أزمة النقل من منظار نظام التوزيع
مقال ل علي الزين، عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة، نشر في جريدة الأخبار تاريخ ١٦ آذار ٢٠٢١ على هذا الرابط.
أطلّ الأسبوع الماضي، وزير النقل والأشغال العامة في حكومة تصريف الأعمال ميشال نجار، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في فيديو مباشر من مكتبه في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا حيث يشغل مركز نائب الرئيس بعنوان «مشاكل وحلول النقل والحاجة لأخصائيين في قطاع النقل». استحوذ قطاع النقل البرّي على القسم الأكبر من الإطلالة بعد تعريف قطاع النقل بأنه «الشريان الذي يوصل الأمور ببعضها، ويحفّز الاقتصاد، ويُستعمل للذهاب إلى العمل ولنقل البضائع من مكان إلى آخر». إذاً، هو شريان لوصل «الأمور» ببعضها. بهذا المعنى يتحدث نجار عن النقل في لبنان انطلاقاً من مفاهيم «التوزيع»، فيقترح إنفاق 7 مليارات دولار لتحديث الطرق، ويتعامل مع مشاكل الانتقال بين المناطق وزحمة السير، كأنها رحلة سياحية تحتاج إلى «تاكسي بوت»… ليس نجار وحده، وإنما كثيرون من أهل السلطة يعتقدون أنه يمكن إحياء «نظام التوزيع» لتبديد الأموال ومنح الامتيازات
العلّة في الطرقات؟
في إطلالته، بدأ وزير النقل والأشغال العامة ميشال نجّار، بالترويج لفكرة إنفاق 7 مليارات دولار. استند في كلامه هذا إلى وجود 22 ألف كيلومتر من الطرقات في لبنان «قديمة وتعود بغالبيتها إلى الأربعينيات والخمسينيات، وتسير عليها حالياً نحو 1.7 مليون سيارة». وأشار إلى أنه منذ ذلك الوقت لم يستثمر لبنان بالطرقات لناحية التوسعة أو البنى التحتية مثل مجاري تصريف مياه الأمطار… برأيه، كان هذا الأمر، سبباً في طوفان الطرقات. لذا «كانت هناك حاجة بحسب التقديرات إلى 7 مليارات دولار كان يُفترض أن يتم رصدها عبر مؤتمر سيدر».
كذلك تطرّق نجار إلى موضوع سكك الحديد، معتبراً أن «أغلب الناس قطعوا الأمل من الموضوع»، لكنه يعتقد أن «سكك الحديد شغلة مهمّة». وشرح بأن الشبكة قديمة وتعاني اليوم من التهالك والتعديات عليها معتبراً أن إزالتها سهلة. كذلك قال، إن معالجة هذه المشاكل أمر ضروري نظراً لأهمية وجود قطار في لبنان لنقل البضائع والأشخاص ونظراً للراحة والحيوية التي يوفّرها للاقتصاد «هذا ما يمكن أن يعرفه كل مسافر إلى أوروبا». وأعلن نجّار أن هناك الكثير من الشركات التي أبدت رغبتها في الاستثمار في سكك الحديد، من ضمنها شركة صينية مستعدّة لتمويل إنشاء سكة حديد تربط مرفأ طرابلس برياق ومنها إلى حمص، فضلاً عن وجود شركات أخرى مهتمّة بإنشاء سكّة حديد من الناقورة إلى طرابلس.
لاحقاً، انتقل الوزير إلى تسويق اختصاص إدارة النقل واللوجستيات في الجامعة التي يعمل فيها، قبل أن يفتح المجال أمام أسئلة المشاركين التي ركّزت على مجموعة قضايا أبرزها: الإجراءات الواجب اتخاذها لتسهيل تنقل ذوي الاحتياجات الخاصة، فرص العمل في قطاع النقل، مشاريع النقل العام… من بين الأمور التي أثارها الوزير هي تلك المتصلة بالخطط المستقبلية لتسهيل تنقلات ذوي الاحتياجات الخاصة في النقل، إذ اكتفى بالإشارة إلا أن الأمر سيُلحظ في أي نظام نقل وفق «معايير دولية». وفي مجال النقل المشترك أشار إلى أن إحدى المشاكل تكمن في غياب نظام النقل العام وخطوطه، مختصراً النقل المشترك بسيارات الأجرة وثلاثين باصاً تابعة لمصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، وقد أشار إلى استبدال مشروع الباصات ذات المسارات المخصّصة المنوي تنفيذه بين بيروت وطبرجا بمشروع خطوط باصات ضمن بيروت الكبرى من دون أن يشرح الجدوى من ذلك، علماً بأنه أقرّ تمويل المشروع الأول بنحو 295 مليون دولار منذ تموز 2019، لكنه يتحدّث بفخر كبير عن مشروع «تاكسي بوت» للانتقال على طول الساحل.
