مواطنون ومواطنات: من أجل مظلّة لبناء دولة مدنيّة
مقال للاستاذ الجامعي كريستو المر الذي نشر في جريدة الأخبار بتاريخ 14 تموز 2020 على الرابط التالي.
في خضمّ الانهيار المتسارع للبنان، وبعد ورقة «لقاء الكومودور» وخطّة «مواطنون ومواطنات في دولة»، صدرت مواقف مختلفة حزبيّة، كلّها تصبّ في خانة المبادئ العامة (محاربة الفساد، قضاء مستقلّ، عدالة اجتماعيّة، إلخ)، وبذلك هي تشبه «ورقة الكومودور»، ولكنّها تشترك في كونها تفتقر إلى رؤية واضحة متجسّدة في خطّة مُحْكَمة. حتّى اللحظة، لا توجد خطّة واضحة وممكنة التحقيق إلّا خطّة «مواطنون ومواطنات في دولة» وهي خطّة مترابطة، في تحديدات زمنيّة متتابعة، تبدأ بضبط تبعات الإفلاس الحالي وحماية المجتمع، وتُستكمَل بإرساء شرعيّة الدولة، وتنتهي بالعلاقات الخارجيّة. هي خطّة بأهداف مرحليّة، يؤدي تحقيقها إلى تحقيق هدف أخير: بناء دولة مدنيّة قادرة على الإنتاج والنهوض الاقتصادي، وعلى الدفاع عن نفسها.
بالطبع، الواقع يقول إنّ الذين حكموا البلاد (وهنا تصحّ «كلّن يعني كلّن») مسؤولون عمّا آلت إليه الأوضاع، أي عن النهب المبرمج، فمنهم من ساهم فيه بيده، ومنهم بلسانه، ومنهم بقلبه، ومنهم بصمته وحمايته للمنظومة كلّها ودفاعه المستميت عنها. لا يمكن لحزب ساهم في الحكم في أيّة لحظة بعد الحرب الأهليّة التبرّؤ من المسؤوليّة. لهذا، كان من المتوقَّع ألّا تأتي الحكومة الحاليّة بأيّ حلّ، طالما أنّ أعضاءها هم في الواقع دُمى متحرّكة لقوى فعليّة ساهمت ــــــ كلّ بطريقة ـــــــ في الانهيار المالي الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الدول الأجنبيّة للتدخّل في لبنان وتقاسم النفوذ فيه. هذا التدخّل للسفارات، لم يحدث البارحة ولا بعد ١٧ تشرين الأوّل، بل هو جزء من المنظومة الفاسدة لهذا النظام العفن، لكنّ الانهيار الذي تمّ بسبب الذين حكموا فتحَ الباب لتدخّلات أوسع، وبالتالي هم الذين يُساءَلون عن عمل السفارات لا الناس الذين خرجوا إلى الشارع وجعاً.
لا نرى منطقيّاً حلّاً ممكناً حقيقيّاً، إلّا بقيام مظلّة وطنيّة جامعة لدعم الخطّة الوحيدة الممكنة والموجودة حاليّاً، ألا وهي خطّة «مواطنون ومواطنات في دولة»، فالإرث لعينٌ حقّاً، والتعاون يمكن أن يحمي المتسلّقين على آمال الناس من حكّام الأمس الذين فجأة صاروا «ثوّاراً»، ومن الخبراءِ المرتزقةِ الذين يكتبون وينشرون لمن يدفع أكثر، ومن إعلاميّي المصارف. الحلّ يكمن في خطّة متينة، لكنّ مفتاح الحلّ لتنفيذها هو مظلّة وطنيّة (١) تجمع قوى شريفة، (٢) وتحظى بدعم شعبيّ واسع.
وهناك وجوه شريفة ومجموعات مضيئة. من السياسيّين الشرفاء يمكننا أن نذكر أسامة سعد، مثلاً، وأحزاباً لم تتلوّث بالفساد؛ ومن المجموعات المضيئة يمكننا أن نذكر العديد من التيّارات والمجموعات التي برزت في انتفاضة ١٧ تشرين الأوّل منها: لحقّي، والمفكرة القانونيّة، ونقابة الصحافة البديلة، والأساتذة المستقلّون في الجامعات، وغير هذه الكثير.
