من نكون؟

 محمد خير نحاس ، عضو في حركة “مواطنون ومواطنات في الدولة”

مقال نشر في ٢٩ حزيران ٢٠٢٠

من أين يبدأ المجتمع،  وأين ينتهي؟ سؤال تتنوع أجوبته، من الأسرة والجوار و الحي إلى المدينة و المنطقة حتى القارة والعالم!

نحن جنس (بشري) يعيش ويكافح ضمن المجتمعات من أجل بقائه وازدهاره. وعلى نحو مبهر، تمكنّا من البقاء على قيد الحياة حتى القرن الحادي والعشرين، وكلنا أمل في أن تطول فترة بقائنا. كيف فعلنا ذلك، هل كان بقائنا من خلال المنافسة الشرسة والحروب ، أم من خلال التبادل والتآلف والتعاون؟

انتقل البشر، عبر التاريخ، من مكان إلى آخر واستقروا في مناطق مختلفة. كان لكلٍ من هذه البيئات التي استقر فيها البشر خصائص محددة مثل الطقس والجغرافيا والأغذية المنتجة. شكلت هذه الخصائص طريقة تعامل البشر مع بعضهم البعض في المجالات الاقتصادية والسياسية والمجتمعية الأمر الذي ادى إلى تكوين هويات مختلفة.

 

ما هي الهوية؟

إنها عبارة عن بنية للعلاقات الإنسانية تنتقل عبر الأجيال ، وهي ليست ثابتة ولا أبدية، بل انها بناء ديناميكي يتأثر بالبيئة والمعرفة والخبرات المتراكمة. إن أحدث ابتكار بشري في بناء الهوية ادى إلى تكوين ما يسمى بالأمة. وقد أشار عصام نصار في هذا السياق إلى أن “الأمم مرتبطة بالخيال السياسي … ولا تزال تستخدم الحقائق بشكل انتقائي لترسخ جذورها في التاريخ … القومية هي نتاج حالة اجتماعية اقتصادية سياسية وفكرية ، ترتكز إلى حركات معينة في الماضي”. [1] ولقد ربطت الرأسمالية المطلقة نفسها – التي تحتفظ بالاستغلال والتمييز في صميمها –بالدولة القومية للتوسع والحفاظ على بنى محددة  للسلطة. وكي يتمكن وسطاء الرأسمالية من البقاء والحفاظ على سيطرتهم ، تعين عليهم دائمًا إيجاد أسواق جديدة وإبتكارمنتجات جديدة ليتم تداولها من أجل تحقيق الربح. ومع استنفاذ السلع المادية القابلة للتداول ، توسعت أيديولوجية السوق – تحت شعار الليبرالية الجديدة – إلى عوالم غير مادية للمجتمع مثل الصحة والتعليم والمأوى. كل ذلك تم لمجرد تحقيق الربح [2 ، 3]. تدعونا المقدمة الآنفة الذكر إلى التفكير ملياً في كيفية تأثير احدث شكل للحضارة الإنسانية – التي يسيطر عليها السوق – على المجتمع والفرد.

 

أولاً ، لقد أبعدت البشر عن بعضهم البعض كما عن الطبيعة. بالإضافة إلى ذلك ، حوّلت البشر والطبيعة إلى سلع – ارقام في قوائم – يمكن تداولها والتخلص منها من خلال العقوبات، وإخلاء المنازل ، والسجن ، والحروب. تلك الحروب التي أثرت فقط وسطاء السلطة على حساب المجتمع والطبيعة. وقد استفاد سماسرة السلطة من الهويات والبنى الوطنية لإجبار الأفراد الضعفاء والموهومين على خوض حروبهم.

كيف يمكن أن نخدع أنفسنا؟

تحث كارين أرمسترونغ ، وهي باحثة دينية بريطانية ، جميع البشر والمجتمعات – بغض النظر عما إذا كان المرء متدينًا أم لا – على إظهار التعاطف مع بعضهم البعض والمحافطة على القاعدة الذهبية التي تقع في صلب جميع الاعراف والتقاليد. تنص القاعدة الذهبية على أنه يجب على المرء أن يعامل الآخرين بالطريقة التي يحب أن يعامل بها [4 ، 5]. وهذا يتطلب منا أن نفكر في أفعالنا – حتى الصغيرة منها مثل شراء علبة من الفاصوليا – كيف تؤثر على الآخرين، كما على أنفسنا والطبيعة. لقد أثبتت أن التقاليد الدينية تطورت مع مرور الزمن بسبب تفاعل المجتمعات والتقاليد المختلفة مع بعضها البعض ومع البيئة. إن حياتنا البشرية البالغة 60-80 سنة تجعل مهمة الحفاظ على هذا التطور الجميل والطبيعي للمعايير والتقاليد التي تحدث على مدى أجيال، صعبة ، ومع ذلك ، فهي عملية متأصلة في حضارتنا. وهذا يدفعنا إلى التشكيك في فكرة الهوية الجامدة.

