إخراج لبنان من المأزق
ترجمة لمقابلة أجرتها دومينيك إده مع شربل نحاس نشرت على موقع OrientXXI تاريج ٣١ آب ٢٠٢٠ على هذا الرابط.
الاقتصادي والسياسي اللبناني، شربل نحاس، كان وزيراً بين عامي 2009 و2011 قبل استقالته. مؤسس حركة “مواطنون ومواطنات في دولة”،وصوت من اصوات الحراك الشعبي المؤثرة، يوضح في هذه المقابلة مع الكاتب دومينيك إده مشروعه الانتقالي للبنان. وهو يطالب بسلطة ” تتعامل مع المجتمع كما هو وليس كما تتخيله السلطة”، ويدعو إلى أنتقال سلمي لهذه السلطة، مع حكومة ذات صلاحيات تشريعية خاصة على مدى فترة مؤقتة مدتها 18 شهرًا، من اجل اخراج البلاد من الأزمة و ” لإرساء الشرعية العلمانية للدولة “.
كيف ترى الانتقال السلمي فعلياً؟
شربل نحاس.- أنت محق في الإصرار على مصطلح “الانتقال”. شهد لبنان، قبل البلدان المجاورة له، تغيرات اجتماعية كانت لها عواقب بعيدة المدى، وذلك على الرغم من تجاهلها: التوسع في التعليم، وخاصة للفتيات؛ التغيرات في السلوكيات الديموغرافية والزواج، والخصوبة؛ الهجرة والهجرة الريفية المكثفة والمبكرة؛ العولمة العميقة سواء من حيث حركة الأفراد أو رأس المال أو التجارة في البضائع؛ تعاظم كبير للتمويل الرأسمالي (أمولة)… باختصار، شهد لبنان باكرا جدأ مجموعة من الظواهر التي تهيمن اليوم على المشهد العالمي.
أدت هذه التغيّرات إلى نشوب حرب أهلية؛ بداياتها كانت موجودة منذ نهاية الستينيات واستمرت قرابة عشرين عامًا، تم خلالها إضفاء الطابع المؤسسي على التغيرات التي أحدثها المجتمع.
منذ ذلك الحين، ترسّخ نظام جديد، ليس فقط بمعنى الدستور والعادات، ولكن أيضًا بمعنى أن السلطة باتت جزءً لا يتجزأ من مجمل العلاقات الاجتماعية. السلطة ليست بنية فوقية تلصق فوق المجتمع. هذا المجتمع الذي في سلوكه الداخلي، وفي العلاقات التي تكونت بين الناس، بما في ذلك فَهم الجميع لوضعهم، ودورهم، قد تم تكوينه وفقًا لهذه التطورات التي نلخصها عند الحديث عن الحرب الأهلية.
لطالما كان هذا النظام محط إشادة بسبب مرونته، والذي ، بحسب منطقه ،كان فعالًا للغاية. فقد نجح في اجتذاب تحويلات رأس المال الصافي، سنة بعد أخرى، في حدود 20 إلى 25٪ من الناتج المحلي الإجمالي، مع الحفاظ على رصيد رأس المال الذي تم اجتذابه سابقًا. واستطاع استيعاب صدمات سياسية واقتصادية كبيرة، مثل اعتداءات إسرائيلية عديدة، ومنها حرب عام 2006، والغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وما تلاه من اغتيالات، وانسحاب الجيش السوري عام 2005. لبنان عمليا هو الدولة الوحيدة في العالم التي تتلقى مساعدات عسكرية من إيران والولايات المتحدة في الوقت نفسه.
اختلال نهائي للتوازن
لا يحصل الانتقال طوعيا أو تعسفيا مثال “أريد أن أجري التغيير”. عندما تنهار مؤسسة المجتمع بأكملها، الحقيقية والمتخيلة، فذلك لا يحصل بسبب تمرد الناس عليها، ولكن بسبب انهيار الظروف التي تضمن بقاءه، بغض النظر عن براعة المشغلين وحيلهم. هذه الظروف ذات شقين: تدفق مستمر لرأس المال وتعاطف إقليمي للسيطرة على التوترات الداخلية المتوافقة مع نموذج المجتمع. وبتنا امام اختلال نهائي للتوازن.
