مسؤولية منعطف مصيري

مقال  لسمير العيطة نشر في جريدة الشروق في 01/12/2019

الرؤية متوفرة على هذا الرابط.

فى خضمّ تصاعد الحراك الشعبى ضدّ السلطة القائمة فى لبنان، كما فى العراق، وإلى حدٍّ ما فى إيران، تتردّد فى أوساط المثقفين ووسائل الإعلام خطابات شديدة اللهجة تشيد بنهاية استبداد السلطات القائمة وفسادها وزوال زمن الطائفيّة، بل وسقوط التغلغل الإيرانيّ فى دول المشرق العربيّ، وتحتفى بـ«تدمير» الحراك الشعبيّ لرموز التسلّط والطائفيّة والهيمنة الخارجيّة. إلاّ أنّ مجمل هذه الخطابات تختزل، بل تتجاهل كثيرا، مسألة جوهريّة تخصّ كيفية الانتقال إلى الدولة المدنيّة الديمقراطيّة السيّدة والمستقلّة التى تبذل الشعوب تضحيات كبيرة لنيلها.

فمن هى القوى السياسيّة التى تضع برنامجا ينال ثقة الحراك الشعبيّ ويؤطِّر أهدافه ويطرح سبيلا عمليّا لتحقيق الطموحات المنشودة؟ ولكن بالتوازي مع صون الدولة والمجتمع ومناعتهما، ومع وعي الترابط الوثيق بين ما هو داخليّ وخارجيّ، كى لا يسقط «الربيع العربيّ الثانى»، كما سقط الأوّل عبر انهيار الدولة وفى الحروب الأهليّة المباشرة أو بالوكالة وفى الاحتلالات الأجنبيّة. إنّ جوهر الصراع دوما وأبدا ذو طبيعة سياسيّة ويبقى رهانه حول الدولة كمؤسّسة.

لعلّ أعراض حالة لبنان هى الأسهل قراءة فى هذا السياق. إفلاسٌ ماليّ للدولة تبعه حراك شعبيّ استثنائيّ ضدّ استبداد زعماء الطوائف وعجز للسلطة القائمة على تنوّع توجّهاتها ومشاربها عن مواجهة الأمرين، ونزعة أمريكيّة لتعميم الفوضى طويلا، ويتفجّر البلد كى تتقوّض ركائز «حزب الله» ومنها أيّة «مقاومة» ضدّ إسرائيل. ولا مانع أن يدفع الشعب اللبنانيّ الثمن مرّة أخرى، أضِف أنّ الأزمة والفوضى ستكون خانقة بالنسبة للسلطة فى سوريا وقد تؤدّى إلى سقوطها.

هذا كلّه يحمّل مسئوليّة كبيرة لأيّة قوّة سياسيّة فى البلد. والسؤال الكبير هو من يبذل جهدا لتوعية الجمهور المنتفِض حول التحديات ويصوغ برنامجا متكاملا ينطلق من الإحساس بالمسئوليّة عن الدولة ككيان والمجتمع كجسد جامع، مهما تنوّعت مشاربه المذهبيّة والفكريّة؟ برنامجٌ يحدّد مراحل واقعيّة لتحقيق أهداف الحراك ويستحقّ التضحيات التي بذلت.. وستبذَل.

***

هكذا وفى ظلّ تخبّط السلطة القائمة فى لبنان فى سجالات دون مضمون حول حكومة تكنوقراطيّة أم تكنو ــ سياسيّة، وفى تحميل المصارف اللبنانيّة مسئوليّة الأزمة، بل وإدارة إلقاء تبعاتها على المواطنين (تقنين الوصول إلى ودائعهم دون سند قانونيّ وتبخيس قيمتها عبر التلاعب بسعر صرف العملة)، وفى الاستجداء للخارج، تتطوّر النقاشات بشكلٍ لافت ضمن الحراك الشعبيّ حول مسألة البرامج البديلة. وللأسف ــ وربّما عن قصد ــ لا تضيء عليها وسائل الإعلام العربيّة.

مثال ذلك البرنامج تلك الرؤية التى طرحتها حركة «مواطنون ومواطنات فى دولة» اللبنانيّة لمرحلة انتقالية تدوم ثمانية عشر شهرا. وهى الرؤية الأكثر تكاملا ووضوحا برأى الكثيرين مهما كان موقفهم من طروحاتها.

تحدّد هذه الرؤية الأولويّة فى ضبط مفاعيل إفلاس الدولة، ماليّا (فهل حقّا تمّ رهن موجودات لبنان من الذهب للمحاكم الأمريكيّة؟)، واجتماعيّا (لحماية معيشة المواطنين فى فترة تقشّفٍ ستكون قاسية عليهم)، وقضائيًّا (ذلك أنّ استقلال القضاء عن السلطة السياسيّة أمر حاسم لـ«توزيع الخسائر»).