إن كل فرد وكل مجتمع في أي وقت من الاوقات هو نتاج المعرفة المتراكمة والخبرات المكتسبة والتفاعل الجدلي مع الخارج. كما ان لكل جيل نضالاته وتحدياته الخاصة . أحد تحديات هذا الجيل هو بناء هوية إنسانية شاملة للسماح للحياة بالازدهار مرة أخرى. وعليه، يتعين صياغة هذه الهوية من معرفتنا الجماعية وخبراتنا السابقة  التي تأخذ في الاعتبار الواقع الحالي الذي نعيش فيه والمستقبل الذي نريد خلقه. إن عملنا كمجتمعات ليس لتلقين أطفالنا ، بل للتأكد من أنهم مستعدين جيدًا للتعامل مع عدم اليقين والترابط في الحياة.

أين يقف مجتمعنا من هذه العملية؟

مجتمعنا ليس استثناء. مجتمعنا يختنق، ويعاني من نقص في الحرية وقلة في التماسك وانعدام في التسامح. نعلم جيدا أن هذه المشاكل هي نتيجة عيوب تأسيسية وعدم كفاءة سياسية، ونقر أيضًا بأنه لا يوجد حل سهل لمشكلاتنا، إذ لا يمكننا توقع ان يأتي أحد بعصا سحرية وبطرفة عين لإصلاح كل شيء.

ماذا يمكننا أن نفعل اذن؟

أولاً ، علينا تحمل مسؤولية حياتنا وبيئتنا وأن نقبل بأن طريقة عيشنا واستهلاكنا – والتي شكلت هويتنا – أصبحت الآن جزءًا من التاريخ. تتطلب مثل هذه العملية قرارًا واعيًا بنعي هذه الهوية واقامة مراسم الحداد عليها لأنها لم تعد موجودة. نحن بحاجة أيضًا إلى تقبل فكرة أن المجتمع تغيّر جذريًا ، ولن يكون هو نفسه أبدًا. وهذا يتطلب منا التوقف عن الرومانسية حول ” طريقة العيش اللبنانية ” – ما ادى إلى إحساس مزيف بالتطور- والتوقف عن استخدام عبارة “كان أفضل”. بالإضافة إلى ذلك ، يدعونا هذا إلى التفكير بنموذج الحكم الذي نبتغيه.

يتعين علينا صياغة نموذج يتجاوز البنى الوطنية / الإثنية / القبلية القائمة للحكم بالانتقال إلى نموذج مواطنة من القرن الحادي والعشرين  حيث ينشط المواطنون سياسياً ويستجوبون ويفحصون باستمرار بنى السلطة القائمة. مواطنون أحرار يحلمون بعالم مختلف عن العالم الذي يعيشون فيه. لسنا بحاجة إلى إجراء نسخ ولصق للنماذج التي طوّرها الآخرون ، بل يجب أن نتعلم منها. والمجتمعات في جميع أنحاء العالم تكافح من اجل التكيّف مع التغيرات السريعة التي تحدث، فالعالم كله يبحر على متن السفينة نفسها. الولايات المتحدة تكافح مع العنصرية الممنهجة ، والاتحاد الأوروبي يعاني من أزمة هوية، والصين تكافح من أجل تكييف معاييرها مع العولمة في القرن الحادي والعشرين. كل هذا لا يعني أن أحداُ أفضل من الآخ، أو أننا نمتلك الحقيقة؛ إذ لا يمكن لأحد أن يحتكر الحقيقة. فنماذج الحكم وضعت تلبية لغرض ما في سياق تاريخي معيّن، وتخضع حاليًا لتحوّلات داخلية. هذه فرصة لنا جميعًا – للعالم بأجمعه- لاختيار أسلوب للحياة في عالم معولم مترابط. إن الخطوة أساسية لاغتنام هذه الفرصة هي إعادة النظر إلى العالم بعقلية متعددة الأبعاد، ولفهم ترابط الحياة على المستويات البيئية والمجتمعية والسياسية والاقتصادية.

تكرّر حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” قولها بأن معاناتنا ليست قدراً، إنها مجرد حلقة من تجربتنا البشرية التي سوف نجتازها من خلال تحمل المسؤولية في حياتنا ومجتمعنا وعائلتنا العالمية. وهذا ممكن من خلال بناء دولة مدنية عادلة وقادرة أولاً، حيث ينشط جميع مواطنيها سياسياً ويكون لهم تأثير في محيطهم. كما علينا أن نعمل مع مجتمعنا المجاور لنا في سوريا، ونقر بأن خلاصنا كمجتمع، ومنطقة، وبشر يمكن أن يحدث فقط من خلال التعاون الحقيقي والتبادل المفتوح بين المواطنين النشطين سياسياً الذين يسعون لعالم تسوده المساواة والعدالة ، والحرية..

1: https://www.taylorfrancis.com/books/e/9780429052835

2: https://www.goodreads.com/book/show/13221379-what-money-can-t-buy

3: https://www.amazon.com/Talking-Daughter-about-Economy-Capitalism/dp/1847924441

4: https://www.goodreads.com/book/show/3873.A_History_of_God

5: https://www.goodreads.com/book/show/53982.The_Great_Transformation