أنشئت حركة “مواطنون ومواطنات في دولة ” على وجه التحديد لأننا كنا ندرك بوضوح أن هذا النظام قد وصل الى نهاية مساره. تم نشر مآثر لا تصدق لإطالة عمره أدت إلى تضخيم الخسائر إلى أجل غير مسمى، لكن القطيعة حصلت الآن. ان الحاجة لإدارة الخسائر باتت ملحة وأساسية. وفي مواجهة هذا التحول، هناك العديد من الخيارات، والمخاطر مرتفعة للغاية.
كل أولئك الذين يعتقدون، في اوضاع من هذا القبيل، أن اللجوء إلى المؤسسات القائمة سيجعل من الممكن إدارة الوضع، هم مخدوعون. فالبرلمانـ والانتخابات والعدالة … ليست سوى انعكاس لنظام لم يعد يعمل. نتيجة لذلك، يتراجع المجتمع إلى الحد الأدنى من الأساليب التنظيمية التي تعتبر خطيرة للغاية: الروابط الأسرية، والشبكات الزبائنية، والخدمات المشتراة، إلخ.
الهوية المعقدة لكل فرد
إده.- كيف يمكن إعلان موت هذا النظام الذي لا يزال قائما إلى يومنا هذا والذي تقول إنه متغلغل تماما داخل المجتمع؟
نحاس. – نعني بكلمة “الانتقال” الحالة التي يجد المجتمع نفسه فيها عندما تنهار موءسسته الخيالية. الإنكار سيكون رد فعله الطبيعي. يحاول التمسك بالشيء الوحيد الذي يعرفه، وفي حالة لبنان، فإن تحديد هوية كل فرد ووضعه هما على المحك. لا يمكنك أن تسأل اللبنانيين أن يتخيلوا أنفسهم بخلاف ما يرون عليه أنفسهم. هناك الهوية الطائفية، ولكن هناك أيضًا المكانة الاجتماعية، والتعلق بالألقاب، والتدرج في المناصب التي يشغلونها لدرء الكرب الذي يشعرون به من حولهم. إخبارهم بأن كل ذلك انتهى، أمر غير عادل على الإطلاق. هذا هو المكان الذي يأخذ فيه العمل السياسي معناه الكامل: تقديم عرض في مواجهة شيء ليس مطلبًا بعد، ولكنه حاجة.
يحتاج اللبنانيون إلى دولة، لأن عليهم إدارة كارثة اقتصادية استثنائية في حجمها، والعمل في إطار إعادة التشكيل الإقليمي بما تنطوي عليه من مخاطر عسكرية، ليس كمقامرين بل كجهات فاعلة. ومع ذلك، لا توجد دولة في لبنان،على عكس إيران وتركيا والولايات المتحدة. الدول الأخرى تعرف ذلك تماماً. قد يجدون أنه من الأسهل التعامل مع غياب الدولة، من خلال التدخل المباشر على مستوى السكان. على المرء فقط أن ينظر إلى ما حدث في المنطقة ليدرك أن هذا الخيار ليس الخيار الأذكى. أن تحويل العمل العام من خلال جراحة اجتماعية دون حماية الدولة تؤدي الى مخاطرلا للسكان أنفسهم فقط، ولكن أيضًا للدول الأجنبية.
إده.– ما هي مراحل هذا الانتقال في ظل سيناريو متفائل: حكومة ذات صلاحيات خاصة سيكون لها 18 شهرا للتشريع دون الرجوع إلى مجلس النواب؟
نحاس. – اقتراحنا هو فرض مفاوضات حول انتقال سلمي للسلطة. رسمياً، ستكون هذه حكومة مؤقتة ذات صلاحيات تشريعية واسعة جدا.
ستكون وظيفتها ذات شقين: من ناحية، تجميد جميع العقود المالية، وتوزيع الخسائر والمخاطر المتراكمة بأكبر قدر ممكن من الإنصاف لمنع انهيار الشركات القادرة على التصدير؛ من ناحية أخرى، اعتماد تدابير ذات أولوية في مجال التأمين الصحي والتعليم. تتطلب هذه المهمة اختيارات مؤلمة وجهدا مستمرا لأن الوضع مفجع.
