مجلس الأمن 2254.
إلاّ أنّ السلطة تُبدي انزعاجًا شديدًا عندما يتمّ الحديث، خاصّة من قبل روسيا الاتحاديّة، عن هذا القرار وعن تشكيل «هيئة حكم انتقاليّة جامعة تخوّل سلطات تنفيذيّة كاملة». فهذا يعني القبول بتفاوض سوري مباشر معها لإنهاء احتكارها للسلطة. بالمقابل لا يزعجها كثيرًا التفاوض الذي لا نهاية له فى جنيف على دستورٍ جديد، مع غياب القوى التي تهيمن على الشمال الشرقيّ، وتشرذم فريق «المعارضة» في اللجنة الدستوريّة.
ما يدفع لهذا الانزعاج هو أنّ «السلطات التنفيذيّة الكاملة» تعني، بين أمورٍ أخرى، قيادة مؤسّسات الدولة العسكريّة والأمنيّة، حيث لا بدّ من توحيد الجيش وإعادة تنظيمه وضبط الأمن فى كافّة المناطق ومكافحة التنظيمات المتطرّفة، وكذلك قيادة مؤسّسات العلاقات الخارجيّة، إذ لا بدّ من التعامل بعقلانيّة سياسيّة مع كافّة الدول المنخرطة فى الصراع وعلى الأرض السوريّة، وعلى الأخصّ إيران وتركيا.
فى هذا السياق، لا يشكّل التبدّل البطيء للمواقف الإقليميّة والدوليّة حول مقاطعة الدولة السوريّة والعقوبات الأحاديّة الجانب عليها «انتصارًا» للسلطة بقدر ما يدلّ على تغيّر الأوضاع الإقليميّة والدوليّة، والقناعة التي باتت واضحة اليوم، حتّى في الولايات المتحدة، أن سياسات القطيعة والعقوبات لا تؤدّي سوى إلى ترسيخ هيمنة السلطة القائمة ورفدها بالموارد الماليّة وتجويع الشعب ودفعه إلى الإحباط والهجرة. هذا بالإضافة إلى إظهار السلطة أنّ وصول أيّة مساعدة إنسانيّة خارجيّة يعني انتصارًا و«منّةً» منها على المواطنين والمواطنات.
بالمقابل، ما زالت السلطة السوريّة تقمع بشراسة أدنى الحريّات، وتستخدم مؤسّسات الدولة لقهر المجتمع، أفرادًا ومجتمعات أو حتّى شركات اقتصاديّة. كما ما زالت تستغلّ أمراض المجتمع وزجّ فئاتٍ منه ضدّ أخرى. وترمي تداعيات سياساتها على خلفيّة مؤامرات الخارج وحدها، بما فيها القطيعة والعقوبات.
هكذا تُغيِّب السلطة عن جميع المواطنين، وعمّن التزموا، رغم كلّ شيء، بخدمة الدولة السوريّة وعمّن تخوّفوا من التنظيمات المتطرّفة وعمّن استهجنوا تبعيّة بعض أطياف المعارضة للقوى الخارجيّة، أنّ التفاوض السياسيّ هو تفاوضٌ فى الأساس معها كسلطة وكذلك مع الفئات الاجتماعيّة التى دعمتها، وذلك للانتقال بسوريا من حالتها الكارثيّة الحاليّة إلى النهوض والتعافي، إذ ليس تغيير السلطة هدفًا بحدّ ذاته بقدر ما أنّ هدفَ أيّ مشروعٍ سياسيّ حقيقي هو خدمة المجتمع، كلّ المجتمع، والنهوض به من الفشل والدمار الذي ألحقته به السلطة القائمة. وخدمة المجتمع تعني -بين غيرها من الأمور- إعادة توحيد البلاد وحريّة حركة الأفراد بين ربوعها وعودة النازحين والنازحات واللاجئين واللاجئات وتعويض حقوقهم وإعادة اللحمة ضمن الجيش وبينه وبين المجتمع وإنهاء العقوبات وعودة النشاط الاقتصادي والمصالحة الوطنيّة خاصّة عبر حلّ ملفّ آلاف المعتقلين والمختفين قسريًّا.
لا سبيل للخروج من الاستعصاء السوريّ سوى هذا التفاوض السياسيّ السلمي. لكنّه يحتاج إلى تنامي الوعي لدى جميع فئات المجتمع، مهما كان موقفها الحالي من الأوضاع، أنّ لا سبيل لإلغاء الآخر فى بلدٍ مثل سوريا، ولا جدوى للاستقواء بالخارج، أيًّا كان هذا الخارج. الوعي المجتمعي هو الكفيل فى خلق أرضيّة للتفاوض على انتقالٍ سياسيّ لا يكلّف البلاد مزيدًا من الفشل والدمار. وهو الذي سيُلزِم الأطراف السوريّة على التفاوض، بما فيها السلطة القائمة.
بل حتّى وإن لم يحدث التغيير سريعًا، قد يترتّب على خلفيّة التفاوض السياسيّ المنشود تحصين المجتمع ضدّ مزيدٍ من العبث بمقدّراته.