الأزمة المعيشية وتضخّم الأسعار
الفقر يدقّ الأبواب
بقلم ليلى السيّد*
أدّت السياسات المالية التي اعتُمدت في لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية إلى الضائقة الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها اللبنانيون واللبنانيات اليوم. هذه الضائقة، وإن كانت بطبيعة الحال شديدة الوطأة على محدودي الدخل، إلّا أنها تطال جميع فئات المجتمع بدرجات متفاوتة. شهد لبنان في الآونة الأخيرة ارتفاعًا حادًّا في أسعار السلع والخدمات بعد خسارة الليرة نحو 85% من قيمتها مقابل الدولار الأميركي.
ارتباط ارتفاع أسعار السلع والخدمات بضُعف العملة المحلّية أمام الدولار الأميركي، يشار إليه في علم الاقتصاد بمصطلح “مرور سعر الصرف”، الذي له آثار مباشرة وغير مباشرة:
- ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية المستوردة لارتباطها بعملة البلد المصدِّر. إذ على الرغم من عدم تغيّر سعرها بالعملة الأجنبية، لكن ارتفاع سعر الصرف سوف يؤدّي إلى ارتفاع قيمتها بالعملة المحلّية (الأثر المباشر)،
- ارتفاع أسعار السلع المحلّية الصنع لاعتمادها في الإنتاج على مواد أوّلية مستوردة (الأثر غير المباشر).
تشهد المواد الغذائية تضخّمًا غير مسبوق وصل إلى 250% في حزيران 2020 بالمقارنة مع السنة الماضية. ولتعقّب هذا التضخّم، أصدرت إدارة الإحصاء المركزي مؤشّرًا لمعدّل تضخّم الأسعار في جميع أبواب الإنفاق (أنظر الرسم البياني رقم 1). على سبيل المثال، تضاعفت أسعار المواد الغذائيّة ثلاث مرّات، بحيث شهدت أسعار الخضار تضخّمًا بلغ 281%، والزّيوت والدهون بنسبة 231%، واللحوم بنسبة 205%. أيضاً ارتفعت أسعار الأثاث والتجهيزات المنزلية بنسبة 412%، والألبسة والأحذية بنسبة 345%، والمطاعم والفنادق بنسبة 242%.
في المقابل، شهد قطاع الكهرباء والغاز والمحروقات استقرارًا في أسعاره بسبب دعم الحكومة الحالي له، من خلال تسعير المحروقات على سعر الصرف السابق (1500 ليرة للدولار). هذا الدعم، وإن كان في ظاهره إيجابيًّا، إلّا أنه سيضع الناس في المستقبل القريب أمام سيناريوهين محتملين:
- استمرار الحكومة في دعم هذا القطاع، وبالتالي استنزاف ما تبقّى من احتياطات الدولار في المصرف المركزي. وهو ما سوف يؤدّي إلى ازدياد الضغط على العملة المحلّية، وإلى مزيد من التضخّم في أسعار المواد الأخرى مثل المواد الغذائية،
- رفع الحكومة الدعم عن هذا القطاع، ما سوف يؤدّي إلى ارتفاع ملحوظ في أسعاره، وبالتالي إلقاء أعباء جديدة على عاتق اللبنانيين واللبنانيات.
في كلتا الحالتين، ومع غياب إصلاحات حكومية جدّية وفعّالة، سوف يزداد العبء على كاهل المواطن/ة ما يؤدّي إلى انخفاض في مستوى معيشته.
الرسم البياني رقم 1
تفاوت حدّة التأثير على الطبقات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة
خلصت دراسة أُجرِيت بين العامين 2018 و2019، عن الأحوال المعيشية للأسر اللبنانية[1] إلى أن دخل 43% من الأسر يقلّ عن مليون و200 ألف ليرة لبنانية شهريًّا، في مقابل 51% من الأسر يتراوح دخلها بين مليون و200 ألف و5 ملايين ليرة، في حين أن الأسر التي يتجاوز دخلها الـ5 ملايين ليرة شهريًّا تصل نسبتها إلى 6% فقط من جميع الفئات. عند النظر إلى كيفية توزيع النفقات بين الفئات المختلفة، نجد أن الأسر محدودة الدخل (لا يتجاوز خلها مليون و200 ألف ليرة شهريًّا)، تخصّص 80% من نفقاتها لتلبية الحاجات الأساسية من الغذاء والسكن والكهرباء والصحّة (الرسم البياني رقم 2).