ويتعرّض البرنامج المطروح لسبل إرساء دولة مدنيّة تقوَض السلطة القائمة على الاستزلام الطائفيّ عبر إصدار نظام موحّد للأحوال الشخصيّة ونظم انتخابات محليّة ونيابيّة. كما يتعرّض لمسألة حساسة هى الأعقد على المستوى الاجتماعى؛ لأنّها تمسّ معتقدات الناس. يعتبر البرنامج أنّ المعتقد حريّة مطلقة، ويجب أن يكون خيارا إيجابيّا يثبّته رسميّا من بلغ السنّ القانونيّة أو يبقى خاضعا للقانون المدنيّ العام. ومنه ينطلق البرنامج إلى نظام انتخابيّ خياريّ بين القوائم «المدنيّة» وتلك التي تعتمد أسس التوزيع الطائفي. هذا الطرح الجريء يستحقّ النقاش في بلدٍ متعدّد الانتماءات المذهبيّة وفى ظلّ حذر الطوائف المتبادل من بعضها البعض، وكان العمل على إعداد آخر قانون انتخابى قد تطلّب سنينا طويلة دون الوصول إلى الموعود فى اتفاق الطائف، أى إلغاء الطائفيّة.

***

لقد تمّ طرح شعار «الدولة المدنيّة» منذ بداية انتفاضات «الربيع العربي». لكن قلّما تمّ الربط بين هذا الشعار وأسس و«أعراف» المجتمعات العربية المتمثلة بالتمسّك الشعبيّ الحاضر بقوانين الأحوال الشخصيّة المستمدّة من المعتقدات الدينيّة، وقلّما تمّت الموازنة بين حريّة الضمير وبين واقع المجتمع لطرح صيغة للانتقال إلى «المدنيّة» المرغوبة دون أن تحلّ علمانيّة تؤسّس للاستبداد والقسر، كما فى تركيا أتاتورك.

ويدور النقاش المحتدم بين الحركة صاحبة هذا الطرح وبين قوى الحراك الأخرى، كما مع مجموعات المثقفين والاختصاصين فى البرامج، ويتركّز تحديدا حول تفاصيل الإجراءات اللازمة لمعالجة مفاعيل الإفلاس، وسبل الوصول إلى الدولة المدنيّة. إلاّ أنّ هذه الحركة تنفرِد بربط هذين الأمرين مع قضايا العلاقات مع الخارج وسلاح «حزب الله». وهى أيضا قضايا شديدة الحساسية لا يجوز التهرب منها والتعتيم عليها مما قد يحرف مسار الحراك الشعبي السلمي نحو الحرب الأهليّة.

يتبنّى البرنامج موقفا يقرّ أنّه لا يجوز أن تكون «المقاومة» محصورة بطائفة بعينها بل يجب الانتقال إلى منظومة «وطنيّة للدفاع، عسكريّة كما اجتماعيّة واقتصاديّة. وتأكيد القول إنّ مشروع الدولة القادرة فى لبنان، كما فى دول المنطقة هو نقيض المشروع الإسرائيليّ وطموحاته. إذ إنّ إسرائيل تبقى مشروعا دينيّا عنصريّا عدوانيّا لا يتعامل مع جيرانه إلاّ عبر تقويض الدولة الوطنيّة وتعزيز العصبيّات.

هذا الموقف هو الذى يخلق السجال الأكبر مع قوى أخرى فى الحراك. لأنّ المناخ العامّ فى الدول العربيّة هو أنّ إيران هى العدوّ الأساسى، وليست إسرائيل. وتسود أجواء أنّ الحراك فى لبنان والعراق وإيران سيؤدّى إلى سقوط «الهلال الشيعى» برمّته بما فيها السلطة فى سوريا. ولعلّ هذا ما يفسّر تخبّط مواقف «حزب الله» تجاه الحراك الشعبيّ اللبنانيّ، على غير عادته.

مهما كان الرأى فى طروحات حركة «مواطنين ومواطنات فى دولة» وقوى الحراك الأخرى، يبقى أنّ النقاش يذهب فى لبنان أبعد بكثير من حيث الوضوح والوعى العام ممّا يجري على ساحات «الربيع العربي» الأخرى. ويتميّز أنّ الربط بين قضايا السلطة السياسيّة والاقتصاد والمجتمع والتدخّلات الخارجيّة أيضا بالوضوح كأساس للنقاش. عسى ألاّ تذهب جهود الشعوب وتضحياتها سدى وراء شعارات لا مضمون حقيقى لها.

فما الفائدة أن يترافق أفق سقوط استبداد مع سقوط الدولة ويصبح البلد مرتعا للتدخّلات الأجنبيّة المباشرة وللحروب بالوكالة؟ وكيف تصل مشاريع التغيير إلى سلطة تنفيذيّة دون إسقاط أسس الدولة فى ظلّ المحاسبة على أدائها؟ وما معنى أن تجوع شعوبٌ لعقودٍ كى ينتصر محور إقليميّ على محور آخر؟ وهل تحمل مشاريع التغيير فقط شعارات أم مسئوليّة عن المجتمع جميعه أولا وعن الدولة؟

التاريخ وحده سيحكم علينا جميعا بقدر ما تكون طروحاتنا تنطلق من محبّة صادقة لبلادنا وأهلها ومن إحساسنا بالمسئوليّة تجاههم وتجاهها بمعزلٍ عن انتماءاتنا ومصالحنا وأحقادنا… وكذلك آلامنا.