في المقابل، نطالب مذ الشروع بالمفاوضات، وقبل أن تضع هذه الحكومة الترتيبات العملية، إرساء الشرعية العلمانية للدولة. وهذا يعني سلطة تتعامل مع المجتمع كما هو، وليس كما تتخيله، والتي تتعامل مع العالم الخارجي بعلاقات محض دولية.
نظام مجتمعي لم يعد يعمل
إده.– يعتقد الكثير من المفكرين والسياسيين الذين يحاولون حلحلة الامور أنك تسير بسرعة كبيرة في هذا المجال. لماذا لا تكتفي بتطبيق الدستور الذي يجعل الدولة اللبنانية دولة علمانية؟
نحاس. – دستورنا مليء بالغموض. ومن بين 120 مادة دستورية، هناك 80٪ منها غير مطبق. اما فيما يتعلق بتشكيل الحكومة، وصلاحية البرلمان، والمواضيع التي توضع على جدول الاعمال، فإن حق النقض معترف به صراحة للطوائف الكبيرة. لذلك تعتبر الحكومة غير شرعية إذا قاطعتها طائفة ما. إنه نظام راسخ للغاية، ويتم صقله يومًا بعد يوم.
لذا نرى أن الدولة تقوم على منظومة مؤسسات أخرى سبقتها، تتفوق عليها سيادياً، وهي الطوائف الثلاثة الكبيرة: السنة والشيعة والموارنة (الذين يميلون إلى تسمية أنفسهم بالمسيحيين، لأنهم نجحوا في إقناع الناس بأنهم استوعبوا الجماعات المسيحية الأخرى، هذه الأخيرة تغضب من وقت لآخر، لكنها سرعان ما ترضخ إلى النظام). أما الدروز فهم يتنقلون بين كل شيء، ولا يمكننا وضعهم في خانة معينة.
تشير هذه المجتمعات ذات الطابع المؤسسي إلى نفسها باسم “المكونات”، أي أنه قد تم إعطاؤها الخيار لتكوين أو عدم تشكيل هذا الشيء الذي نسميه في كل موعد نهائي، وبكل سهولة، الدولة. يمكنهم منع الانتخابات أو تشكيل الحكومة، التصويت على الموازنة، إلخ…
هذا النهج هو الذي أدى إلى الإفلاس، ونحن لا نعارض هذا النظام لأسباب فلسفية أو أيديولوجية – على الرغم من وجود هذه الأسباب – ولكن لأنه لم يعد يعمل، لقد انهار النظام. عندما نتحدث عن إرساء الشرعية العلمانية للدولة، والتي هي ليست أكثر من القدرة على حشد الموارد دون تكاليف باهظة، مثل العنف، فإننا نعني أن الدولة لا يمكن أن تكون عاملة وتلبي الحاجات الواضحة لسكانها بعد كل النكبات المتلاحقة التي شهدناها إلا إذا كانت شرعيتها مستقلة عن شرعية كافة مؤسسات المجتمع، ومتفوقة عليها. ومع ذلك، هل من المحتمل ألا تستمر هذه في السيطرة، لبعض الوقت، على الطريقة التي يتصور بها الناس ويتصرفون مع بعضهم البعض؟ بكل تأكيد نعم.
تصوّر العلمانية
إده. – ماذا يعني بالضبط تأسيس الشرعية العلمانية للدولة؟ كيف تتصورها بشكل ملموس؟
نحاس. – الأمر يتعلق بالدوافع لمبرر الفعل. لذلك نقول إن الدولة ستتعامل مع المواطنين والمقيمين غير اللبنانيين بغض النظر عن انتماءاتهم المجتمعية. لكنه سيتسامح مع اولئك الأفراد الذين يختارون بشكل فردي، وبشكل استثنائي، بأن تتم علاقتهم بالدولة بواسطة مؤسسة طائفية.
