الحكومة المستحيلة
مقال ل محمد غزال، عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة.
١ أيار ٢٠٢١
ثمانية أشهر مرّت على حكومة الستّة أشهر. حكومة المهمّة التي توقف الأزمة وتعيد إعمار بيروت التي تفرغ كل يوم مع هجرة شبابها. قد يبدو الأمر صادمًا من الخارج: أكبر أزمة في تاريخ لبنان، ولا يمكن لسياسييه تأليف حكومة؟ لكن في الحقيقة الأمر أبعد من ذلك، فنموذج هذه السلطة بأكملها يقف عاجزاً حين تتحوّل المعادلة من توزيع الوظائف إلى توزيع الخسائر.
التخبّط على الصعيد الحكومي لم يأتِ على أساس أي رؤية سياسية، ولا على أي مشروع اقتصادي. بل على التوازن بين لعب دور زعامة الطائفة من جهة، والتهرّب من إصدار القرارات في الجهة أخرى. تشكيل أية حكومة اليوم يعني تحمّل مسؤوليّة اتخاذ قرارات غير شعبويّة تُعنى بتوزيع الخسائر، تحقيقًا لأدنى درجات الاستقرار.
جميعنا يتذكرحكومة حسان دياب، التي حين أصدرت خطة ماليّة، تشكّلت لجنة تقصّي الحقائق وكانت تضم نوّاب من جميع الأحزاب الطائفيّة دون استثناء، وأجهضت هذه الخطة بالكامل في المجلس النيابي. الخطة مالية تعني توزيع الخسائر، فكيف يمكن أن توزّع الخسائر بشكلٍ هادفٍ إن كان من في السلطة عاجزين فعلياً عن ذلك؟ إنّ الخيارات الإقتصادية هي في قلب ونبض هذه الأزمة، واليوم تعمل الأحزاب الطائفيّة على إبعاد الحوار عن الخيارات الاقتصاديّة مجدداً بعد عقود من ابعاد المجتمع بأكمله عن الاقتصاد السياسي، لتصبح تفصيلاً بينما تترأس الجدالات الطائفيّة والثانويّة الشاشات لتغطي عجزهم. وهنا يقع لبّ الأزمة، فالهروب من الخيارات لن يجعل المشاكل تختفي، وعدم إتخاذ القرارات هو تركٌ للخسائر الهائلة ليحملها المجتمع بدون أن تكون ضمن أي رؤية للخروج منها. فإذا كانت الرؤية تدعم التعليم العام على صالح التعليم الخاص، زعماء الطوائف سيخسرون من قوتهم ونفوذهم الطائفي في مدارسهم الخاصة. وإذا كانت الرؤية تدعم التعليم الخاص على حساب التعليم العام، فسيخسرون عشرات الالاف من القنوات الزبائنيّة. لذلك، لا يأخذون أي قرار، وبعد حصول الكارثة، يخرجون على الناس ليقولوا أنّهم لا يتحملون أي مسؤوليّة، فهم لم يتخذوا أي قرار مضر بأي من القطاعين. وهذا يحدث في كل القطاعات، بالتالي لا يدخلون اليوم في لعبة الحكومة أصلاً طالما نحن في مرحلة توزيع خسائر لكي لا يخسروا من شعبيتهم كزعماء يحمون طائفتهم.
على المقلب اللآخر، فلو تكلّم الخارج وتشكّلت حكومة واتفق من يلعبون دور الأخصام، فالأزمة لن تُحلّ لأن الأزمة ليست في تشكيل الحكومة كهذه من عدمه بل في كيفيّة إدارة هذه المرحلة الانتقاليّة فعلًا. تسليم هذه المرحلة الإنتقاليّة لمن كانت شعار حملته الإنتخابية في ٢٠١٨ “عملتنا ثابتة” هو أمر يرتقي إلى مستوى الإجرام في المجتمع، فكيف إذا أضفنا إلى المعادلة عجزهم جميعًا عن اتخاذ القرارات.
