سفينة لبنان وسوريا “الجانحة”…

مقال ل سمير العيطة نشر في صحيفة الشروق على الرابط التالي.

٢٤ نيسان ٢٠٢١

كثيرةٌ هي الانتقادات الموجّهة لإدارة القائمين على الدولة اللبنانيّة للأزمة الاقتصاديّة التي تعاني منها البلاد منذ 2019 وما تميّزت به من تخبُّط. إنّها انتقادات محقّة في أغلب جوانبها. ولكن من المحقّ أيضاً التساؤل عمّا إذا كان ممكناً أن تدار هذه الأزمة بشكلٍ مختلف في ظلّ نظام أمراء الحرب السياسيّ السائد في لبنان؟

ليس سهلاً إدارة أزمة يتخطّى حجم خساراتها كثيراً حجم الناتج المحليّ. وليس بمقدور صندوق النقد الدوليّ ولا الدول “الصديقة” تغطية الخسارة في ميزانيّات المصارف والدولة… وبالتالي من أموال المودعين. استقالت الحكومة القائمة تهرّباً من صعوبة اختيار سياسات أمام قيام المصارف بحماية نفسها من الإفلاس عبر حجز أموال المودعين. وأتت بصعوبة حكومة أخرى ما لبثَت أن استقالت بعد الانفجار المروع في مرفأ بيروت. لكنّها ما زالت “تصرّف الأعمال” بانتظار تشكيل حكومة “خبراء” بقيادة “سياسيّ” تعيد إدارة ما قبل الأزمة.

في الواقع، لم يشأ أيٌّ من أمراء الحرب إدارة مرحلة الانهيار التالية للأزمة. فهي بالأساس مرحلة غير “شعبيّة”. حيث تكمّن عناوينها الأساسيّة في محو جزءٍ ملحوظ من أموال المودعين وتقليص استهلاك اللبنانيين. محو الودائع يتمّ رويداً رويداً، فمن يضطرّ إلى سحب ودائعه عليه أن يتخلّى اليوم عن ثلاثة أرباعها. وخفض الاستهلاك كبير مع انهيار سعر الصرف والتضخّم وثبات الأجور بالعملة المحليّة. وكلّما استمرّ هذا الوضع تحسّن بالتوازي الوضع التفاوضي للدولة ماليّاً أمام المؤسّسات الدوليّة والدول “الصديقة”. ولكن ذلك يتمّ على حساب اللبنانيين، إلاّ من استطاع الهجرة أو من يتقاضى أجوره من مؤسسة تؤدّي المرتّبات بالعملة الصعبة، وإن كانت مؤسّسة إغاثيّة تهدف إلى مساعدة ضحايا المرفأ أو الطبقات الفقيرة. أمّا بقيّة الأمور مثل دعم بعض السلع الأساسيّة أو تعدّد أسعار الصرف فهي تشبه سياسات حكم “البعث” السوريّ في الثمانينات وتخبّطها وخدمتها لبعض المصالح الاقتصاديّة المختارة، عن معرفة أو عن تجاهلٍ للاحتكارات. في حين ليس أكيداً أنّ حكومة تقوم على توازنات أخرى بين أمراء الحرب كانت ستؤدّي أفضل من ذلك.

لم تأتِ “المبادرة الفرنسيّة” حقيقةً إلاّ بإعادة تعويم “أمراء الحرب” بُعيد انفجار المرفأ بعد سقوطهم جميعاً في 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 عند “انفجار” الأزمة الماليّة. ولا أحد في الخارج يستعجل حلاًّ سياسيّاً في لبنان، بالتحديد لتقليص حجم الدعم اللازم للإنقاذ، ولأنّ الانهيار المالي اللبناني يُلقي بآثاره ضخمة على سوريا ويضغط عليها أكثر من “قانون قيصر” الشهير.

بالفعل كانت آثار تفجُّر الأزمة اللبنانيّة كبيرة في سوريا حيث انهارت أسعار صرف العملة بعد أن تمّ تثبيتها لأكثر من سنتين واختفت من الأسواق كثيرٌ من السلع المدعومة وأغلب السلع المستوردة ودخل أغلب السوريين في حالة الفقر وصولاً إلى الجوع لغالبيّتهم. هكذا أضحى الوضع الاقتصادي للسكّان أقسى بمراحل من سنوات الحرب المستعرة.

واقع سوريا هو أنّها بلدٌ مقسّم بين أجزاءٍ ثلاثة أساسيّة، تقوم على كلٍّ منها إدارة مختلفة ولكن مع استمرار إدارة اقتصاد كلّ منها بجزءٍ كبير على التبادل مع الأجزاء الأخرى. واللافت أنّ الأوضاع الاقتصاديّة فيها انهارت جميعها مع الأزمة اللبنانية. الشمال الشرقي غنيّ بالنفط والقمح، ولكنّه يحتاج للحصول على المنتجات الأخرى للتعامل تجاريًا مع مناطق الحكومة أو مع تركيا، بل أيضاً لبيع النفط والقمح لجلب إيرادات. ومناطق الشمال الغربي تعيش على المساعدات الخارجيّة وعلى “تهريب” البضائع التركية باتجاه بقيّة المناطق، خاصّة بعد أن انهار إنتاجها الزراعي بشكلٍ كبير. أمّا في المناطق التي تهيمن عليها “السلطة” فلا تدير الحكومة الاقتصاد ولا حاكم المصرف المركزيّ السيولة المالية وأسعار الصرف، بل الهيمنة مناطة بأجهزة الأمن المرتبطة مباشرة برأس الهرم والتي تضبط مباشرةً حجم التبادل مع المناطق الأخرى… ومع الخارج.

