رؤية «مواطنون مواطنات في دولة»: أن نعيد للسـياسة تعريفَها النبيل
مقال ل وسام اللحام نشر في جريدة الأخبار في تاريخ 04/12/2019
الرؤية متوفرة على هذا الرابط.
غاب عن لبنان، أقلّه منذ انتهاء العنف المسلّح وإرساء نظام الهدنة بين أمراء الحرب، أيُّ طرح سياسي ينطلق من الواقع ويهدف لتحقيق الصالح العام. لقد قام النظام الحالي، بعد إرساء سيطرته على الدولة عام 1992، بتدمير الفهم الصحيح للسياسة واستبدالها بمجموعة من الممارسات السلطوية التي هدفت إلى إبقاء اللبنانيين في مرحلة ما دون السياسة، عبر منعهم من التفكير في الصالح العام والدفاع عنه. لقد سجن النظام اللبنانيين في منظومة من المصالح المتضاربة، حيث تسود المنفعة الخاصة الآنية وعدم الاكتراث بالشأن العام بوصفه المحدّد الذي يعطي للفرد المعاني المرتبطة بمواطنيته.
السياسة هي وفقاً للتعريف الشهير الذي يعطيه لنا أرسطو في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس»، العلم الذي به يتوصّل الفرد إلى معرفة الخير الأقصى الخاص بالمدينة أو الدولة، وفقاً للتعبير المعاصر. فالسياسة تختلف عن سائر العلوم العملية، كونها تهدف إلى تحقيق الصالح العام وليس الخير الجزئي. وبما أن الصالح العام هو أشرف وأنبل من الصالح الجزئي، كان العلم الذي يتوصل به إليه أشرف العلوم وأنبلها. فالخير الذي يحصل عليه الإنسان من عائلته أو قريته أو أيّ اجتماع ما دون الاجتماع السياسي، هو خير جزئي ومنقوص كونه خيراً يهدف إلى سدّ الحاجات المادية للإنسان كالمسكن والملبس والطعام والأمن. أي أن الخير المتأتّي من هذه الاجتماعات ينظر إلى حاجة الإنسان بوصفه حيواناً، بينما الحاجة التي تسعى المدينة إلى سدّها هي تلك التي تعود إلى الإنسان بوصفه إنساناً. فالاجتماع السياسي هو، كما قال لنا الفارابي، الاجتماع الكامل الذي به ينال الكمال الأقصى. لذلك، السياسة هي العلم الذي به يتوصل الإنسان إلى تحقيق كامل إنسانيته.
لا تشكّل هذه المقدمة النظرية مبالغة في غير محلّها، كون التشويه الذي أدخله النظام الحاكم في لبنان لم يقتصر على تدمير الاقتصاد الوطني وإرساء منظومة من الزبائنية والفساد البنيوي الممنهج، بل أيضاً دفع باللبنانيين إلى حالة خطيرة من الانقسام الطائفي لدرجة أن الخير العام لم يعُد هذا المحرّك الكفيل بإيجاد من يدافع عنه. فعندما يغيب الخير العام الذي يُعتبر الغاية النهائية لوحدة الاجتماع السياسي، تغيب معه فكرة المواطنة التي تجمع بين الأفراد لتحلّ محلّها الولاءات الجزئية لأصحاب النفوذ والسلطة. وبالتالي، لا تعود السياسة هذا الفن الذي يهدف إلى الدفاع عن المجتمع انطلاقاً من واقعه ومشاكله الحقيقية، بل تصبح مجرّد وسيلة لتحقيق المصالح الخاصة بغضّ النظر عن مدى توافقها مع الصالح العام.
السياسة في لبنان باتت فعلياً اللاسياسة. هي توافق مجموعة من زعماء الطوائف بحجة «الوحدة الوطنية» و«الميثاق الوطني» من أجل الحفاظ على توازن سلطويّ هش، قد يتحوّل في أيّ وقت من الأوقات إلى نزاع مسلّح أو ما يُعرف في لبنان بالحرب الأهلية.
إن نظام الزعماء هو بماهيته نقيض السياسة بتعريفها النبيل الذي يهدف إلى تحقيق الوحدة بين المواطنين، من خلال تحديد وحدة الهدف التي تجمع بينهم، أي أن وحدة الاجتماع السياسي هي نتيجة لوحدة الخير العام.
تحدّد رؤية «مواطنون ومواطنات» الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بشكل واضح
هذا هو التفسير الفلسفي لرؤية «مواطنون ومواطنات في دولة». فاسم هذا الحزب هو بحدّ ذاته مشروع فلسفي متكامل يهدم كل مدماك في دولة زعماء الطوائف. الرؤية التي تقدّمت بها حركة «مواطنون ومواطنات» تعيد إلى السياسة نبلَها في زمن حوّلها النظام إلى إهانة ينفر منها الجميع. ويتجلّى هذا الأمر في المحاور التالية:
- انطلاق الرؤية من الواقع: السياسة هي علم عملي أي أنها تهدف إلى تغيير الواقع، ولا يمكن تغيير هذا الأخير إلّا من خلال معرفته معرفة علمية، بينما يقوم النظام الحاكم على إنكار الواقع والهروب إلى الأمام عبر محاولات يائسة لشراء الوقت.
