ورقة الحكومة “الإصلاحية”: نقطة انطلاق إلى مأساة جديدة

كريم حيدر   |   اللجنة المالية – مواطنون ومواطنات في دولة
19 أيار 2020

  • تسعى الحكومة من خلال هذه الورقة إلى الحفاظ على السلطة بشكل أساسي، والأخطر من ذلك، إلى طمأنة حاملي السندات قبل الشروع في محادثات إعادة الهيكلة، والتفاوض مع صندوق النقد الدولي ما يمهّد لارتهانات خارجية قد يصعب الخروج منها.
  • نعتقد في حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” أن الأزمة عميقة وتُنذر بتهديدات كبيرة وتغيرات في المجتمع والاقتصاد، فيما تسهم الحكومة الحالية باختمار عملية إنتاج سلطة سياسية عقيمة لسنوات مقبلة. وهو ما يجب التصدّي له.
  • لو كان للنظام السياسي الاقتصادي الحالي القدرة الداخلية على تنفيذ إصلاحات جادّة، لماذا يعتاش من طلب المساعدات الخارجية بشكل متكرّر؟
  • يفترض السيناريو أن “لبنان سيستفيد على الفور من الدعم المالي الخارجي المطلوب لوقف الركود الاقتصادي”، مُتجاهلاً واقع الاقتصاد العالمي.
  • في حال التشبّث بـ “شبكة الأمان الاجتماعي” المُقترحة، فهي ستؤدّي إلى عواقب وخيمة، لأن الناس الذين شجّعتهم انتفاضة 17 تشرين على المطالبة بحقوقهم، سيجدون أنفسهم مضطرين للقبول بالمساعدات بدلاً من المطالبة بحقوقهم المشروعة، وأمام الحاجة سيرضون بذلك.
  • هذه الرؤية ليست مدفوعة بمعتقدات أو بأيديولوجية، بل هي استجابة اقتصادية وسياسية منطقية للكارثة التي نواجهها.

      في الأسبوع الأوّل من نيسان الماضي، سُرّبت نسخة أوّلية عما يسمّى بـ”خطة التعافي المالي” التي صاغتها حكومة حسّان دياب. أتى هذا “التسريب” عن سابق تصوّر وتصميم، إذ كانت الحكومة، المُحاصرة بالتقاتل الداخلي، تسعى لاختبار ردّة فعل الرأي العام قبل اعتماد أي تدابير. وفعلاً، تجسّد افتقاد الورقة إلى إجماع سياسي بما عبّر عنه الرئيس نبيه بري عن “قراءة الفاتحة على الهيركات”. تزامن ذلك مع اعتراض مصرفي على تدابير تضمّنتها الورقة قبل أن تقرّ نسخة أخيرة في نهاية الشهر نفسه، متضمّنة تعديلات تراعي الاعتراضات السياسية. وهو ما سبق أن أوضحته حركة “مواطنون مواطنات في دولة”، بالإشارة إلى أن السلطة السياسية الحالية، المحكومة بالتحاصص الطائفي الضيّق، غير قادرة على إدارة الأزمة الجارفة التي يواجهها لبنان. وأبرز ما يبيّن افتقار الحكومة للشفافية والجرأة والاستقلالية في تعاملها مع الأزمة الراهنة هو استخدامها مصطلح “مساهمة استثنائية مؤقّتة” لوصف إعادة التوزيع الإلزامية للأصول (أي الهيركات أو اقتطاع الأموال).

      بعيداً من الجدل السطحي حول الهيركات الذي حصل بحكم الواقع نتيجة الانهيار في سعر صرف الليرة، لا يزال السياسيون ومن نصّبوا أنفسهم خبراء يأملون بأن يؤدّي التمويل الأجنبي إلى إعادة رسملة القطاع المصرفي ومن ثمّ إعادة تفعيل تحويلات المغتربين، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لكن، لحسن الحظ، توقّفت عجلات النظام السياسي الذي رُسّي خلال فترة ما بعد الحرب الأهلية، واقتصاده السياسي.

      في ضوء ذلك، قدّمت الحكومة المسودة الأولى على أنها “خطّة اقتصادية شاملة” (ص 1)، إلّا أنها مجرّد خطوط عريضة لإعادة هيكلة القطاع المالي. وبالتالي من المهمّ هنا التمييز بينهما؛ تعدّ الأزمة المالية النتيجة المادية (المنطقية) لانهيار الاقتصاد السياسي لفترة ما بعد الحرب اللبنانية. إن اختصار الأزمة بجانبها المالي ليس مُضللاً فحسب، بل سيؤدّي أيضاً إلى عواقب وخيمة، فهي تتعامل مع المجتمع بمنطق الشركة المُفلسة الواجب تصفيتها ما يعكس جزئياً أولويات السلطة السياسية، وهو ما تعبّر عنه النسخة التي أقرّتها الحكومة وأرفقت بمحلق على أنه “خطّة اقتصادية”، فيما هو مجرّد بضع صفحات لتدابير قطاعية مُشتّتة لا ترقى إلى مستوى الأزمة.