ليس صحيحاً أنّ نظام الزعماء لا يمكن تحييده. فالتاريخ القريب يبيّن أنّ الانتفاضة الشعبيّة التي حدثت بعد مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري ـــــــ المسؤول الأوّل وليس الوحيد عن إرساء دعائم السياسات الاقتصاديّة الكارثيّة الحاليّة ـــــــ ومهما اختلف الناس في مدى عفويّتها، وفي مدى استخدامها من القوى الخارجيّة ومن زعماء الطوائف لتصفية حساباتهم، فإنّها قد أدّت إلى اجتماع الناس على هدف واحد سبّب تغييرات سياسيّة واسعة وخروج جيش كامل من لبنان. وبالتالي، لا يمكن إلّا الاستنتاج أنّه إذا اجتمع الناس على هدفٍ واحد «لا بدّ للقيد أن ينكسر». ومفتاح اجتماع الناس أمران: (١) اقتناعهم بأنّهم الأقوى (السياسيون وإعلاميّوهم ورجال أديانهم يعملون على إقناع الناس زوراً بأنّهم الأضعف)، (٢) وإحساسهم بأنّ هناك أملاً، والأمل موجود بوجود خطّة بديلة وبوجود مجموعات من الشرفاء في هذه البلاد، ومنهم من جرّبه الناس في السلطة وخرج منها لأنّه لم يسجد لأرباب الفساد، وأعني به شربل نحّاس؛ وهو ـــ رغم أيّ انتقاد قد يوجّه له ـــ يجمع المعرفة بالجرأة وحرّية القرار، وهو ليس وحيداً بذلك، ولكنّه الوحيد الذي جرّبه الناس ويعرفون حكاية خروجه من السلطة إنساناً يشبه مواطني بلده لا أولئك الذين استغلّوا ورتّبوا مؤسّسات الدولة لتعمل لصالحهم، وأجمعوا على ارتكاب أكبر جريمة اجتماعيّة في التاريخ: قتل اقتصاد شعب كامل ونهبه. اليوم، كلّما وقع مريض ميتاً لانعدام الدواء أو الاستشفاء أو الكهرباء أو عدم امتلاكه ثمنه، وكلّما انتحر إنسان لانعدام الأمل والغرق في اليأس، علينا أن نعي ونقول بشكل واضح لا لبسَ فيه إنّنا أمام جريمة، ذلك أنّ وفيّات كهذه كان من الممكن تجنّبها، وما منع تجنّبها هو «كلّن يعني كلّن» الذي اشتركوا في بناء النظام الطائفي واستفادوا منه، واليوم يشتركون في الدفاع عنه لإدامة تفكّك الدولة واستغلال الناس، في انحدار متسارع نحو بناء دولة بوليسيّة مكشوفة الوجه.
في الوقت نفسه ـــ ومهما كان اعتقاد الإنسان ومشاعره تجاه الفريق الذي عمل في العقود الأخيرة على متابعة مقاومة اعتداءات العدو الإسرائيلي التي لا تتوقّف ـــ فإنّ واقع دحرِ مجموعةٍ مقاوِمةٍ لعدوٍّ خارجي، بواسطة الفكر والتخطيط والتحالفات أساساً، يُثبت بما لا يحمل مجالاً للشكّ أنّ بلداً صغيراً كلبنان يمكنه أن يدافع عن نفسه بقدرات صغيرة نسبيّاً، وبأنّ استخدام لبنان لقدراته الموجودة يمكّنه من ابتكار خطّة دفاعيّة حقيقيّة، ولكن ضمن بنية دولة عادلة وقادرة، وليس خارجها. هذا، منطقيّاً، ممكنٌ لأنّ التجربة أثبتته، وعمليّاً يُصبح ممكناً إن اجتمعت مظلّة وطنيّة واسعة تلتقي على خطّة «مواطنون ومواطنات في دولة»، التي تلحظ وضع خطة دفاعٍ واقعيّة ضمن الدولة للدفاع عن البلاد، خطّة تحتضن الخبرات القتالية الموجودة فيه، والتي هي جزء من هذا الشعب، ومن يريد أن يبني دولة حقيقيّة لا بدّ أن يعانق هذا الواقع ويستوعبه ضمن دولته المدنيّة.
الوصول إلى نظام إنسانيّ يحتاج إلى تعاون الأنقياء، وهم ليسوا نادرين، هم موجودون وبوفرة. إنشاء مظلّة وطنيّة جامعة تتبنّى خطّة «مواطنون ومواطنات في دولة» (وتحسّنها حيثما أمكن)، وتدفعها للتحقيق، وحده اليوم ما يمكّن الناس من استعادة زمام أمورهم. هل السعي هذا مضمون النتائج؟ بالطبع لا، ولكن إن لم نفعل شيئاً فالموت والاستعباد العملي للزعماء لعشرات السنوات هو المضمون؛ إن لم نحتضن الخطّة الوحيدة الموجودة اليوم بإنشاء لقاءٍ وطنيٍّ جامع، فإنّ اعتلال الصحّة والموت على أبواب المستشفيات، وانعدام التعليم ذي المستوى، واليأس، والهجرة، والفقر العميم، هو المضمون.
لا يوجد زعماء وطنيّون اليوم، جميعهم زعماء طائفيّون، وأولويّتهم ليست كرامة المسجّلين في طوائفهم وإنّما تثبيت تبعيّة المنتسبين والمنتسبات إلى الطائفة، والمؤيّدين لهم هم بالذات، ولمشروعهم بالذات؛ وبناء على تصرّفاتهم خلال ١٧ تشرين الأوّل، فإنّ مشروعهم «كلّن» يبدو منسجماً مع استمرار الدولة العاجزة والمنهارة والمفكّكة، لأنّها تُسَخَّر بسهولة لهم، وليس مع دولة قويّة وعادلة تحمي حياة مواطنيها ومواطناتها وكراماتهم وتجعلهم أحراراً يسائلون سياسيّيهم.
وحدها مظلّة وطنيّة جامعة تحتضن الخطّة الوحيدة المنطقيّة والهادفة، تسمح لنا ببناء دولة مدنيّة، لكن المظلّة تحتاج حين نشوئها إلى كلّ الدعم الشعبي، إلى استمرار نبض 17 تشرين، لنبني دولةً حقّةً في أرضنا ووطننا، لنصبح مواطنين ومواطنات متساوين في الكرامة والحقوق. نعم هناك أمل، وهو بين أيدينا وليس في أيّ مكان آخر.