المحامون الى الواجهة: لا مكان لأنصاف الحلول
«لم يَخُنكَ الأمين، ولكنك إئتمنتَ الخائن»*. يمرّ لبنان بمفترق طرق أساسي، يتبدّد فيه المجتمع يوماً بعد يوم، فيما يتخبط القيّمون على الشأن العام ويعجزون عن اتخاذ أي قرار من شأنه التخفيف من حدّة الأزمة الراهنة. ناهيك عن هول الأزمة، فإنّ المنظومة السياسية-الاقتصادية التقليدية منغمسة في معارك ثانوية، غالباً ما تتّسم معالمها وتُرسَم حدودها في الخارج، فتُهمِل بذلك جانباً أساسياً من الأزمة الراهنة، وهو أنّ مئات آلاف العائلات في لبنان يتمّ تبديد مدّخراتها الاجتماعية، من خلال استهداف صناديق نقابات المهن الحرة في البلاد، وهو استهدافٌ للنقباء والنقابات والمنتسبين اليها جميعاً.
وقد تمادى أصحاب المصارف ـ وبمباركة السلطة السياسية التي حوّل رجالاتها جزءاً كبيراً من ودائعهم إلى الخارج ـ في التطاول ليس فقط على أموال المودعين، بل أيضاً على أموال النقابات، حيث انّ الأخيرة باتت ممنوعة من سحب ما تحتاجه من مدخّراتها الاجتماعية، أي ودائع صناديقها التقاعدية، والصحية، والتعاضدية. وقد انبرى أصحاب المصارف الى تبرير تصرّفهم مع حقوق النقابات والمودعين ـ الى جانب غيرها من القرارات التي تهدّد ركائز الدولة المالية والاجتماعية ـ بالتعثر السياسي تارةً، وأخرى بأسباب موجبة، يصحّ فيها المثل الشعبي «حِجة ما بتقلي عِجة».
لكن لا حلول جديّة تلوح في الأفق، خصوصاً أنّه تبيّن أخيراً أنّ الأولويات السياسية لدى كثير من الأحزاب والتنظيمات، سواء التقليدية منها أو تلك المُحدَثة، هي متشعبة بنحو لافت، وعلى امتداد الطيف السياسي. وإنّ جزءاً كبيراً من هذه الأولويات، كما المعارك التي تُخاض على أساسِها، هي تُشكل في حقيقة الأمر أنصاف حلول. فإن كان الهدف الرئيسي المساهمة في بناء دولة فاعلة من شأنها الحفاظ على المجتمع وإحقاق حقوق المواطنين والمواطنات، فلا بدّ من إعادة تصويب البوصلة. من هنا تأتي أهمّية معركة الصناديق، التي يُشكّل استحقاق انتخابات المحامين أحد أهم محطاتها.
المحامون، رسالة العدالة، والخدمة العامة
بحسب المادتين الأولى والثانية من قانون تنظيم مهنة المحاماة الرقم 8، الصادر عام 1970، إنّ المحاماة هي مهنة هدفُها تحقيق رسالة العدالة، وهي تساهم في تنفيذ الخدمة العامة، فتولي من يمارسها الحقوق والحصانات والضمانات التي ينص عليها هذا القانون، كما تلزمه بالموجبات التي يفرضها.
إنّ هذا يعني أنّ نقابة المحامين هي رأس حربة في سياق العمل على إحقاق العدالة وتحقيق الخدمة العامة، لا سيما لجهة الدفاع عن الصناديق وعن المودِعين، ومساعدتهم في استعادة القيمة الفعليّة لإدخاراتهم، سواء الإدخارات الإلزامية كما في حالة الصناديق الخاصة بنقابات المهن الحرة، أو الإدخارات الطوعيّة التي تقوم الشخصيات أو الهيئات المعنويّة أو الطبيعيّة بإيداعها طوعاً في المصارف وغيرها من المؤسّسات المالية. ويُعزى ذلك الى واقعٍ قوامُه أنّ نقابة المحامين تفي شرطيْن متحققيْن بشخصها المعنوي: أولاً، الصِفة للدفاع عن حقوق الناس، كونها هي الحقوقية الأولى؛ وثانياً، المصلحة التي تنبع من حقيقة أنّ أموال النقابة، كما أموال المودعين، هي محجوزة لدى المصارف.
