نظام الحصانات والمآسي المستمرة
أحمد العطار*
يتداعى اللّبنانيّون إلى التظاهر يوم الأربعاء المقبل لمناسبة الذكرى السنويّة الأولى لانفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. لكنّ الذكرى لدى عدّاد أهالي الضحايا لا تقاس بالسنوات، فلا غاب أبناؤهم عن ذاكرتهم طرفة عين، ولا هم غابوا عن شارع الضغط الشعبيّ كلّما تحرّك ملفّ أبنائهم. وإذ بقي انفجار العاصمة في بال اللبنانيّين كدليل على “فشل السلطة وإجرامها”، لا سيّما مع ما رافق التحقيقات من مناوشات سياسيّة وقضائيّة، فإنّ الدعوات للتظاهر يوم الرابع من آب قد أخذت للتوّ –شئنا أم أبينا– بُعدها السياسيّ. كيف لا وقد برز ملفّ الحصانات ممهورًا بعريضة نيابيّة وتحليلات دستوريّة وتأويلات قانونيّة؟ والحقّ أنّ مجرى الأحداث لا يكاد يحيد عن توقّعات المُشاهد اللّبنانيّ، من التعطيل إلى تقاذف الاتهامات، وصولًا إلى الاستثمار السياسيّ بدم الضحايا.
لكنّ المؤسف أنّ قضيّة الحصانات، كما الانفجار، نتيجتان مباشرتان للنظام اللبنانيّ بشكله الحاليّ. كان جليًّا منذ الأيام الأولى ارتباط نظام المحسوبيّات والتحاصص الطائفيّ بالفاجعة. لا نستبق هنا نتائج التحقيقات ولا نستبعد أية فرضيّة، إنّما الفرضيات جميعُها تمرّ من بوابة المحاصصة وتقاذف المسؤوليّات، أو ما يسمّونه التوافق ونسمّيه ائتلاف زعماء الطوائف وأزلامهم. فكأنّ الهدر والتوظيف العشوائيّ وغياب الرقابة والإهمال وربّما الارتباطات الخارجيّة قد انفجرت دفعة واحدة. أمّا الحصانات فتقبع في جوهر النظام، حالُها حالُ المحاصصة، وتظهر بين الحين والآخر لحماية الحاشية، من موظف الدولة إلى حاكم المصرف، مرورًا بالنائب والوزير والمدير العام… إلى الأمن العام.
ليست الحصانة هنا بندًا تشريعيًّا، ولا المعركة ضدها معركةٌ قانونيّة، إنّما هي قرارٌ سياسيٌّ بأدوات ومرجعيّات مختلفة. نأخذ على سبيل المثال حصانة “الخط الأحمر” الدينيّة، كحال البطرك مع “سلامة” أو المفتي مع “السنيورة”… ولا حصانة قانونيّة في ما سلف، إنّما الحصانة سياسيّة، يفرضها رجل دين أو زعيم طائفة أو موظّف حكوميّ أو سفيرٌ أجنبيّ أو وزير خارجيّة، ويبقى القضاء واجهةً تُستخدم عند الحاجة، ويتم التمرّد عليها إن لم تحقّق العفو المنشود. يحضرني هنا تصريح رئيس المجلس النيابي نبيه بري عام 2017: “الضعيف يذهب إلى القضاء”.
ثمّ إنّ تاريخ لبنان الحديث شاهدٌ على حصانات مختلفة، فقد بدأت حقبة ما بعد الحرب بعفوٍ عام شمل جميع اللبنانيين تمهيدًا لإرساء ائتلاف زعماء المال والحرب، وتلا مرحلةَ التحرير إطلاقُ سراح العديد من العملاء بعد تسليمهم للقضاء اللبنانيّ، ثمّ بدأت حقبة ما بعد 2005 بعفوٍ خرج على إثره سمير جعجع، ولم يصل التحقيق في اغتيالات الـ2005 إلى أية نتيجة، كما أُودعت ملفات الفساد طيلة خمس عشرة سنة في جوارير القضاء، وخرجت سوزان الحاج ومنى بعلبكي من السجن بعد أشهر قليلة، وشرب النواب والوزراء وأعضاء جمعية المصارف القهوة في كافيه علي إبراهيم. والحقّ أنّ الفشل في كلّ هذه الملفّات عجزٌ بنيويّ، فلا يستقيم نظام ائتلاف زعماء الطوائف بغير الحصانات، والزعماء بحكم دورهم الوظيفيّ عاجزون عن محاسبة رعايا طوائفهم، لأنهم بذلك يخسرون جزءًا من حاشيتهم، عاجزون عن محاسبة رعايا الطوائف الأخرى لدواعي التوافق السياسيّ، لأنهم بذلك يهدّدون مصالحهم لدى الزعماء الآخرين، عاجزون عن محاسبة العديد من المسؤولين لارتباطاتهم الخارجيّة، لأنهم بذلك يخسرون دعم الخارج الماديّ والسياسيّ. فالأولويّة للحفاظ على كرسيّ الزعامة، وإن على حساب المجتمع.
