“القوقعة الفئوية”… والمشروع الجامع

مقال لسمير العيطة نشر على موقع الشروق تاريخ 5 أيلول 2021 على هذا الرابط.

مهما كانت الأسباب، لا يُمكن أبدًا فى أي يومٍ من الأيام اختزال إشكالية مجتمع مع نظامِ حكمٍ إلى مجرد «إسقاطه»، بل لا بدّ من إعداد بديلٍ شامل يحمل طموحات المجتمع المعني، ويضمن لكل مواطناتِه ومواطنيه أفقًا مفتوحًا أفضل.

انتفاضة الشعب السوري فى عام 2011 كانت لها بالتأكيد أسباب داخلية، اجتماعية وسياسية، بدءًا من موجة «التسونامي» الشبابي، ومرورًا بممارسات السلطة القائمة، الاقتصادية والاجتماعية والفئوية على مدى سنوات سابقة طويلة، ثم عمائها وظلمها وعنفها، وعدم قُدرتها على احتواء الأزمات، ناهيك عن نهبها للموارد، وما لا يُمكن تبريره لأية سلطة. هذا لا يعني التغاضي عن أمراضٍ ذاتية يُعاني منها المجتمع السوري، على رأسها الطائفية الكامنة، ولا يعني التغاضي عن التآمر الكبير لقوى خارجية ودفع المناداة بالحريات والكرامة نحو التطرف والسلاح والفئوية بحجة «مظلوميات» حقيقية أو متوهَّمة؛ لا يهم، وما تمت ترجمته بتوجيه كمٍّ كبيرٍ من كل إرهابيي الدنيا لخوض صراعٍ لا أفق له على الأرض السورية.

أيضًا وبالتأكيد تتحمل السلطة الحالية فى سوريا، باعتبارها القائمة على تسيير الأمور واتخاذ القرارات، المسئولية الأكبر عن المسار الذي وصلت إليه البلاد من تقسيمٍ فعلي واحتلالات أجنبية وانهيارٍ اقتصادي ومعيشي، وانقسامِ المجتمع على ذاته فى ذهنياتٍ ضيقة متناقضة، في إطار «قوقعته» الفئوية، مما فاقم الحرب التي أضحت توصف بـ«أهلية» جزئيًّا.

لكن بالمقابل يتحمل المجتمع و«نخبه» أيضًا مسئولية حقيقية منذ بداية الانتفاضة عند الانجرار وراء شعارٍ لا معنى له أن «الشعب يريد إسقاط النظام»، دون تبني الأفق المطلوب. شعار «إسقاط النظام» المعني احتوى الكثير من الالتباسات، رغم سهولة وخصوبة تعبئته الشعبية. أول تلك الالتباسات، وربما أخطرها، هو المزج فى تعبير «النظام» بين السلطة التي تهيمن على الدولة وبين الدولة بحد ذاتها كمجموعة مؤسسات. فبدل توجيه الأمور نحو البحث عن سبلٍ لتغيير السلطة القائمة وممارساتها، وأخذ الدولة، والجيش بشكلٍ خاص، إلى جانب المجتمع، ذهب البعض إلى مشروع إسقاط الدولة ومؤسساتها، بكل «رموزها وأركانها» كما بات شائعًا حينها. وما يعني واقعيًّا الذهاب إلى الفوضى والتشرذم دون أى أفقٍ حقيقي. كما احتوى الشعار المطروح ضمنيًّا أو صراحة التباسًا آخر بأنه يُمكن إسقاط «نظامٍ» عبر تدخلٍ عسكري خارجي، تأثرًا حينها بمسار الأمور فى ليبيا ودون أخذ العبر من تجارب دولٍ أخرى كالعراق القريب الذي جرّه التدخل الخارجي إلى حربٍ أهلية طائفية «مزمنة» مقيتة.

إنّ الانجذاب وراء مثل ذلك الشعار أعفى «نخب» السياسة والمجتمع السوري من طرح مشروع سياسي اجتماعي بديل. مشروعٌ كان يُمكِن له أن يشكّل طموحًا جامعًا لكل السوريات والسوريين. بل اللافت هو أنه بعد عشر سنوات من الصراع، ما زال مثل ذلك المشروع غائبًا، وتبقى «القوقعة» الفئوية قائمة وسائدة، بل تفاقمت لدى كثيرٍ من الأطراف الفاعلة على أرض الواقع. هذا في ظل استمرار البعض برفض الإقرار أن «الدين لله والوطن للجميع»، الذي اتفق عليه والتفّ حوله أصلًا كل من ناضل لتأسيس الدولة السورية منذ أوائل القرن العشرين. أو ي بحثِ آخرين عن تعبئة «مكونات» الشعب السوري بهدف تقاسم مؤسسات الدولة -أو شبه الدولة- بين هذه «المكونات»، ذلك إعادةً لإنتاج نموذجٍ لبناني أثبت اليوم عجزه. واستمرت لدى جزءٍ ثالث إشاعة الاعتقاد أن حرية الأوطان يُمكن أن تُبنى على القمع والخنوع بعيدًا عن سيادة الحريات الفردية والجماعية.