عملياً، تسعى الحكومة من خلال هذه الورقة إلى طمأنة حاملي السندات قبل الشروع في محادثات إعادة الهيكلة، وقبل بدء التفاوض مع صندوق النقد الدولي بالاستناد إلى “خطة الإنقاذ” المُحتملة، في حين أهملت الحاجات المجتمعية بالكامل واقتصرت معالجتها على بعض التعليقات العامّة.

     نحن في حركة “مواطنون ومواطنات في دولة”، نعتقد أن الأزمة عميقة وتُنذر بتهديدات كبيرة وتغيّرات عميقة في المجتمع والاقتصاد، فيما تسهم الحكومة الحالية، عن قصد أو عدم قصد، باختمار عملية إنتاج سلطة سياسية عقيمة لسنوات مقبلة تحول دون بناء دولة فعلية، أي دولة مدنية تشرع بحماية المجتمع وبناء الاقتصاد. وهو ما يجب التصدّي له ومنعه. إذ من المتوقّع أن ينخفض ​​الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي بنسبة 40% في العام 2020. هذا التآكل الهائل في الرواتب والأجور والثروات يهدّد بنشوء موجة هجرة جديدة تشوّه مجتمعنا بشكل دائم، وتعيق إمكانية النهوض، وبالتالي تطيل عملية التغيير المنشودة.

      يفترض بأي حكومة تركيز اهتمامها في الحفاظ على مجتمعها أوّلاً، إلّا أن الورقة المعروضة اعتمدت مفهوماً معاكساً، عبر تدابير التقشّف المالي وخفض الدعم الذي يستهدف الشرائح الأكثر فقراً في المجتمع بشكل غير متناسب ومن دون أي إجراءات تخفيفية من جهة، ويعمّق الركود الاقتصادي من جهة ثانية. في الواقع، تهدف الحكومة بشكل رئيسي إلى الحفاظ على السلطة. والأخطر من ذلك، تسعى إلى الحصول على دعم من صندوق النقد الدولي نظراً إلى افتقارها لأي مشروع سياسي مجتمعي اقتصادي، ما يمهّد لارتهانات خارجية قد يصعب الخروج منها.

تواطؤ السلطة السياسية ومصرف لبنان والمصارف

      إن إعادة الهيكلة المالية ليست عملية مُجرّدة، لأن الدور المالي الوسيط يعتمد أساساً على النموذج الاقتصادي. وفي هذا السياق، تبرز مسألتان رئيسيتان فيما يتعلّق بالمصارف اللبنانية وهما:

  • لما الحاجة لإعادة الهيكلة؟
  • وما هو الدور الذي سيشغله القطاع المصرفي المُعاد هيكلته في الاقتصاد الذي تم “إصلاحه”؟

      فشلت الحكومة في الإجابة على كلا المسألتين؛ المسألة الأولى بسبب تواطؤها والمسألة الثانية بسبب جهلها. في الواقع، القطاع المصرفي مفلس، بعد أن عمل لسنوات طويلة كأداة بيد النظام السياسي تسعى إلى جذب الودائع من الأجانب والمغتربين بهدف تغذية النظام السياسي الذي نشأ بعد الحرب وتعزيز سطوته، بحماية من المصرف المركزي.

      بشكل عام، راكم القطاع المصرفي اللبناني على مدى السنوات العشرين الماضية مطلوبات عليه (ودائع) قصيرة الأجل معظمها بالدولار الأميركي، يقابلها مطلوبات له (ديون) من القطاعين العام والخاص بالليرة اللبنانية والدولار اللبناني، و هو عملة وهمية نتجت عن دولرة القروض والودائع في لبنان. حتّى وقت قريب، كان التدبيل بين الليرة اللبنانية والدولار اللبناني والدولار الأميركي لا يزال قائماً بفضل تثبيت سعر صرف العملة. عملياً، برز الدولار اللبناني نتيجة ارتفاع سعر الصرف الحقيقي، الذي يعبّر عن الأسعار الحقيقية للإنتاج والاستهلاك، وقد كان مدفوعاً باختلاف مؤشّر أسعار الاستهلاك اللبناني عن المؤشر الأميركي الذي ربطت العملة المحلّية به، وبشكل أوسع من الانكماش الحاصل في الناتج المحلّي الإجمالي. ان الاستهلاك المُفرط المموّل من تدفّقات العملات الأجنبية التي تمّ تداولها بالدولار اللبناني، خلق وهماً بالنمو وتوازناً غير مستدام في القطاع المالي، الذي بدّل دوره من إدارة المخاطر والسيولة إلى السعي لتحقيق نموّ في الميزانية العامّة حفاظاً على وهم الدولار اللبناني. ان الاختلاف بين سعر صرف الدولار الأميركي، والدولار اللبناني في المصارف المحلّية، والليرة اللبنانية هو أحد مظاهر هذه الممارسة.