هكذا «نحرق» المليارات
كلام نجار لا يختلف كثيراً عن كلام رموز السلطة الذين استعملوا نظام التوزيع لتبديد الأموال وتحويل المال العام إلى الخاص، واستعملوا أدوات منح الامتيازات أيضاً. فمن المستغرَب أن يقدّم الوزير أزمة النقل والانتقال في لبنان، وخصوصاً في مجال النقل البرّي، على أنها مشكلة فقر بالطرقات والحاجة إلى المزيد منها. هل يعلم معاليه، أن كثافة الطرقات في لبنان البالغة 2.1 كلم/كلم2 تفوق الكثافة في دول كبيرة كفرنسا وألمانيا؟ هو يزعم أنه لم يتم الاستثمار كفاية في الطرقات، علماً بأن نحو ربع الإنفاق الاستثماري بين 1993 و2017 كان للطرق وحدها بقيمة تقدّر بنحو 3.5 مليار دولار. هذا رقم ضخم جداً وهائل مقارنة بما تم استثماره في النقل المشترك أو الليّن في تاريخ لبنان.
أما بخصوص إنفاق 7 مليارات دولار على الطرق، فهذا الأمر يثير الكثير من التساؤلات والريبة. هل أهل السلطة يسعون لإعادة إحياء نظام التوزيع القائم على تحويل المال العام إلى مال خاص عبر مشاريع لا قيمة ولا طعم ولا نكهة لها؟ هل فكّر نجار بما يمكن أن نفعله بمبلغ 7 مليارات دولار في مجال النقل المشترك واللين، بدلاً من «حرقها» على طرقات ستزيد أزمة السير تعقيداً. فعلى عكس ما يعتقد نجار، سواء عن اطلاع وخبرة أو عن ضعف المعرفة وقلّة الإلمام، إن زيادة الطرقات بكيلومتر واحد هو هدر، حرفياً، لكل قرش، لأن ذلك سيزيد الطلب على استعمال السيارة، وبالتالي سيؤدي إلى مزيد من التورّم في زحمة السير ويُدخلنا في حلقة مفرغة من توسعة الطرقات وزيادة عدد السيارات. قد يكون مفهوماً أن يدافع الوزير عن أعمال وزارته والتقصير في مراقبة الأشغال العامة سواء في التخطيط أو التنفيذ أو الاستلام، لكنه فضّل أيضاً تقديم صكوك براءة للمتعهدين والفاسدين من خلال إشارته إلى قدم الطرقات، لا بل بدا أكثر تناقضاً عندما أشار إلى توافر اعتمادات صيانة الطرق ثم أقرّ لاحقاً بأن اعتمادات وزارته صفر، وأن بعض أشغال صيانة الطرق تمّت بمبادرات «خيّرة»، من هم هؤلاء «الخيّرون»؟ هل سلكت تبرعاتهم الطرق الدستورية؟ هل كانت فعلاً بلا مقابل؟ هل يقدّم الوزير تبريراً لتفسير طوفان الطرقات في الشتاء، مرّة عبر تحميل عدم الاستثمار في تحديث الطرقات وتوسيعها، ومرة عبر غياب الاعتمادات، ومرّة عبر تحميل المسؤولية للبلديات والمواطنين الذين يلوّثون مجاري المياه، متغاضياً عن الفساد في التلزيمات وفساد استلام الأشغال…
السكك الحديدية لها قصّتها مع الوزير أيضاً، فهو لم يشرح كيف ومتى جرى النقاش مع شركات صينية وغيرها؟ من هي هذه الشركات؟ ولماذا هي مهتمّة، وفي إطار أي مشروع؟ أين أصبحت هذه الاقتراحات؟ هو يجزم بأن وجود قطار يحلّ أزمة السير، لكن هذا الأمر تدحضه الدراسات، فالقطار غير كافٍ إن لم يأتِ ضمن خطّة لخفض استعمال السيارة وتخطيط مدني وعمراني ملائم (غالبية الدول الصناعية والغنية تملك شبكات نقل مشترك متطوّرة وقطارات تحديداً، إلا أنها تعاني من أزمات سير بعضها أكثر تعقيداً من أزمة لبنان). على أي حال، إنْ اعتبر الوزير وجود تعدّيات على خطوط سكك الحديد وأملاكها في لبنان، هو أمر قابل للعلاج، فلماذا لم يبدأ به بعد؟
وإذا كان الوزير يريد تطبيق «المعايير الدولية» لتسهيل تنقلات ذوي الاحتياجات الخاصة، وهم فئة مهمشة وشبه غير معترف بها في لبنان، فما هي هذه المعايير الدولية التي يريد استيرادها؟ هل هناك تعريف واضح لها غير التعريفات التي تتعلق بالإنسانية والمعاملة الراقية؟ قد يكون اللجوء إلى تعابير من نوع «معايير دولية» مفيد للترويج الإعلامي. إذا كانت هذه المعايير غير مطبّقة لدينا، فإن المسؤولية تقع على السلطة التي يمثّلها الوزير نجار، أما تفسيراته غير المنطقية من خلال ربط حالة الانهيار بمسائل متصلة بتنقل ذوي الاحتياجات الخاصة في النقل العام، هي تعدّ قصر نظر، لأنه يخطئ من يظنّ أن ذوي الاحتياجات الخاصة لا يتنقلون بالسيارة أو مشياً على الأقدام أو بالعربات المدولبة أو أنه يعتقد أن مشاكل ذوي الاحتياجات الخاصة محصورة بالتنقل بواسطة النقل العام؟
امتياز النقل البحري
ثمة مشكلة واضحة إذا كان وزير النقل يتحدث عن النقل المشترك بوصفه يقتصر على سيارات الأجرة وباصات النقل العام. يتغافل الوزير قصداً أو جهلاً، عن وجود 3500 باص و16000 فان يشغّلهم القطاع الخاص والأفراد (مع تقديرات بأن 70% يعملون بطريقة غير شرعية)، لا بل اعتبر أن النقل العام هو الأرخص والأسهل للاستعمال، وهذا أمر غير صحيح أبداً. في عام 2018 أجريت دراسة تبيّن فيها أن أقل من 13% من مستخدمي النقل المشترك في لبنان يستعملونه نظراً للخصائص التي يقدّمها (سهولة، سرعة، راحة، أمان،…)، فيما ترتفع هذه النسبة إلى أكثر من 50% لمستخدمي السيارات.
توسيع الطرقات يعني زيادة هامش استعمال السيارات التي يُعتمد عليها أكثر للتنقل في لبنان
لم يقل الوزير لماذا يعدّ مشروع خطوط الباصات ضمن بيروت الكبرى أهم من مشروع المسارات المخصصة للباصات بين بيروت وطبرجا. بناء على أي دراسة جدوى جرى هذا الاستبدال. هل الإجابة تكمن في ما قاله تالياً عن مشروع «تاكسي بوت». فهذا المشروع يعدّ خيالياً، حتى بمقاييس السلطة الحالية. تاكسي البحر، لا يتطلب دراسة تقنية، بل أيضاً لا يمكن تقديمه كوجبة منفردة. يجب أن يأتي في إطار خطة متكاملة. الشق التقني يمثّل مانعاً للحديث عنه بشكل أساسي، ويجعله مشروعاً مهماً لـ«الكزدورة» والسياحة في عرض البحر، فيما قد تبدو قدرته الاستيعابية ضئيلة للغاية نسبة إلى الحاجة؟ وهو لا يُغني أبداً عن وجود خطط نقل متوسطة وبعيدة بعد الوصول من مرفأ ضبيه إلى مرفأ بيروت، مثلاً. ألا يحتاج الأمر إلى نظام نقل مشترك للانتقال إلى مسافات أكثر عمقاً؟ مَن سيحصل على امتياز النقل عبر البحر هذه المرّة؟
في هذه الإطلالة ورد الكثير مما يدلّ على أن الهدف منها الترويج للجامعة التي يعمل فيها الوزير ولاختصاص النقل. أما في المضمون، فهناك الكثير من الملاحظات: الوزير أعفى البلديات من مسؤولياتها تجاه المشاركة في حلّ أزمة النقل، وهو لم يذكر مطلقاً موضوع رفع الدعم والكارثة التي ستحلّ على اللبنانيين، وهو أيضاً لم يذكر خلال 45 دقيقة كلام، أي كلمة عن النقل الليّن (المشي على الأقدام والدراجة الهوائية) رغم المنحى العالمي الذي يأخذه هذا النوع من التنقل وخصوصاً بعد جائحة كورونا، علماً بأن هنالك دراسات جاهزة للتنفيذ في ما يخصّ بيروت. إلقاء اللائمة على الأزمة الاقتصادية والصحية الحالية لتبرير القصور في معالجة مشاكل النقل، هو في غير محله… كل ما قيل هو أحاديث مكرّرة وتقليدية عن النقل تتضمن أخطاء شائعة وخلفيات واضحة. ليس منتظراً من نجار أو أي وزير غيره، أن يحيد عن الفولكلوريات بما أنه لا يُمثّل سوى شخص إضافي في منظومة سقطت منذ حين وفي دولة تفككت بنيوياً كل قطاعتها، وليس أولها قطاع النقل.