مع انفجار أزمة لبنان وتعاظم أسعار الصرف المترابطة في لبنان وسوريا، فرض الشمال الغربي التعامل بالليرة التركيّة، إلاّ أنّ ذلك سارع في تفاقم التضخّم وإن تواجدت السلع، خاصّة وأنّ اندماجها في الاقتصاد التركي ضعيف ولا تحصل على المزايا التي تتمتّع بها – تركيّاً – مناطق جنوب شرق الأناضول. أمّا الشمال الغربي، فلا يُمكن له التوجّه تركيّاً بذات الطريقة وبقي التداول فيه مشتركاً بين الدولار الأمريكي والليرة السوريّة. أمّا السلطة القائمة على بقيّة سوريا فقد أخذت الأمور إلى نهايتها تحت شعار: “من القادر على التحمّل أكثر في زمن الضيق؟”. هي أيضاً قلّصت الاستهلاك إلى حدّه الأدنى عبر سحب السيولة الماليّة من السوق وتقليص السحوبات من الودائع (حيث لم تعد أوراق العملة الجديدة من الفئات الكبيرة في التداول الفعليّ) وهي أيضاً أغلقت المعابر مع الشمال الشرقي، في حين قصف الروس معابر التهريب بين الشمالين الشرقي والغربي، وكذلك معابر البضائع من تركيا إلى الشمال الغربي. هذا بالإضافة إلى قرارات وقوانين حول التعاملات الاقتصاديّة والماليّة لا يُمكن فرضها سوى في ظلّ استبدادٍ مستشر وإن كان بعضها ينمّ عن تخبّطٍ واضح. بالنتيجة بات المواطنون يعانون الأمرّين للحصول على أدنى مقوّمات العيش والسلع، خاصّة مع تفاقم تداعيات أزمة جائحة “كورونا”.

بالطبع هناك بعض الاحتجاجات، ويمكن التساؤل عن مدى الفاقة الذي يُمكن للسوريين تحمّله؟ قد يكون رهان السلطة أنّ الانهيار أتى تدريجيّاً في سوريا على عكس التسارع اللبناني، والقدرة على التحمّل أكبر. لكن ما هو واضح هو أنّ السلطة تدير معركة اقتصاديّة، لها أبعاد سياسيّة في تمرير إعادة انتخاب الرئيس دون أيّة تنازلات سياسيّة رغم التحذيرات “الغربيّة” من ذلك. وتحتوي هذه السياسة بعداً استفزازيّاً للخارج الذي يقوم على الشمالين الشرقي والغربي: إن أردتم أن تدفعوا “للاستقلال” العمليّ لهذين الشمالين فيجب أن تتحمّلوا تبعات ذلك حتّى النهاية.

في كلّ هذا، لا تبتعد الأمور كثيراً عن المجابهة الأمريكيّة-الروسية الحالية أو عن ملف التفاوض والاستفزاز الإيراني-الأمريكي-الإسرائيلي. لكنّ العبر بعيدة جدّاً عمّا تتداوله أوساط “المعارضة” السوريّة اليوم… وكذلك اللبنانيّة. فمن ناحية، أثبت الواقع أنّ الملفّين اللبناني والسوريّ ليسا فقط مرتبطين اقتصاديّاً وماليّاً بل أيضاً سياسيّاً. ليست الولايات المتحدة وحدها هي التي تربطهما عبر ملفّ حزب الله، بل أيضاً روسيا التي تهيمن على سوريا “السلطة” والتي لم يسبق لها العمل على تفاصيل السياسة اللبنانيّة كما اليوم. ومن ناحية أخرى، لا يُمكن توقّع انفراج سياسيّ دون انفراج في ملفّات إيران وروسيا مع الولايات المتحدة. أمّا أهمّ العبر هو أنّ الأزمات الاقتصاديّة طويلة الأمد في لبنان كما في سوريا، ولا يُمكن توقّع “معجزات” وتدفّقات غير محسوبة للأموال الخارجيّة لا هنا ولا هناك، لا لإعادة الإعمار ولا لتحسين مستوى المعيشة للبشر المعنيين.

السياسات السابقة أدّت إلى كوارث. والتغيير الجذريّ ضروريّ في سوريا وفي لبنان. ولكنّه لا يُمكن أن يقوم على أوهام أو على مصالح فئة من المواطنين دون أخرى… ولا على الاعتماد على الخارج. فمن له جرأة مواجهة الواقع… كما هو؟.