      قبل وقت ليس ببعيد، أشاد السياسيون بمصرف لبنان واحتفلوا “بمتانة” القطاع المصرفي، لكنّهم حالياً يلقون اللوم على المصارف ورياض سلامة. من الواضح أن الطرفين متواطئان ولكنهما يستمدّان قوّتهما أساساً من النظام السياسي.

افتراضات اقتصادية أقرب إلى التمنيات 

      حتى لو كانت الورقة الحكومية ستؤخذ في ظاهرها كـ “خطّة إصلاح اقتصادي” موثوقة، إلّا إنها مُحاصرة بافتراضات مُضلِّلة وضعيفة. تقتبس الحكومة من أدبيات صندوق النقد الدولي، وتعلن عزمها إجراء “إصلاحات هيكلية” لتعزيز الإنتاج، ولكنّها مجرّد آمال بعيدة المنال. فلو كان للنظام السياسي الاقتصادي الحالي القدرة الذاتية على التغيير وتنفيذ إصلاحات جادّة، لماذا يطلب المساعدات الخارجية بشكل متكرّر؟

      الجزء الأكثر دلالة في الورقة، هو ربّما ما جاء في الصفحة 37، حيث أعلنت الحكومة عن إنشاء صندوق ثروة سيادي لاستثمار عائدات النفط والغاز المُحتملة في الخارج، “وبالتالي إبعاد لبنان عن أعراض المرض الهولندي”. لبنان مصاب فعلياً بهذا المرض (للمزيد يرجى مراجعة: المرض الهولندي)، خصوصاً أن النظام السياسي يعيش على تصدير الشباب والشابّات، الذي هاجر مليوناً منهم بعد الحرب، وهم يحوّلون الأموال إلى البلاد بما يؤمّن تدفّقات بالعملات الأجنبية مشابهة للتدفّقات الناجمة عن بيع الموارد الطبيعية. في ضوء ذلك، يمكن فهم سطحية الخطّة وابتعادها عن حماية المجتمع. لا تستطيع الحكومة تقديم حلّ لمشكلة لم تعمد إلى تشخيصها.

      إن الوضع الراهن، والعقلانية المحدودة، والمصالح السياسية الضيّقة من شأنها إعاقة أي محاولة إصلاحية، مهما كانت بسيطة، في النظام السياسي اللبناني واقتصاده السياسي، بما يجعلها عديمة الجدوى. وهناك العديد من الأمثلة والإشارات التحذيرية. يمكن توصيف الوضع السياسي اللبناني الحالي بأنه عقدة عمل جماعي يقوده زعماء الطوائف الذين يسعون للحفاظ على مصالحهم الخاصّة، ما يعيق أي تغيير سياسي واقتصادي ويقوّض دعائم النظام الطائفي.

      تزعم الحكومة (ص 41) أن سيناريو الاقتصاد الكلّي المعروض يعتمد على “تطوّرات واقعية ومؤاتيه إلى حدّ ما”. يفترض السيناريو أن “لبنان سيستفيد على الفور من الدعم المالي الخارجي المطلوب لوقف الركود الاقتصادي”، مُتجاهلاً واقع الاقتصاد العالمي، ولا سيّما في الدول التي تعتبر مؤثّرة في لبنان وتعاني من مشاكل اقتصادية وبنيوية خاصّة بها، إذ من غير المرجّح أن يتلقّى لبنان أي حزمة مالية من “المانحين” التاريخيين. وحتى إذا تحقّق ذلك، فإنها ستأتي بشروط سياسية صارمة.

      تنطوي الخطّة في العديد من جوانبها على تمنيات وافتراضات غير واقعية. تزعم الحكومة (ص 41) بشكل هزلي أن “الاستقرار السياسي وتحسين البنية التحتية يمكن أن يعزّز عائدات السياحة بعد العام 2020″، متجاهلة واقع الاقتصاد السياسي في المنطقة.