ساعات بعد الانفجار أطلّ علينا وزير الداخلية محمد فهمي معلنًا انطلاق التحقيق، وحدد مهلة خمسة أيام لإنهاء التحقيقات ومصارحة اللبنانيين بحقيقة ما جرى ومعاقبة المسؤولين. ثمّ أطلّ بعدها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله متوجّهًا إلى اللبنانيّين بضرورة انتظار نتائج التحقيق، محمّلًا الدولة مسؤوليّة كشف الحقيقة، وقال إنّها الفرصة الأخيرة لنثبت للبنانيّين إن كان هناك دولة في لبنان، فإذا لم يتم الوصول في هذه القضية إلى نتيجة “فلا يوجد أمل ببناء دولة”، وإنّ ما جرى سيدفع اللبنانيين إلى الحسم: “هل توجد دولة في لبنان أو ما في دولة، هل هناك أمل في الدولة اللبنانية أو ما في أمل؟”. كما انطلقت بالتوازي دعوات السياديّين إلى تحقيق دوليّ، متناسين أجندات الخارج ومصالحه وحصاناته، بل ورعايته للنظام بمعظم وجوهه.
والحقيقة أنّ الأمر محسومٌ مسبقًا، لا دولة في لبنان. لعلّ مدة اثني عشر شهرًا من المناوشات القضائية والمحسوبيّات والتدخلات الداخليّة والخارجيّة كانت كافيةً ليدرك معظم اللبنانيّين أنه “ما في دولة”. وعليه، تصبح غاية العمل السياسيّ اليوم فرض بناء دولة في لبنان، ويصبح الأمل ضرورة وليس تكهّنًا.
ثم برزت مؤخرًا قضيّة الحصانات كآخر فصول المحسوبيّات. والقضيّة وإن أخذت صورة قانونيّة، فرأيتَ النواب والوزراء والقانونيّين يحتجّون بالدستور والقوانين واختصاص مختلف المحاكم، حتى طالب البعض بتعديل دستوري لرفع الحصانات، كمن يضع العصي في الدواليب، فإنّ القضية تبقى سياسيّة. متى راعى المجلس الأصول الدستوريّة؟ أين كان الدستور حين مُدّد للمجلس ثلاث مرّات، أو حين أُدير البلد من غير موازنة لسنوات، أو حين مُرّرت الموازنة من غير قطع حساب؟
واليوم بعد سنة من التحقيقات المتوقّعة المصير، لا يسعنا سوى أن نقف في 4 آب خلف أهل الضحايا، أولياء الدم، الكلمة لهم اليوم، والعزاء عزاؤهم، الصرخة صرختهم، ولا مأساة تفوق مأساتهم، رغم كوننا جميعًا ضحايا لهذا النظام، الذي خلّف في 4 آب آلامًا جسديّة وماديّة ونفسيّة طالت شريحة واسعة من المجتمع اللّبنانيّ. وإن كان 4 آب يومًا للذكرى، فبقية أيامنا للنضال حتمًا. إنّ المعركة ليست قانونيّة، ولا معركة ضغط على القضاء، بل معركةُ سياسيّة لإسقاط نظام اللادولة، نظام التحاصص والحصانات، لأنه لا قضاء في غياب شرعية الدولة، ولا محاسبة في ظلّ التوافق. معركتنا سياسيّة لبناء دولة قويّة قادرة تدير مآسي المجتمع، وتعيد هيكلة العلاقات بين السلطات لبناء قضاء قادر على القيام بالتحقيقات، وإرساء نظام بعيد عن الحصانات، والأمل لدينا كبير.
*عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة