الوقت والمسرحيّة

مقال ل محمد غزال، عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة
٢١ كانون الثاني ٢٠٢١

– شاء القدر أن تنتقل معظم جلسات مجلس النواب في اخر سنةٍ ونيّف من القاعة المعتادة في ساحة النجمة، إلى قصر الأونيسكو المميّز بمسرحٍ خشبي وستارٍ أحمر قد يليق جداً بالعرض الختامي من مسرحية “الطائف” التي يلعبها زعماء الحرب منذ عشرات السنين.

– بمقابل كل أبطال هذه المسرحيّة، قد يكون حسّان دياب من الممثلين الذين اتوا كملحق، وهو الذي كان قد لعب دوره بشكل ممتاز ضمن أحجية تعامل زعماء الطوائف مع الانهيار. لم تحكم الأحزاب ذاتها طوال عقود من الزمن بالصدفة، فزعماؤها كانوا خبراء في المتاجرة بجيلين من اللبنانيين: جيل الحرب الذي قبل بأي سلطة سياسيّة تخرجه من جحيم المعارك، وجيل جديد قد كبر على شرعيّة الطوائف وغياب الدولة، ولم يرَ أمامه سوى النظام الزبائني بأوسع أبوابه. اذاً حين أتوا بحسّان دياب، كان ذلك لهدف أساسي ضمن نهج العمل في النظام السياسي الطائفي: كسب الوقت عبر الإيحاء للناس بأنه سوف يكون هناك “تغيير سياسي”. من منّا لا يذكر عبارة “اعطوه فرصة”؟ هذا المصطلح التي تم تداوله حينها ليس وليد صدفة، فالأحزاب الطائفية تحارب التفكير النقدي لدى الناس بشكلٍ ممنهج منذ سنين لتثبيت شرعيتها في “اللادولة”. فكيف لنا أن نعطي شخصاً بلا خطة ولا منهج ولا تصريح إدارة البلد في مرحلة بهذه الحساسيّة؟ قد يكون كسب الوقت ذو دور استراتيجي مهم في عدّة سيناريوهات، ولكن حين يكون اهدار الوقت هو لانتظار اللاشيء، فانه يصبح جريمة. الوقت في حالتنا هو من أهم عوامل نهوض اقتصاد ما بعد الأزمة، فبدل اهدار حوالي ثمانية مليارات من العملة الصعبة في السنة الماضية لأجل كسب الوقت وتأجيل اي انفجار اجتماعي، كان يجب تكريس معظم هذا المبلغ ضمن خطة اقتصادية ومالية تقود البلد إلى التعافي السليم. في الصورة الأكبر، لم يكن حسان ديّاب القطعة الوحيدة في الأحجية، فمن بعده كان هناك خطة حكومته ومحاورتها لصندوق النقد، ثم أتت لجنة تقصي الحقائق، وبعد جريمة الرابع من آب أتت المبادرة الفرنسية، ثم التدقيق الجنائي، ثم الانتخابات الأمريكية. قد تمر كل هذه الكلمات بسرعة ولكن لها في الحقيقة تكلفة، وهي مرور أكثر من سنة دون اتخاذ أي قرار في وقتٍ نمرّ في مرحلة أكثر ما نحتاج فيها هو القرارات. مرور كل هذا الوقت أيضاً ليس وليد الصدفة، بل هو نهج النظام السياسي الطائفي في لبنان بتمديد عمر السلطة مقابل تدمير المجتمع.

يتضارب العمل السياسي الفعلي في جوهره مع منطق الطائفيّة السياسيّة الموجودة ضمن الأحزاب الحاكمة في لبنان كون الطوائف كيان خارق للطبقات الاجتماعيّة. في كل طائفة هناك الفقير والغني، العامل والمدير، صاحب مصنع حديد وصاحب شركة برمجة، الخ … فكيف لزعيم الطائفة أخذ قرارات تعزّز مصالح طرف على آخر، كالغني على الفقير أو العكس مثلاً؟ نادراً ما حدث ذلك في كل تاريخ الأحزاب الطائفيّة، وأنعدم مع تحوّل القرارات من توزيع الأرباح إلى توزيع الخسائر، هنا تأتي كلمة “العجز” لتصبح السمة الأولى لهذا النموذج من السلطة السياسيّة.

هذا العجز ليس محصوراً في فقاعة تمكّننا من إبعاد أنفسنا عن ما ينتج عنها من مشاكل. فبالعودة إلى واقعنا اليومي، تمر الأيّام ومع كل يوم يسافر أحد الأقرباء، فمن منّا لم يطرح موضوع هجرته جدياّ على نفسه؟ ويفقد مجتمعنا واقتصادنا قوة بشريّة شبابيّة ثمينة لن تعود بسهولة. نخسر يومياً عشرات الملايين من الدولارات على الدعم والنفقات العامة التي تخرج ولا تعود في دولة معلنة إفلاسها. أمّا في الساحة الإقليميّة، تضعف كل يوم أهميّة لبنان الذي خسر مركزه السياحي في المنطقة مع حلول قطر وتركيا والإمارات مكانه، كما يخسر اليوم أهميّة موقعه الجغرافي في ظل التطبيع العربي الإسرائيلي الذي يلغي الحاجة إلى مرفأ بيروت عربياً ودولياً بعدما رأينا سرعة التركيز على التبادل التجاري بين الكيان الإسرائيلي والدول التي طبّعت معه. هذا أبداً ليس بتفصيل، بل هو في صلب التفكير في كيفيّة بناء دولة وأين تقع قوتها اقليمياً فتتحوّل إلى مقدرة اقتصادية وسياسيّة لها. نتجنّب التفكير يومياً في كل هذه الأمور لبشاعتها، وهذا تحديداً هو ما يريده زعماء الطوائف لكي يقودوا البلد إلى السيناريو الأفضل لهم: هجرة هائلة من الشباب وانخفاض إستهلاكهم المحلّي ثمّ تحويل العملات الصعبة إلى السوق اللبناني من الخارج، وبيع ما تبقّى من أصول الدولة، من شاطئ وممتلكات وشركات وحرمان الناس منها في ظلّ تفلّت سعر الصرف. كل هذا من أجل أن يبقوا في زعامة “اللادولة”، على حساب حياة المجتمع.

لو أننا في مسرحية، قد يأتي بطلٌ مخلّص بين ليلة وضحاها ليقلب الأزمة… لكن المشهد واقعي فلا بطل ولا مخلّص والتعويل عليه لن يجدي. وبما انّ الأزمة التي نعيشها اليوم هي من واقعنا البشري، اذًا حتمًا قد سبقتها أزمات وتمّت معالجتها، السؤال هو كيف تمّ ذلك. من هنا تظهر الحاجة إلى مشروعٍ واضح وموثّق له وظيفتان أساسيتان: وقف الانهيار عبر توزيع عادل وهادف لما تبقى من خسائر غير موزّعة، من أجل الدخول في المرحلة الثانية التي هي بناء دولة مدنيّة تبني اقتصادها حسب مجتمعها وحسب مصالحها الداخلية والخارجيّة، كبديل واضح وصريح عن النظام الطائفي.

عادةً، في نهاية أي مسرحية، يصفق المتفرّجون، ثم يخرجون من المسرح لاكمال حياتهم بشكل عادي.

لكن في مسرحيتنا نحن لسنا بمتفرّجين، نحن جزء من النص شئنا أم أبينا، فإمّا أن نكون الضحيّة بين العيش في حربٍ أهلية أو بعيدين عن أحبائنا أو في فقر مجحف، وإمّا أن نواجه وننتظم تحت مشروع سياسي بديل يدير هذه الأزمة التي تدمّر مجتمعنا بشكلٍ كارثي.