إلى ذلك، يوضح الرسم البياني رقم 3 التغيير المتوقّع لمختلف النفقات عند الفئات الأسرية الثلاث؛ فإذا افترضنا عدم قدرة الأسر على تخفيض الإنفاق على السكن والكهرباء والصحّة والتعليم والمحروقات في ظلّ غياب خطط حكومية اجتماعية، فإن فئة الأسر ذات الدخل المحدود (التي لا يتجاوز دخلها مليون و200 ألف ليرة شهريًّا) ستجد نفسها مضطرة إلى تخفيف الإنفاق على الغذاء بنحو 50% (أنظر الرسم البياني رقم 3) على الرغم من تخليها عن 90% من الكماليّات (النفقات الأخرى في الرسم البياني 2).
بالنّسبة إلى الأسر ذات الدّخل المتوسّط (بين مليون ومئتي ألف وخمسة ملايين ليرة)، يستحوذ على الجزء الأكبر من نفقاتها المسكن والكهرباء والغاز والمحروقات، بحيث تشكّل هذه الخدمات والسّلع ٣٢٪ من مجمل دخلها. أمّا الغذاء فيشكّل (٢٣٪) والصّحّة (٩٪). وفي ظل التضخّم الحالي، سوف تجد هذه الأسر نفسها أمام واقع يحتّم عليها تقليص نفقاتها على الغذاء بنسبة 30% وعلى النفقات الأخرى الأقل أهمّية بنسبة 80%.
أمّا الأسر ذات الدّخل المرتفع (يتجاوز دخلها 5 ملايين ليرة شهريًّا)، فيشكّل التعليم 10% من نفقاتها، في حين يستحوذ المسكن والكهرباء والغاز والمحروقات على 22% منها، والغذاء على 15%. في هذه الحال، سوف تجد هذه الأسر نفسها أمام خيارين:
- خفض مستوى تعليم أبنائها وبناتها،
- أو الحفاظ على مستوى التعليم وخفض الإنفاق على الغذاء بنسبة 20% وعلى النفقات الأخرى الأقل أهمّية بنسبة 80%
الرسم البياني رقم 2
الرسم البياني رقم 3
لا شكّ أن تأثير مرور سعر الصرف سوف يترك آثاره الفادحة على جميع شرائح المجتمع، ولكن هذه الآثار الكارثية سوف تطال بشكل خاصّ لقمة عيش الأسر ذات الدخل المحدود، من دون وجود أي حلول في الأفق لتخطّي الآثار المباشرة وغير المباشرة لمرور سعر الصرف المتغيّر المشار إليها آنفًا.
من هنا، نحن أمام خيارين؛ إمّا إصلاح جذري للنظام المالي والاقتصادي اللبناني، أو سوف يدقّ الفقر والجوع أبواب معظم الأسر اللبنانية ويجعلان من اللبنانيين واللبنانيات إما نازحين/ات في بلادهم/هن يعتمدون/يعتمدن على الهبات والصدقات للصمود أو متقدمين/ات بطلبات هجرة عند أبواب السفارات.
[1] “Labour Force and Household Living Conditions Survey 2018-2019 Lebanon”, Central Administration of Statistics, published in 2020.
* عملت باحثة اقتصادية في القطاع المصرفي في لبنان لسنوات عديدة، ومن ثمّ التحقت في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لتغيّر المناخ. تعمل اليوم محلّلة في برلين. حائزة على بكالوريوس في الاقتصاد من الجامعة الأميركية في بيروت، وماجستير في الاقتصاد المالي من جامعة ليدز، وماجستير في علوم القرار من كلية لندن للاقتصاد.