ثلاثة عقود من تبديد المجتمع
طوني كسرواني*
بدأ يتبلور اليوم النظام الجديد المبتغى تركيبه في لبنان: إعادة إحياء المنظومة التي حكمت البلد وبدّدت موارده المادية والبشرية خلال 30 عاماً، مقابل تسريع تصفية التركة وتدمير كل قدرة للاعتراض على هذا المسار.
وبالرغم من ذلك، لا يزال النظام يستمر ويتمادى بشراسته وإجرامه بحق المجتمع، كما نرى يوميًّا في الحالات الإنسانية، وأبرزها طوابير الذل وارتفاع معدل الجريمة، والأحداث الأمنية من حين إلى آخر، وحالات الانتحار التي ازدادت وتيرتها، وصولًا إلى جرائم لا يدركها الوجدان، كجريمة الرابع من آب وانفجار عكار.
بالعودة إلى تاريخها، نرى أن المنظومة امتهنت الانقضاض على حقوق الناس وقمع أيّ حركة اعتراضية، كما امتهنت أيضًا توزيع المغانم واستباحة المال العام وأموال الناس على حدّ سواء.
لقد تمّ وضع خارطة الطريق لهذا النظام في الطائف، إلّا أنه لم يأخذ شكله الجامد إلّا بعد انتخابات العام 1992، حيث قامت بعض المصارف، بعملية احتيالية موثّقة، بتفجير سعر الصرف الذي تضاعف، من أجل إيصال روّاد هذا النظام إلى الحكم.
بعدها، توزّعت الأدوار في السلطة على حلقة سياسية أمنية متمثلة بزعماء الحرب والطوائف، تتولى بثّ الخوف في النفوس وتوزيع المنافع من أجل ضبط أيّ اعتراض، بالقوة إذا اقتضى الأمر، وحلقة مالية، تتمثل بجمعية المصارف ومصرف لبنان، وهي تدير استجلاب الأموال من الخارج على حساب الدولة، أي بخوّة تتمثل بالدَّين الذي تمّ تركيبه على مدى سنوات.
في العام 1996، عندما اتّضح أن المنظومة قاربت زوالها، وحيث كانت إمكانية الانتقال لا تزال ميسّرة، ائتلفت الحلقتان من أجل إعادة التعويم، معلنة سلسلة إجراءات تقلّص من حقوق الناس، بما فيها تجميد الرواتب، وإيقاف التوظيف في القطاع العام، ووقف الاستثمارات العمومية، وبعض القرارات المبطنة مثل عدم القيام بتصحيح للأجور وقطوعات حساب للموازنات.
ترافق كل ذلك مع قمع مفرط للاحتجاج على المسار: في 13 أيلول 1993، قامت حشود بالسير من الضاحية الجنوبية إلى طريق المطار احتجاجًا على اتفاقية أوسلو. عند وصول المحتجّين إلى جسر المطار، قام الجيش بإطلاق النار على المتظاهرين العزل، مما أدّى إلى سقوط 9 قتلى وعشرات الجرحى. في العام 2004، تظاهر سكان حيّ السلم احتجاجًا على غلاء سعر المحروقات، وقامت الأجهزة الأمنية بإطلاق النار، مما أدّى إلى سقوط 5 قتلى وعدد من الجرحى.
وفي هذا الوقت، تمّ تدجين الحركة النقابية، أكان في المهن الحرة أم في باقي القطاعات، وبالقمع أيضًا، حيث تمّ سجن النقباء داخل مبنى النقابة لمنعهم من التظاهر أمام المجلس النيابي إثر زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك عام 1996. تحوّل الاتحاد العمالي العام إلى أداة بيد السلطة، عندما تمّ “تفريخ” نقابات وهمية، موزعة مناطقيًّا وطائفيًّا، من أجل إدخال الأزلام ومنع إقامة حركة اعتراضية حقيقية. وكان من نتائج ذلك التدجين أن جابه الاتحاد العمالي العام قرار وزير العمل شربل نحاس عام 2012، الذي أراد تصحيح الأجور في القطاع الخاص، والتخلص من بدل النقل غير الشرعي، وإقرار التغطية الصحية الشاملة.
