عجز السلطة في أسطورة رياض سلامة
*أسامة الشيخ
منذ 17 تشرين الأول 2019 انكسرت تلك الهالة المرسومة حول شخص رياض سلامة. بين ليلة وضحاها تحوّل رجل الجوائز العالمية ومثبّت العملة اللبنانية إلى المغضوب عليه والمكروه من قِبل الناس بوصفه المسؤول عن الانهيار، خاصةً بعد أن ظل يكرّر جملته الشهيرة “الليرة بخير” حتى بدء تفلّت سعر الصرف. يذهب البعض للقول إن سلامة أقوى من زعماء الطوائف جميعًا، وأن معه دعمًا خارجيًّا وحصانة، ويقول آخرون إنه مجرّد موظّف يعمل لدى أحزاب السلطة ويأتمر بأوامرهم. والحقيقة فيها بعض من الأمرين.
يقول آلان بيفاني (المدير العام السابق لوزارة المالية)، في ردّه على سؤال الإعلامي جاد غصن عن سبب استمراره في منصبه دون أن تتمكن أحزاب السلطة من إقالته، بأن أهل السلطة كلّما همّوا بإقالته تقاتلوا على اسم البديل عنه وتفجّرت الصراعات بينهم حول أن تشمل الإقالة أشخاصًا آخرين، فيتعطّل القرار ويبقى بيفاني في منصبه. أحزاب السلطة لم يتمكنوا على مدى عشرين عامًا من إقالة بيفاني الذي يُعتبر خصمهم وحجر عثرة في دربهم، فكيف لهم أن يقيلوا رياض سلامة الذي يسهر على مصالحهم؟ سلامة هو المدير المالي التنفيذي للنظام اللبناني، هو ذاك الموظف الذي يعرف كل خبايا “الشركة” ولا يستطيع مديروه التخلّي عنه، بل ويوكلون إليه المزيد من المهام والمسؤوليات التي ليست من واجبه. ليس سلامة ذاك الرجل الذي لا يُقهر، بل إن أحزاب السلطة هم العاجزون كلّ العجز عن إقالته، عاجزون حتى عن إيجاد كبش محرقة! العجز لدى المنظومة السياسية بنيوي وجوهري. فزعماء الطوائف محكومون بأدوارهم، وهم يجيدون توزيع المنافع بدقة وبراعة، لكنهم لا يستطيعون توزيع الخسائر بأيّ شكل.
قوة رياض سلامة من عجز زعماء الطوائف. وتزداد قوّته مع بعض الدعم الدولي من أميركا أو غيرها، ودهائه في تمرير المصالح للزعماء السياسيين والروحيين خاصةً وأنه لا يصرف “من مال أبيه”، إضافةً إلى كونه مسؤول الارتباط بين الحلقة المالية والحلقة السياسية، كما أنه يضع يده على ما تبقى من مقدرات هذا البلد، أي الاحتياطي بشقيه الذهب والدولار.
كما رياض سلامة كذلك عباس إبراهيم، وإذا كان الأول موكّلًا بشؤون المال والاقتصاد، فالثاني يُعنى بالإدارة والأمن والسياسة الخارجية. أُوكل إلى عباس إبراهيم العديد من الملفّات كاللاجئين السوريين والمخطوفين في سوريا وغيره، فذهب للتفاوض مع موسكو ودمشق وطهران وواشنطن، هذه المهام كان يُفترض أن يقوم بها وزراء الخارجية، لكن الاصطفافات الطائفية في الداخل والتشبيك مع المحاور الدولية حالت دون قدرتهم على التصرّف كمسؤولين يمثلون السياسة الخارجية -غير الموجودة- للدولة. الوزارة والرئاسة هي في الأساس لتثبيت الزعامة وتقوية شرعيتها ضمن الطائفة.
في مهزلة رفع الدعم الأخيرة تظاهر الجميع بالصدمة، وبدؤوا يرشقون التهم كرشق الرصاص عشوائيًّا في الأفراح والأتراح اللبنانية. المضحك المبكي أن سلامة كان أكثر وضوحًا وصراحةً تجاه زعماء الطوائف، مما هم تجاه جمهورهم. خطابه معهم يقوم على فكرة نحن شركاء في الجريمة، ولقد فعلتُ ما فعلت لأموّل هدركم، أنا استدنتُ لكن أنتم صرفتم، وأعطوني قانونًا وخذوا ما يدهش العالم! من هذه الناحية أدهش رياض سلامة العالم حقًّا، وأدهش الزعماء، وأدهش صندوق النقد والبنك الدولي. الجدير بالذكر هو أن حنكة سلامة ليست حنكة مالية، بل هي حنكة سياسية بامتياز.
تظهر عيوبُ النظام وتناقضاته كلها في العلاقة بين حاكم البنك المركزي وشركائه/مديريه زعماء الطوائف. سلامة قام بما هو عمله وبما هو ليس من شأنه، قام بعمل بضع وزاراتٍ، وركّب هذه المنظومة المالية على حساب المجتمع وهو يفكّكها اليوم على حساب المجتمع أيضًا. إقالته لن تحصل إلّا كتعبير عن تغيّر سياسي أكبر من محاسبة شخص مرتكب؛ تغيّر يعني أن دور المصرف المركزي لن يعود مهمًّا بعد ذلك ربما! أو تغيّر يودي إلى عودة الانتظام لعمل مؤسسات الدولة حيث يقوم المركزي بواجبه لا أكثر ولا أقل، أي تقوم دولةٌ فعلية تؤدي وظائفها وليس دولة التحاصص والهدر.
*عضو حركة مواطنون ومواطنات في دولة