أمام سرياليّة مشهد محاولة زعماء الطوائف تشكيل حكومة “إنقاذيّة”- وكأنّهم مقتنعين بقدرتهم على إيقاف الانهيار- وأمام فشل النظام في ترميم نفسه عبر حكومة حسان دياب ومن بعده مصطفى أديب وسعد الحريري، تزداد الحاجة إلى دولة قادرة وفعليّة تتخذ قرارات فوريّة لحماية ما تبقى من مجتمعنا. أي عمليًا، دولة تنظّم استيراد المحروقات بدل الكارتيلات، بل وتبني شبكة نقل عام تكسر القيود بين المناطق وتؤمّن تنقلات المجتمع في الأزمة بدل الخضوع إلى محطات الوقود التي أوصلتنا اللادولة إليه اليوم. دولة تؤمّن التعليم المجاني لكل الناس وتقيم نظام التغطية الصحيّة الشاملة، حمايةً للمجتمع. وهذه كلها أمورٌ، يستحيل على السلطة بشكها الطائفي أن تقوم بتحقيقها مع أو بدون حكومة، فهذه القرارات كلها تقوي علاقة المواطن مع الدولة، وتضرب العلاقة مع الزعيم السياسي للطائفة بسبب عدم حاجة المواطن إليه كما سبق.
من المهم هنا الإضاءة إلى أن دخولنا في المرحلة الانتقاليّة لا يعني بحدّ ذاته بأنّ ما سوف ننتقل إليه هو نموذج اقتصادي اجتماعي أفضل. فهذا يعتمد بشكل أساسي على من هم اللاعبون الحقيقيون على الطاولة. مدى قوتهم، مدى استدامتهم، وكيف تتم صياغة ما بعد المرحلة الانتقالية. هنا تظهر الحاجة إلى حكومة برؤية سياسيّة لدولة فعليّة، تقود المجتمع عند توليها السلطة وبصلاحيات تشريعيّة تجعلها قادرة على تطبيق مشروعها مباشرةً وليس عبر مغارة المجلس النيابي.
تسليم السلطة مسألة معقدة تُحدث تساؤلاً حول احتماليتها، لذلك يجب النظر إلى الخيارات المتاحة أمام زعماء الطوائف في ظل الانزلاق المعيشي الأمني الهائل والذي يزداد مع الأيام: هل يفضّلون الحرب أم يفضّلون تغيّر شكل السلطة وخسارة جزء من شعبيتهم؟ هل يفضّل حزب الله حرباً تسقط عنه الغطاء المبني عبر تحالفاته وتوابع ذلك محلياً ودولياً أم يتحمّل تغيير شكل السلطة؟ ما مصلحة تيار المستقبل اليوم في حرب مكلفة هو ليس واثقاً من حظوظه بها؟ والأمر نفسه ينطبق على الباقين. هذه أنواع الخيارات الوجوديّة التي سيأتي وقت يضطّرون فيه لاتخاذها.
الدولة المدنيّة ليست حلاً سحريًا يحل الأزمات بشكل فوري، خصوصاً حين تكون الدولة محمّلةً بما يحمله لبنان. لكن ما تفعله الدولة المدنيّة هو فرض نقل ساحة المعركة من الصراعات الطائفيّة إلى القرارات المصلحيّة داخل المجتمع.
لبنان يتغيير أمام أعيننا، كما حدث وتغيّرت كل الكيانات عبر التاريخ. مع حكومة أو بدونها، لن يستطيع زعماء الطوائف النجاح في الانتقال إلى دولة فعليّة نحتاجها جميعًا اليوم. لكل منّا القدرة، وإن بدرجات متفاوتة، للتأثير على المشهد السياسي – الاقتصادي الآتي بعد المرحلة الانتقاليّة. فهل نبقى متفرجين على تدمير حياتنا ونترك المسؤوليّة أم ننتظم لنساهم في تغيير ميزان القوى؟