وانتهى الأمر كي يبرز لدى كلٍ من الأطراف المهيمنة على الأرض حلمٌ أن جيوش الدول الخارجية هي التي ستحقق طموحاته أو تثأر لـ«مظلومياته». طرفٌ توهم، ويتوهم، أن الولايات المتحدة ستنخرط حتى النهاية فى مشروع التقسيم والصراعات الإقليمية لتحقيقه. وزعم طرفٌ آخر أن روسيا ستتخلى عن السلطة القائمة لتنصبه على رأسها. أو أن تركيا ستنتهي إلى جعل مناطق سيطرته «المحرَّرة» قبرص تركية جديدة. أو شاع لدى أصحاب قرار السلطة الحالية أن إيران وروسيا ستضمنان استمرارية جنونه فى الهيمنة على شعبه دون حساب ودون استقرار، وأن الدول الأخرى ستخضع نهاية إلى رغباته. كل ذلك فى ظل تسارع انهيارٍ لسبل المعيشة وتفلّتِ وتسلطِ أمراء الحرب على أرزاق البشر فى جميع مناطق الولاءات المختلفة.

واللافت اليوم أن مشهد المنطقة المحيطة بسوريا لم يُحفِّز الكثيرين على التخلي عن أوهامهم، بما يُمكِن أن يجنوه من «الخارج»، ممثلًا بدولٍ بعينها أم بـ«مجتمعٍ دولي» افتراضي. ولم يُحفزهم على ذلك إصرار القوى الخارجية على الإبقاء على سلطة الزعامات الطائفية الستة فى لبنان رغم سرقتها لأموال الأفراد والدولة سوية، وأخذِ الاقتصاد والمجتمع إلى الانهيار. ولم يحفزهم أيضًا على التخلي عن الأوهام الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وتسليم البلاد لتنظيمٍ متطرفٍ أصولي، ربما فقط لإزعاج روسيا والصين. كما لم يحفزهم عجز الأمم المتحدة و«المجتمع الدولي» عن وقف الحرب فى اليمن، رغم حساسية موقع العربية السعودية في أسواق النفط، وعن خلق استقرارٍ مستدامٍ في ليبيا.

لا يُمكن بناء طموحات التغيير والحرية، وحتى بالحدود الدنيا من كرامة العيش، على أوهام تدخل الدول الخارجية أو على تصريحاتها. ولا يُمكن كذلك البناء على مظالمَ سابقة أو على مشاريع فئوية.

سوريا، مثل جميع الدول التي تعاني اليوم من تداعيات صراعاتها الداخلية وعجز السلطات القائمة عليها وتدخلات القوى الخارجية وحروبها المباشرة أو بالوكالة، بحاجة أكثر من أي وقتٍ مضى إلى مشروعٍ سياسي اجتماعي وطني بديل. مشروعٌ أساسه المجتمع فى مواجهة السلطة، بل كل سلطات الأمر الواقع. مشروعٌ ينهض بالمجتمع على قاعدة «المدنية» المحمية دستوريًّا بالنسبة لمجموع المواطنات والمواطنين المتساوين فى الحريات والحقوق. مشروعٌ لا يقوم على استنهاض «مظلوميات» من أجل مطامع. مشروعٌ ينظر إلى الدولة أنها مجموعة مؤسسات تحمي الحق العام، أى حق جميع المواطنات والمواطنين، وليس حقوق مجرد أفرادٍ أو فئاتٍ. مشروعٌ لا يقبل أن تهيمن سلطة، أية سلطة مهما كانت، على الدولة لتسويغ احتكار الموارد لصالحها أو لتوزيعها على «أزلامها»، بل يعيد تنظيم دورها الأساسي فى حماية المجتمع وتوزيع الموارد بين الفئات الاجتماعية وبين المناطق المختلفة، لنصرة الفئات الأكثر هشاشة والمناطق الأكثر تهميشًا وتأمين الخدمات الأساسية للجميع. مشروعٌ لا يقوم على تجميع «الفعاليات» المتواجدة بقدر ما يبني على الفرز لخلق قوة سياسية مجتمعية تؤمن بالمواطنة المتساوية والحريات تفرض نفسها طرفًا في مواجهة «الفئوية» و«إمارات الحرب». مشروعٌ يتصدى بشجاعة ومسئولية لتبعات الصراع والتشرذم والتقسيم كي يحفز كل قوى المجتمع للنهوض والتعافي وإعادة الإعمار.

بداية مثل أي مشروع مستقبلي تكمُن فى فضح الواقع الحالي دون مواربة ولا مجاملة، وتخطي الفئوية المستفحِلة والأوهام العبثية، وكذلك مشاعر الإحباط وغياب أي أمل سوى الهجرة. إن البلاد بكل أجزائها وأرضها وترابها لجميع السوريات والسوريين. وبالتالي تستحق، رغم كل المعاناة السابقة والحالية، صبرًا ومثابرة ممن يحملون مشروعًا يخدم مجتمعها وينهض به ويصون حرياته. بالمحصلة وطن المجتمع، كل المجتمع، لا حكامه.