إده.– هذا يفترض وجود نظام معقد للغاية…
نحاس.– المبدأ الأساسي هو أن أحداً لا ينتمي إلى أي مجتمع. ثانيًا، يتمتع كل فرد بالقدرة على الإعلان، بفعل إيجابي،عن رغبته في عدم إقامة علاقة مباشرة مع الدولة، الا من خلال مجتمعه. باختصار، سوف تعترف الدولة بصحة الفعل المجتمعي على هذا النحو بشرطين. الأول، هو أن هذا الفعل ينطلق من الاختيار الواضح للناس. والثاني، أن النظام المجتمعي لا يتعارض مع مبادئ النظام العام.
إده.– ما هي إذن المهام التي تسندها إلى الحكومة الانتقالية خلال الـ 18 شهرًا التي ستخصص لها؟
نحاس.– ثلاثة إجراءات فورية يتعين على الحكومة اجراءها:
← التعداد السكاني الحالي المكمّل بإحصاء المهاجرين. هذا التعداد السكاني، الأول منذ عام 1932، سيحدد لكل ساكن مكان إقامة، لكن دون انتماء مجتمعي. إلى جانب ما تعنيه إدارة السياسات العامة، من حيث البطالة والضرائب والصحة، وما إلى ذلك، فإن هذا الإجراء له نطاق أساسي، لأنه يفكك علاقات القرابة التي هي الأساس التي يرتكز عليها صرح المجتمع السياسي؛
← إنشاء نظام قانون الأحوال الشخصية الذي يرسي منذ البداية:
- المبادئ العامة للأحوال الشخصية التي تنطبق على الجميع؛
- إعطاء كل شخص خيار البقاء كمواطن على اتصال مباشر بالدولة بشكل افتراضي، أو الاستفادة من التسامح المتاح للانضمام إلى نظام الاحوال الشخصية الخاص بالطائفة؛
- قواعد الأحوال الشخصية تنطبق على أولئك الذين لم يختاروا، بفعل طوعي، المرور عبر الطوائف.
← إصدار قانون انتخابي قائم على مبدأ أن المرشحين عند التقدم بترشحهم، والناخبين عند التصويت، سيكون لهم الاختيار بين التمثيل المباشر غير الطائفي، مع جميع الآثار التي ينطوي عليها ذلك، والتمثيل الطائفي الذي سيخضع لقواعد صارمة تمنع المجتمعات الطائفية من الدخول في صراع مع بعضها البعض.
هذه الإجراءات الثلاث هي تعبير ملموس عن التأسيس غير القابل للنقض للشرعية العلمانية للدولة.
إده.– كيف نشكل جبهة سياسية قوية وموحدة بما يكفي لتكون لديها الوسائل لمثل هذه المفاوضات؟ فاللبنانيون توّاقون لرؤية أحزاب مختلفة، مثل حزبكم والكتلة الوطنية والعديد من الأحزاب الأخرى، موحدة.
نحاس.– التفاوض يعني التوصل إلى اتفاق مع الشركاء على أساس التوقعات المختلفة. في المعاملات التجارية، يرغب كل من البائع والمشتري في الحصول على صفقة جيدة. الشيء نفسه في السياسة. لا يزال الكثير من السكان مرتبطين بقادة المجتمع الطائفيين، لكنهم، وخاصة الأقوى بينهم، يتعرضون لمخاطر هائلة، وهم اليوم غير قادرين على التعامل مع هذا الوضع لأسباب وظيفية. لا يتعلق الأمر بعزل المجتمعات الدينية، بل بوضعها في مواجهة الواقع. وبالتالي، فإن الصفقة ستشمل إدارة الإفلاس الناجم عن عدم الكفاءة، وفي إحداث “انتقال” يكسر النمط الحالي للشرعية الاجتماعية والسياسية. قد يفكر قادة المجتمع: ” إنهم مجانين، سنستخدمهم كصمامات وسنعود بعد 18 شهرًا؛ إذا نجحوا، فسوف نتعرض فقط لخسائر نسبية “. هذا رهان سياسي مزدوج وأساسي، وأحد الأسباب التي تجعلنا ندعو إلى حكومة مؤقتة لمدة 18 شهرًا. فالأمر يتعلق ببناء أول دولة علمانية في هذا الجزء من العالم.
دومينيك إده
روائية وكاتبة. آخر عمل منشور لها:
Edward Saïd. Le roman de sa pensée, La fabrique, 2017.