- وضع الرؤية للخير العام كهدف أقصى لها: تقوم رؤية حركة «مواطنون ومواطنات» بتحديد الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بشكل واضح لا لبس فيه. فهي تطرح البديل الحقيقي عبر تحميل كلّ شرائح المجتمع مسؤولية مواجهة الحالة التي وصل إليها لبنان. وهي بالتالي تعيد إلى السياسة فهمها الصحيح كخيار يتحمّل مسؤوليته من يتّخذه، وليست مجرّد ألاعيب سلطوية ومناكفات بين جهات عاجزة عن اتّخاذ أيّ قرار فعلي. فالورقة التي تطرحها الحركة، تضع نصب أعينها الخير العام، عبر التأكيد على ضرورة القيام بتوزيع عادل وهادف للخسائر في هذه المرحلة.
- وجود خطة متكاملة: السياسة التي تنطلق من الواقع، تقوم باقتراح حلول عملية لمشاكل هذا الواقع. وبالفعل، تضع الرؤية خطة متكاملة للانتقال من نظام زعماء الطوائف إلى الدولة المدنية، من خلال تشكيل حكومة تتمتّع بصلاحية إصدار مراسيم اشتراعية وصولاً إلى تبنّي قانون انتخابي جديد ينهي حالة الهدنة بين أمراء الطوائف وينقلنا إلى حالة سلام المواطنة.
لا بدّ لنا في النهاية، ومن دون التوسّع في التفاصيل، من مناقشة نقطة لم تركّز عليها الرؤية بكشل كافٍ. عندما يتم الكلام عن الدولة المدنية، قد يفهم البعض أن المقصود هو إرساء نظام علماني يلغي الطائفية السياسية. وهذه نقطة ملتبسة يستغلّها النظام لتضليل اللبنانيين وإخفاء طبيعة سلطته الفعلية. فبغضّ النظر عن الدولة العلمانية، وعن سيئات الطائفية السياسية، لا بدّ من التركيز على ضرورة التفريق بين نظام الزعماء والطائفية السياسية. فالطائفية السياسية هي نظام مؤسساتيّ يتمّ تكريسه في نصوص دستوريّة تهدف إلى تأمين مشاركة الطوائف بوصفها ظاهرة اجتماعية في مؤسسات الدولة.
لا يشكل هذا النظام بمفهومه المؤسّساتي الصرف، حالة استثنائية تخصّ لبنان وحده فقط، بل نجد أحكاماً مشابهة في دول كثيرة من العالم، كبلجيكا على سبيل المثال حيث ينصّ الدستور على توزيع المقاعد في مجلس الوزراء مناصفة بين المجموعتين اللغويتين «الفلامان» و«الولون». الطائفية السياسية لا تعني وجود زعماء يشترون الولاء السياسي عبر الزبائنية، ويوطّدون سلطتهم عبر تبعيتهم للخارج وإنشاء مواقع نفوذ لهم في مختلف إدارات الدولة. كل هذه الوسائل هي انعكاس لسلطة أمر واقع نشأت خارج المؤسسات وتقوم بإحكام قبضتها عبر اتّباع أساليب غير قانونية. وهكذا، يظهر لنا كيف يستخدم نظام الزعماء الطائفية لإخفاء حقيقة سلطته عبر الإيحاء أن الزعماء هم نتيجة طبيعية للطائفية السياسية، وبالتالي يشكّل أي انتقاد للزعماء انتقاداً للطائفية السياسية، ما يدفع بعض الزعماء إلى المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية، وكأن مجرّد إلغائها كفيل بإنهاء جميع مشاكل لبنان.
ويظهر ذلك، مثلاً، في مطالبة البعض بإنشاء مجلس للشيوخ وإلغاء التمثيل الطائفي في مجلس النواب. في الحقيقة، إن إنشاء مثل هذا المجلس في ظلّ بقاء نظام الزعماء سيؤدّي بكلّ بساطة إلى نقل المحاصصة والزبائنية إلى مجلس الشيوخ، مع الإبقاء على الهيمنة ذاتها للزعماء في مجلس النواب، حتى لو جرت الانتخابات خارج القيد الطائفي. لذلك، إن أيّ إصلاح فعلي وحقيقي في لبنان يبدأ بتفكيك نظام الزعماء، مع الإبقاء أو إلغاء أو تطوير الطائفية السياسية. المهم، هو الفصل المفهومي بين الزعماء والطائفية السياسية كي يتمكّن اللبنانيون من رؤية سلطة الزعماء على حقيقتها، بوصفها سلطة أمر واقع تتّخذ من الطائفية ستاراً لها.
وقد تنبّهت رؤية حركة «مواطنون ومواطنات» لهذا الأمر، عندما أشارت إلى القيام بتعداد للسكان بحيث يتمكّن كل فرد من تصنيف نفسه، إمّا ضمن طائفة أو خارج القيد الطائفي، مع تطبيق الأمر نفسه على التمثيل داخل مجلس النواب. فالرؤية تكون قد ميّزت، وإن بشكل غير مباشر بين النظام الحالي والطائفية السياسية، وقالت باحتمال المحافظة على شكل من أشكل الطائفية السياسية، من دون المسّ بحرية الاعتقاد المطلقة التي يكفلها الدستور.
يشكل الطرح السياسي لحركة «مواطنون ومواطنات»، تجلّياً من أبهى تجليات السياسة كأشرف العلوم التي تهدف إلى الدفاع عن المجتمع والخير العام، وهي دعوة كي يتذكّر جميع اللبنانيين مواطنيتهم الضائعة التي همّشها نظام تحالف أمراء الحرب وأصحاب المليارات المشبوهة.
* أستاذ جامعي