الانتخابات الطلابية بين الانتصار والتحدّيات
مقال بقلم أسامة الشيخ، عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة
ليست المرة الأولى التي تحرز فيها الأندية العلمانية مقاعدَ في الجامعات، لكن هذه المرة أتت النتائج كاسحة. بالأمس القريب فازت لوائح النادي العلماني (campus choice) وحملة “التغيير يبدأ من الجامعة الأميركية” (change starts here) بـ65 مقعداً من أصل 82 في المجلس الطالبي، و15 مقعداً من أصل 19 في الحكومة الطالبية، وقد أَعلنتا النتيجة في بيان مشترك؛ كل ذلك وسط انسحاب أحزاب السلطة من انتخابات الجامعة الأميركية (AUB). أما في الجامعة اليسوعية فالمشهد أكثر سريالية، أو ربما أكثر واقعية، حيث راحت أحزاب السلطة تتقاتل أمام الجامعة، في حين يكتسح النادي العلماني تحت مسمّى “حملة طالب” كافة المقاعد في رئاسات الهيئات الطلابية للكليات وعددها 12، و85 مقعدًا من أصل 101 في هذه الكليات. عمَّ تعبر هذه النتائج؟ وما هو مستقبلها؟
لا شك أن التبدلات الاجتماعية والخطاب السياسي الذي ساد خارج حرم الجامعة، كان له التأثير الأكبر على خيار الطلاب، لذلك فإن نتائج الانتخابات الطلابية تعكس التغير الاجتماعي الناتج عن الأزمة الاقتصادية، وعن وضوح عجز قوى السلطة في حلّها. منذ 17 تشرين دأبت قوى الأمر الواقع على بثّ خطاب شبه وحيد، قوامه التحريض الطائفي والكراهية والتخوين، كما افتعلت التوترات الأمنية ذات الطابع الطائفي بشكل متكرر. من جهة أخرى فإن العطل الذي أصاب منظومة المصالح منذ سنوات قد ظهر تأثيره على الطلبة أوّلًا، نظرًا لأن الزبائنية المؤدية لاستزلامهم لم تلحقهم بعد، ولأن الفئة العمرية التي ينتمي إليها الطلاب أكثر اندفاعًا نحو التغيير. لكن هل يمكننا اعتبار هذا الفوز مؤشرًا كافيًا على التغيير الكبير؟ وهل يمكن البناء عليه للانتخابات النيابية إذا حصلت؟
التغيير حصل ويحصل ونحن في طور مرحلة انتقالية من نظام كان قائمًا إلى نظام جديد، والفوز في الانتخابات الطلابية في ثلاث جامعات يعبر عن جزء من هذا التغيير رغم رمزيته وأهميته. فمرحلة ما بعد الجامعة تختلف في بعض نواحيها عما قبلها، خاصةً وأن الطلاب إما أنهم يدخلون في دوامة المصالح الضيقة رغم اضمحلالها اليوم، أو يلجؤون إلى الهجرة، وهي الخطر الأكبر الذي يهدد المجتمع برمّته والذي سيحول دون ترجمة هذا “المزاج الشعبي” المعترض في ساحات أخرى مستقبلًا، حيث من المقدر أنه قد يهاجر نصف هؤلاء الطلاب بعد التخرج بفترة. إضافةً، فإن عددًا من الجامعات مثل جامعة بيروت العربية والـNDU وغيرهما لم تحصل فيها انتخابات منذ سنوات. أما الانتخابات النيابية فـ”حساباتها” مختلفة، في حين تؤمّن الجامعة مساحة شبه آمنة وحرة بحكم التخالط والاندماج، تحكُم العصبيات الطائفية المتأججة الانتخابات النيابيةَ بالكامل في المناطق، وتتداخل فيها العائلية والخدماتية الزبائنية بشراسة، مما يعطل حرية الاختيار لدى الناس ويدفعهم بحكم القلق والخوف وضغط المحيط إلى انتخاب من لا يؤيدونه بالضرورة، أو بسبب الخوف ممن في المقلب الآخر. كما أن الانتخابات النيابية ليست مدخلًا للتغيير الحقيقي، فهي تعبر عن السلطة القائمة وتبدّل الوجوه لا الأنظمة، وهي محكومة بالقانون الذي ستفصّله السلطة على مقاسها حتمًا بعد أن تضمَن الظروف الملائمة لإجراء الانتخابات وتحقيق فوزها بها. هذا لا يعني أن الفوز الجامعي لن نرى نظيرًا له في النيابة إذا حصلت، لكنه لن يكون بالحجم نفسه، والحديث عن إمكانية إحراز 30 أو 40 مقعدًا للمعارضة في الانتخابات المقبلة هو محض وهمٍ تحاول بعض أحزاب السلطة كالكتائب والقوات تسويقه كحجة لطلب الانتخابات المبكرة؛ أما هدفهما الفعلي فهو انتزاع بضعة مقاعد من التيار الوطني الحر على اعتبار أن شعبيته قد تراجعت.
إن الفوز في الانتخابات الطلابية يشكل انتصارًا لإرادة الشباب والشابات في التغيير على حساب القوى الطائفية، وانتصارًا للخطاب العلماني في وجه ذلك العصبوي المتزمّت، وقد بدا واضحًا امتعاض قوى السلطة مما جرى حيث ظهر أن شرعيتهم الشعبية لدى الشباب قد تراجعت كثيرًا مما دفعهم لشنِّ حملات افتراء من جهة وتخوين من جهة أخرى على من ربح. لكن ما هي التحديات أمام قوى التغيير الطلابية وما هي أبرز قضاياها النضالية؟
أولًا، على القوى الفائزة ترسيخ خطاب لاطائفي ولاتفريقي بين الطلاب، إضافةً إلى تجسيد المعنى الحقيقي للعمل السياسي بوصفه الدفاع عن مصالحهم. الجامعة هي مساحة تلاقٍ لليافعين الخارجين من الجوّ العائلي، وبالتالي فالنضال الطلابي بين أسوارها هو تجربة أولى ومقدمة لتجارب لاحقة سيخوضونها في الحياة العملية، إنها تهيئة لهم للنضال السياسي الأوسع، وباللغة الجامعية يمكن تسميتها سياسة-101. الطلاب في نهاية الأمر سيتخرجون من الجامعة وسوف يواجهون أمرين خطِرين، إما الهجرة أو الارتهان إلى كرتونة الإعاشة التي لا تتسع لأحلامهم وطموحاتهم طبعًا. لذلك يجب عليهم منذ اليوم الانخراط ضمن أحزاب ومجموعات تطمح للتغيير وأن يتبنوا ضمن نضالهم مشروعًا سياسيًّا يؤطّر جميع المواجهات ضمن الجامعة وخارجها.
في هذا الصدد، فإن القضية الأبرز التي يواجهها الطلاب اليوم هي دفع كلفة الدراسة في الجامعة (وهي الأعلى في العالم 13.1% من الناتج المحلي القائم)، خاصةً بعد أن قررت بعض الجامعات قبض الرسوم الجامعية بالدولار على سعر 3900 ليرة. هنا المعركة لا تقتصر على الجامعات فقط، بل تمتد إلى المصارف وقوى السلطة بصفتها المسؤول الأول عن الأزمة، فالجامعة لديها حجة قوية لتبرير قرارها وهي أنها تدفع بعض نفقاتها بالدولار على سعر السوق أو سعر المنصة. يجب الحؤول دون اضطرار جزء من الطلاب إلى ترك الجامعة بسبب عدم القدرة على سداد رسومها، أو اضطرار الجامعة لتخفيض نوعية التعليم، أو التضحية بموظفين عبر فصلهم بهدف توفير النفقات، أو ربما اضطرار الأساتذة أنفسهم لترك الجامعة بغرض الهجرة. لكن ما السبيل إلى ذلك؟ وهل تكفي مطالبة الجامعة بالرجوع عن قرارها؟
إن مطالبة الجامعات بالتراجع عن قراراتها قد لا يكون مجديًا رغم ضرورة الخطوة، فنحن لسنا أمام أزمة جامعة، بل أمام انهيار نظام تعليمي بأكمله يطال مختلف المراحل الدراسية. لذلك لا يمكن حصر المواجهات ضمن الجامعة لأن الحل الفعلي ليس بيد إدارات الجامعات، بل بسياسة تعليمية تضعها الدولة وفق رؤية واضحة تضمن حق الطلاب بمجانية التعليم وتعيد له جدواه. فتبدأ بتطوير الجامعة اللبنانية لتصبح قادرةً على استقبال الأعداد المتزايدة، كما تضع برنامجًا لدعم الطلاب في الجامعة الخاصة ضمن مرحلة انتقالية، والأهم من ذلك أن تربط التعليم بالتوجّه الاقتصادي المفترض. رفع شعار مجانية التعليم وأحقيته وتبني مشروع سياسي يهدف إلى بناء دولة فعلية، يضع هذه الأزمة في سياق الانهيار الذي نعيشه ويعطي قضية الطلاب البعد الوطني والاستمرارية.
تبرز أهمية مجانية التعليم كأساس لضرب الفصل الطبقي المتزايد بين طلاب مختلف الجامعات أو ضمن الجامعة نفسها، كما لتكريس شرعية الدولة في وجه مأسسة الطوائف في قطاع التعليم. دور التعليم الجامعي في الاقتصاد ومجانيته يؤثران بشكل مباشر على بقاء الطلاب أو هجرتهم بعد التخرج. فلطالما اعتُبرت الجامعات في لبنان على أنها “مصنعٌ” لإنتاج الشباب المتعلّم من أجل تصديرهم كـ”سلعة” إلى الخارج، لذلك نجد أن نفقات الأسر على التعليم في لبنان تصل إلى 9.1% من الناتج المحلي الإجمالي، في مقابل 0.4% في فرنسا و2.2% في الولايات المتحدة الأميركية، مع العلم أن نسبة الإنفاق العام على التعليم في لبنان قريبة من الدول الأخرى، حيث يعتبره الأهل وأبناؤهم استثمارًا مربحًا. هنا القضية متعلقة بوظيفة الجامعة بحدّ ذاتها، والنضال يجب أن يتركز على أن يصبح دور الجامعة بناء الكفاءات اللازمة للنهوض بالاقتصاد الوطني، حيث يعتبر التعليم حلقة من حلقات الإنتاج مما يتطلب سياسات تعليمية تمتد من التعليم الأساسي والمهني فالجامعي. هذه السياسات تضعها دولة قادرة نعيش نقيضها اليوم، حيث تُركت المؤسسات التعليمية الحزبية والطائفية تسيطر على القطاع التعليمي، في ظل غياب تام لوزارة التربية والتعليم، التي لا تعدو كونها دائرة لختم الشهادات وتحديد موعد الامتحانات الرسمية، أو بالكاد. الربط بين التعليم والاقتصاد، هو بالفعل الربط بين داخل الجامعة وخارجها.
قضية الطلاب اليوم ونضالهم لا يقلّ أهميةً عن ذلك الذي خاضه “أسلافهم” في السبعينيات من أجل تأسيس الجامعة اللبنانية وتطويرها، إنها قضايا تتصل بمصير الأجيال. المعارك كثيرة وساحاتها متشعبة ومتداخلة والوسائل متاحة أحيانًا، وقد تكون أحيانًا أخرى محدودة، الحمل ثقيل والميراث الذي ورثه الفائزون أثقل. لكن البوادر التي رأيناها والوعي لدى الفائزين يبعث الأمل.