شبكة أمان أم استزلام؟

      تسعى الحكومة إلى تمويل شبكة أمان اجتماعي لتعويض تدابير التقشّف. من وجهة نظر اقتصادية بحتة، يمكن لشبكة أمان اجتماعي جيّدة التصميم أن تكون مفيدة في إطار خطّة اقتصادية أوسع. لكن من الناحية العملية، تعدّ هذه الشبكة مجرّد محاولة مكشوفة لتعزيز نظام الزبائنية ورشوة المؤيّدين كتعويض عن تقليص التوظيف في الدولة. في الواقع، إن الأحزاب الطائفية ليست أكثر من نقابات طائفية ينتمي إليها الناس لتلقي الخدمات على شكل وظائف حكومية وخدمات يومية. وبالتالي، في حال توقّفت النقابة عن تقديم الخدمات المطلوبة، عندها يصبح من الجائز التشكيك بضرورة الانتماء إليها.

      لا تملك الدولة أي قاعدة بيانات حول الأسر الفقيرة أو أي قاعدة بيانات شاملة عن المقيمين في لبنان. من هنا، يبرز إصرار حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” على إجراء التعداد السكّاني.

      في الواقع، حظينا بلمحة عن آليات التنفيذ المُحتملة خلال الإدارة الحكومية للمساعدات المتعلّقة بفيروس كورونا. تفويض البلديات والمخاتير بجمع البيانات لم يكن اعتباطياً. كما نعلم جميعاً، تمثّل البلديات النظام السياسي الطائفي على المستوى المحلّي ونقطة الاتصال الأولى بين المواطنين وأحزابهم السياسية. وقد أدّى ذلك إلى اختيار زعماء الطوائف لـ”فقراءهم” وتقديم المساعدة لهم بهدف كسب ولاءاتهم. من هنا، في حال التشبّث بـ”شبكة الأمان الاجتماعي” المُقترحة، ستؤدّي هذه التقديمات إلى عواقب وخيمة، لأن الناس الذين شجّعتهم انتفاضة 17 تشرين الأوّل على المطالبة بحقوقهم، سيجدون أنفسهم يتلقّون المساعدات بدلاً من الحقوق، وأمام الحاجة سيرضون بذلك. لهذا السبب، يجب معارضتها والتصدّي لها.

      ووفقاً للمنطق نفسه الذي أدّى إلى تفويض البلديات بتحديد الأفراد الأكثر حاجة، أيضاً كلّفت الحكومة الجيش بتوزيع المساعدات. قد يبدو الأمر مُعاكساً للنهج السائد، خصوصاً أن الجيش يعتبر حيادياً، ولا يتبع لأي طرف سياسي مقارنة بالبلديات. لكن ذلك ليس إلّا مجرّد وهم، لأن الجيش محكوم بالتوافق الطائفي نفسه الذي يحكم النظام السياسي. من هنا، يصبح هذا التفويض الممنوح للجيش بمثابة محاولة لبناء شرعية له استعداداً لحكم عسكري مُحتمل في مواجهة احتجاجات ما بعد الحجر، وهو ما سينقل قادة الأمر الواقع (الزعماء الطائفيين) إلى الظل والتلطّي وراء الجيش، كما تلطّوا وراء حكومة التكنوقراط.

      حتّى إذا أردنا تجاهل الجانب الزبائني البارز والبعيد المدى لشبكة الأمان الاجتماعي، إلّا أنه لا ينبغي إغفال أن المبلغ المحجوز لهذا البرنامج في المسوّدة الأولى كان الإجراء الوحيد المُحدّد بشكل واضح بالليرة اللبنانية، فيما التدابير الأخرى حُدِّدت كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي أو بالدولار الأميركي، وهو ما يحوّل شبكة الأمان الاجتماعي إلى مهزلة مأساوية. في المسوّدة الثانية، تم تحديد المبلغ بالدولار الأميركي. ومع ذلك، تفترض الخطّة سعر صرف متفائل يبلغ 3500 ليرة لبنانية، في حين سيؤدّي التخفيض التدريجي المُقترح والتضخّم المتوقّع إلى تقويض القدرة الشرائية لهذه المساعدات والحفاظ على هدفها الرئيسي وهو اكتساب الولاءات السياسية.