وهنا يأتي السؤال: أي نقابة يُريد المُحامون والمُحاميات؟ هل هي نقابة شأنُها فقط التعاطي مع الأمور الإدارية البحتة، وبالتالي ترتيب أمور المحامين بمعزل عن أي تقييم موضوعي للتحدّيات التي تواجه المجتمع ككل، لا سيما الحقوقية منها مثل استعادة الأموال المحجوزة لدى المصارف؟ أم أنّها نقابة لها دور ريادي، سواء على صعيد تعزيز صمود المحامي، أو تمكين القضاء ومساعدته في القيام بمهماته في أن يحكم بالعدل، أو حتى استعادة الدور الوطني والمساهمة في بناء دولة فاعلة تشتَرطُها الممارسة الحقوقية وتتقوْنَن من خلالها علاقات المجتمع؟
ربما من نافلة القول، إنّ الأوقات الاستثنائية تتطلب إجراءات استثنائية. وفي هذه الظروف الاستثنائية، حيث تشهد البلاد تآكلاً متواصلاً لشرعيّة الدولة وتقويضاً لمؤسساتها، تُعتبر النقابات بمثابة الرمق الأخير للارتقاء بالعمل السياسي الى أعلى مراتب الممارسة السياسية. فكيف إذا كان الأمر يتعلّق بأم النقابات وأقدمها؟
الواقع اليوم، هو أنّ نقابة المحامين لها دورٌ أخلاقيٌ، ليس فقط لجهة الحفاظ على كرامة المحامي ودوره في المجتمع، بل أيضاً لناحية الإسهام في إحقاق الحقوق والدفاع عن المجتمع ككل. وبذلك، فهي مؤتمنةٌ على حقوق أجيال من المحامين كما على مدخراتهم الاجتماعية، خصوصا أنّ هذه المدخرات هي مدخراتٌ إلزامية راكمها المحامون بفعل القانون، ولها وظيفة اجتماعية بما في ذلك تأمين الاستشفاء والتقاعد الكريم.
المصدر: إنّ الأرقام الواردة في هذا الجدول تمّ جمعُها من أكثر من مصدر، بما في ذلك البيانات المالية الصادرة عن النقابتيْن المذكورتيْن؛ وإنّ قيمة المدخرات الواردة في هذا الجدول تعكس أموال الصناديق (النقابة والتقاعد والاستشفاء) في المصارف.
المواجهة باتت واجباً
إنّ نقابة المحامين وسائر نقابات المهن الحرّة مؤتمنة على إدخارات الزامية مودعة لدى المصارف وعائدة لشريحة كبرى تزيد عن نصف الشعب اللبناني، سواء عبر ودائعها وصناديقها التقاعدية والتعاضدية وصناديق التعويضات وسائر الصناديق ذات الطابع الاجتماعي، بما في ذلك صندوقا تعويضات وتقاعد المعلّمين والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
إنطلاقاً من ذلك، فإنّ المُواجهة مع كل من ساهم في تبديد مدخرات المجتمع باتت واجباً على المحامين وعلى المجتمع على حدّ سواء. وإنّ المُواجهة على هذا المفصل تتّسم بأهميّة كبرى، حيث إنّها تنطوي على بُعديّن أساسييْن مترابطيْن عضويّاً: الأوّل، هو بعدٌ طبقي، فهي تهدف الى حماية ما تبقّى من طبقة وسطى، خصوصاً الموظفين ونقابات المهن الحرة؛ وأما الثاني، فهو بعدٌ وطني، حيث إنّ المواجهة تُساهم في التأسيس لشرعية الدولة التي يحتاج اليها المجتمع، فتقوم بتأطير العلاقات بين أطيافه كافةً، وترسم حدوداً سياسية واضحة بين الداخل والخارج.
على مشارفِ انتخابات أم النقابات وأقدمها، ولكيلا يُصبح المحامون كما المواطنون والمواطنات في لبنان مشروع هجرة، فإنّ جميع المحامين والمحاميات الذين ارتضوا المواجهة مع المنظومة الاقتصادية-السياسية التقليدية وأصحاب المصارف ـ الذين بدّدوا أموال الصناديق والمودعين ـ هم مدعوّون الى الاقتراع لمُرشح عن منصب «نقيب المحامين في بيروت» قد اختار المواجهة عوضاً عن النأي بالنفس عن هُموم المجتمع. صحيحٌ أنّ هناك دوراً رئيسياً يقع على عاتق نقيب المحامين لناحية تحسين أمور النقابة، فهو مؤتمنٌ على كرامتها وعلى تأمين مصلحة أعضائها وعائلاتهم. لكن المواجهة مواجهةٌ تهدف ليس فقط الى استعادة دور النقابة الوظيفي في الدفاع عن المحامين والمحاميات المنتسبين اليها، بل أيضاً الى استعادة دورها الريادي في الدفاع عن مصالح جزء كبير من المجتمع اللبناني.