ماذا بعد ١٧ تشرين؟!

إفتتاحية العدد الثامن من جريدة “١٧ تشرين” بقلم العضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة ابراهيم حلاوي

تحيي الشّعوب سنويّة ثوراتها وتحتفل بها عندما تكون قد نجحت في تغيير السّلطة. أمّا في حال فشلت، فعليها بنقد الذّات وتعلّم الدّروس. لكن، في لبنان، لا يزال يلجأ البعض إلى الرّومانسيّات الثّوريّة وإلى ذرائع أخلاقيّةٍ لاختلاق صورةٍ مختلفةٍ لمجتمعٍ أثبت في عدّة محطّات، أهمّها انتفاضة 17 تشرين، أنّه قبِل الرّشوة واعتاد عليها حتّى إشعارٍ آخر.
أتت الرّشوة بعد الحرب الأهليّة على شكل اقتصادٍ سياسيٍّ يضمن لمعظم فئات المجتمع نمط حياةٍ استهلاكيٍّ من غير إنتاجيّةٍ تغطّيه. أمّنت تعاونيّات الطّوائف وظائف حكوميّة ثابتة وغير مُنتجة، وتنفيعات مباشرة وغير مباشرة في القطاعين العامّ والخاصّ، لجزء كبير من المجتمع، وسهّلت الاستدانة لتحفيز الاستهلاك، وأرست نظام عبوديّةٍ حديثٍ لاستيراد يدٍ عاملةٍ رخيصةٍ تُعوّض عن خمول من ارتضى الرّشوة.
بالتّالي، راكمت الدّولة الدّين لتلبية نمط حياةٍ استهلاكيٍّ لمجتمعٍ لم يكن ينتج قيمة استهلاكه. وحفّزت الأحزاب الطّائفيّة أساليب التّلاعب والفساد والمحسوبيّات. من هنا يصبح السّؤال مشروعًا، لا بل ملحًّا: أين تبدأ الـ”كلّن يعني كلّن”، وأين تنتهي، عندما تكون أكثريّة المجتمع استفادت من هذه المنظومة، على اختلاف حجم الاستفادة وزمانها؟
الصّراع ليس بين “النّاس” و”السّلطة”. هذه النّظرة تُفرغ الواقع من مضمونه، وتُفرغ السّياسة من معناها، حتّى لو كان البعض يرى في هذا الخطاب قيمةً تجييشيّة. “السّلطة” ليست منفصلةً عن “النّاس”. والصّراع، إن كان سياسيًّا، فهو صراعٌ على السّلطة بين “ناس” مختلفين في مصالحهم ورؤيتهم. من دون قراءةٍ سياسيّةٍ وواقعيّةٍ، يصبح الصّراع مع المنظومة الحاكمة صراعًا رمزيًّا، لأنّه ينكر واقع موازين القوى، وبالتّالي يفقد القدرة على تغييره.
تعكس انتفاضة 17 تشرين حالة الصّراع الرّمزيّ هذا، بعد أن قايضت “مجموعات المجتمع المدنيّ” العمل السّياسيّ بصراعٍ شكليٍّ مع المنظومة الحاكمة. ولكنّ العامل الأساسيّ الّذي يجمع بين كلّ النّظريّات الثّوريّة هو أنّها ظاهرة “سياسيّة”، أي أنّها سعي سياسيّ لاستلام السّلطة من خلال تغيير جذريّ في موازين القوى. لم تكن 17 تشرين كذلك، رغم أهمّيّتها. كانت انتفاضة شعبيّة تحمل رسائل احتجاجيّة، ولكنّ بُعدها الثّوريّ (أي السّياسيّ) كان محدودًا في السّاحات الّتي طغى عليها، في معظمها، طابع الاحتجاجات المطلبيّة.
كما أنّ المضمون اللّاطائفيّ للمظاهرات عكس تعقيدات الواقع. بدا الخطاب اللّاطائفيّ لأكثريّة الفئات الّتي شاركت في المظاهرات في جميع المناطق اللّبنانيّة ظرفي ومتناقض، باستثناء خطاب بعض النّشطاء والنّخب “الكوزموبوليتانيّة” ومن حمل، منذ الأيّام والأسابيع الأولى مشروعًا سياسيًّا واضحًا. أمّا في العموم، فقد رفع المتظاهرون الصّوت ضدّ “زعيم الطّائفة” في “منطقتهم” في ظرف كانت “الطّائفة الأخرى” تفعل ذلك أيضًا، ما بدّد المخاوف الطّائفيّة مؤقّتًا. عندما انخفض صوت “الآخر” ضدّ زعيمه، انتهى الظّرف الجامع وبدأت تظهر التّناقضات في معظم المطالب والشّعارات.