البديل موجود

منذ العام 2018، اعتمدت حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” شعار “التوزيع العادل والهادف للخسائر”، انطلاقاً من رؤيتها إلى ما ستؤول إليه أوضاع البلاد. نظّمنا مؤتمراً حذّرنا فيه من المخاطر المقبلة، وقد اطلع عليه اللاعبون الرئيسيون ضمن المشهد السياسي اللبناني، سواء داخلياً أو خارجياً. لسوء الحظ، لم يتمّ الالتفات إلى تحذيراتنا.

بعد زيادة الوعي العام حول الوضع الاقتصادي المتدهور الذي تمثّل في انتفاضة تشرين، وضعنا رؤية للمرحلة الانتقالية التي نعيشها حالياً بين نموذج اندثر ونموذج آخر سيُبنى، وهي تهدف إلى حماية مجتمعنا وإقامة دولة مدنية، استباقاً ومنعاً لقيام نموذج شبيه أو ربّما أسوأ من النموذج الذي كان قائماً.

      في مواجهة التدمير الهائل للثروة، تتضمّن رؤيتنا تدابير لتخفيف تداعيات الأزمة على أهم أصول لبنان، أي شعبه. نرى ضرورة لإجراء التعداد السكّاني للحصول على صورة واضحة عن المقيمين في هذه البلاد، ونعتبره خطوة حاسمة لاتخاذ الإجراءات الإصلاحية المستنيرة. تتوخّى رؤيتنا إنشاء تغطية صحّية شاملة وتأمين التعليم الأساسي المجّانيين لجميع المقيمين، أولاً لتخفيف آثار الأزمة، وثانياً لتأسيس شعور بالانتماء الوطني في المجتمع، وكذلك إطلاق عملية التأسيس لاقتصاد مُنتج وحقيقي يعتمد على شباب وشابّات هذا البلد، ونظام يربط المواطنون والمواطنات بدولتهم وفقاً لمنطق الحقوق لا الاستزلام، الذي يحمي المجتمع من التفتّت ويحصّنه تجاه الخارج الذي تتعامل معه خطّتنا كخارج وانطلاقاً من مصالحنا معه.

      تعتقد حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” أن الدولة المدنية، هي الدولة الوحيدة الفعلية المُمكنة، وأن الحصول على التعليم الأساسي والرعاية الصحّية المجّانيين هما من حقوق الإنسان الأساسية، وأن الاقتصاد الحقيقي والمتين سلاح للمجتمع، والفصل بين الداخل والخارج ضرورة لبقائه. علماً أن هذه الرؤية ليست مدفوعة بمعتقدات أو بأيديولوجية، بل هي استجابة اقتصادية وسياسية منطقية للكارثة التي نواجهها. مأساة لبنان ليست قدراً. لا بل قد توفّر فرصة استثنائية لبناء دولة فعلية، أي دولة مدنية قوية وعادلة قادرة.

المرض الهولندي

تعاني الدول المُنتجة للنفط، التي تتميّز بناتج محلّي إجمالي مرتفع، من “المرض الهولندي”:

§      تدخل الأموال الناتجة عن بيع النفط إلى البلاد وتنفق على السلع غير القابلة للتداول مثل العقارات والخدمات.

§      يرتفع النقد الموضوع في التداول، وهو ما يزيد الطلب والاستهلاك، ويدفع الأسعار المحلية إلى الارتفاع.

§      يرتفع سعر الصرف الحقيقي الذي يعبّر بشكل أساسي عن ارتفاع أسعار العقارات والخدمات، فترتفع كلفة الإنتاج محلّياً، ويفقد الاقتصاد القدرة التنافسية.

      في الواقع، يعبّر المرض الهولندي عن نمو قطاعات السلع غير القابلة للتداول مثل العقارات وبعض الخدمات على حساب الصناعة والزراعة، لأن معدّل الصرف المُرتفع يجعل القطاعات الإنتاجية أقل تنافسية. وبما أن العقارات وإنتاج النفط هما من القطاعات التي لا توظّف عمالة كبيرة، فإن معدّل البطالة يرتفع.

إذا كان المرض الهولندي مألوفاً في لبنان، ذلك لأننا بالفعل نعاني منه ونعيش مفاعيله منذ تسعينيات القرن الماضي، وقبل استخراج أي موارد نفطية. إذ يصدّر البلد شبابه الذين يضخّون الاقتصاد بالدولارات من خلال تحويلاتهم، تماماً مثل النفط. ويتمّ إنفاق هذه الأموال على تمويل استهلاك الأسر وشراء العقارات والخدمات التي تخلق فرص عمل محدودة. وهو ما يؤدّي بدوره إلى هجرة المزيد من الشباب للعمل في الخارج. إنها دوّامة مُفرغة.