في تلك الحقبة، تجلّى استشراس السلطة بحلقتيها على الناس مع بروز أولى الحركات الاحتجاجية منذ وقت طويل، أهمها هيئة التنسيق النقابي ونقابة عمال سبينيس. انتقل حينها جدول الأعمال إلى مواجهة بين نقابيين ونقابيات يحملون لواء الحقوق، وحيتان المال وأصحاب المصارف ومضاربين عقاريين ومحتلّين للأملاك العامة، الذين ابتزّوا المجتمع بأسره، مهدّدين برفع الفوائد وضرب سعر صرف الليرة في حال تمّ اللجوء إلى ضرائب عليهم من أجل تمويل سلسلة الرتب والرواتب، في وقت كانوا يحققون أرباحًا فاحشة، لا تحققها المصارف في أيّ بلد آخر، وهذا كلّه بفضل خوّة الدَّين على الدولة التي ترزح تحت وطأة دفع الفوائد. وبسخرية، تحقق الآن كل ما هدّدت به المصارف دون الحاجة إلى فرض ضرائب عليها.
وقد أتت لحظة 17 تشرين الأول 2019 في ظل بروز ملامح انهيار جديد مشابه للعام 1996، لكن هذه المرّة دون إمكانية إسعاف خارجي أو مناورات احتيالية مثل الهندسات المالية في العام 2016. وقد تمّت لملمة الحركة حفاظًا على بقاء الحلقات المالية والسياسية الأمنية.
تتويجًا للانتصار اللاذع لهذه السلطة، وفي وقت اقتراح توجّه لبنان نحو خطة تعافي مع صندوق النقد الدولي، قامت لجنة تقصي الحقائق النيابية، التي تضمنت وكلاء لكل زعماء الطوائف، بتطيير خطة الحكومة وبإعلان عدم وجود خسائر في النظام المصرفي في لبنان.
هذا ليس تفصيلًا، إنما هو العنصر الأهم: هذا الأمر كان بمثابة إعلان تصفية المجتمع بشكل كامل وشامل، دون أيّ حسيب أو رقيب. يعني ذلك انفجار سعر الصرف وتعدّده، وانعدام القدرة الشرائية وسبل العيش، و”سياسة” دعم متفلّتة تشجع نشوء أسواق سوداء وتهريب، وغيرها من المآسي.
وقد كانت ردّة فعل المجتمع مختلفة: من ناحية، رأينا ارتضاءً واسعًا في ظل قمع مفرط لأيّ اعتراض، ومن ناحية أخرى، تظهر أمامنا مشاهد مهينة لكرامة الإنسان، وصولًا إلى الأوضاع الأمنية وحالات الانتحار، ناهيك عن الهجرة الجارفة التي تهدّد استمرارية المجتمع. وتتويجًا أيضًا لانتصارات سلطة العجز والجريمة، أصبحنا اليوم أمام تفلّت من العقاب تحت راية الحصانات، في ظل تفجير الرابع من آب وانفجار عكار.
هنا، يُطرح السؤال، ما العمل؟
إن هذه المواجهة، التي تستهدف ضرب أسس هذا النظام، هي معركة وجودية، يبقى بعدها المجتمع أو يزول. ليس لأحد ترف الوقت، ولا يجوز تمييع هذا الصراع.
تمّ إجهاض العديد من الفرص في الماضي، خوفًا من تداعيات قلب هذا النظام، كونه أصبح في وجدان اللبنانيين “ما بيتغير”، وهذا المفهوم ترسّخ أكثر فأكثر بفعل هزائم الحركات المطلبية. إلّا أن اليوم، وفي هذا الظرف الاستثنائي، يجب استعمال الأزمة كفرصة للانتقال من نظام الإجرام، الذي هجّر أكثر مما هجّرت الحرب الأهلية والعدوان الإسرائيلي، وحصّن نفسه ضدّ أيّ محاسبة، إلى دولة مدنية ديمقراطية عادلة وقادرة، لا ترضخ لابتزاز الحلقة المالية ولا تستجديها، ولا تعامل الناس كقطعان طائفية، بل كمواطنين ومواطنات.
التحدي كبير أمامنا، يتطلب تضافر الجهود لكسر إرث خمسة عشر عامًا من الحرب، وثلاثين عامًا من الهدنة المشروطة.
*عضو حركة مواطنون ومواطنات في دولة