تكمن أهمّيّة 17 تشرين في كشف هذا الواقع، لمن يعمل بالفكر النّقديّ، ولا يكتفي بظواهر الأمور. أثبتت 17 تشرين أنّ التّظاهر، على أنواعه، هو أحد وسائل الضّغط على المنظومة الحاكمة. ولكنّ فعل التّظاهر يبقى محصورًا بهذه الوظيفة، ما لم يتمّ استثماره من قبل تنظيم سياسيّ يسعى من خلال الشّارع لتحسين موقعه التّفاوضيّ. فإذا اختُصر الصّراع بالتّظاهر وأصبح هو الغاية، يُصبح حتمًا صراعًا رمزيًّا يبدأ وينتهي مع فعل التّظاهر نفسه.
لا مفرّ إذًا من العمل السّياسيّ التّقليديّ، الّذي تمّ استبعاده علنًا من قبل معظم المتظاهرين، والّذين اكتفوا بفعل التّظاهر أو تجمّعوا بدوائر صغيرة “مدنيّة”. حتّى الدّوائر والمجموعات الّتي نشأت على زخم المظاهرات، فقد استورد معظمها خطاب الـ”كلّن يعني كلّن” من دون أيّ تقييم دقيق لعلاقة المجتمع بالسّلطة، واستوردت أساليب الجمعيّات غير الحكوميّة في بنيتها وطريقة عملها، واستمرّ غياب – أو حتّى تشويه – مفهوم السّياسة الّذي في جوهره هو صراع على السّلطة وليس صراعًا “مع السّلطة” (صراع مع “السّلطة” على ماذا؟).
تنعكس هذه الإشكاليّة على علاقة الأحزاب السّياسيّة المعارضة (والّتي بجوهرها تسعى لصراع سياسيّ هدفه استلام السّلطة) بالمجموعات الجديدة النّاشطة ضدّ المنظومة. بينما تتسارع الإعلانات عن جبهات وتحالفات يمينًا ويسارًا بين مجموعات المجتمع المدنيّ، تحت عناوين عريضة من دون مشروع سياسيّ شامل للصّراع على السّلطة، تعمل الأحزاب السّياسيّة المعارضة – كحركة “مواطنون ومواطنات في دولة” والكتلة الوطنيّة على السّبيل المثال لا الحصر – على تأمين كلّ شروط التّحالف واستشراف حظوظ نجاحه وتبعات فشله، ليكون التّحالف خطوةً بنّاءةً في مسار التّأثير في موازين القوى، ومحاولة جدّيّة لخلق نواة معارضة حقيقيّة تطرح بديلًا سياسيًّا شاملًا عن المنظومة الحاكمة.
تعي هذه الأحزاب أنّ أكثريّة المجتمع رهينة المنظومة الحاليّة، أو لا تزال تراهن عليها، رغم سقوط الاقتصاد السّياسيّ الطّائفيّ. وبالتّالي، الصّراع السّياسيّ مع هذه المنظومة في هذه المرحلة الدّقيقة بالتّحديد يعتمد على انتظام وتسييس أقلّيّة في المجتمع، تلك الفئة المستقلّة اقتصاديًّا عن الزّبائنيّة، والّتي لا تزال تملك إمكانيّة العمل السّياسيّ وترف النّضال، والّتي راكمت التّجارب والوعي قبل وبعد 17 تشرين، ووصلت في مقاربتها النّقديّة إلى السّؤال الأساسيّ: أنكتفي بإفراغ الغضب كلّ حين في الشّارع وفي الشّعارات، أو ننخرط في السّياسة بمعناها الحقيقيّ: صراع على السّلطة؟
إذا جرّدنا التّاريخ الثّوريّ والتّغييريّ من صورته الرّومانسيّة، يتبيّن لنا أنّ مصير الشّعوب تغيّره أقلّيّة في المجتمع اختارت الصّراع السّياسيّ. وإن كانت المشاهد البطوليّة في انتفاضة 17 تشرين تدلّ على شيء، فهو أنّ في لبنان أفرادًا يملكون الجرأة والحرّيّة لمواجهة منظومة ارتهنت أكثريّة المجتمع لها. فحيّا على التّنظيم.