كيف قضت السلطة السياسية على مستقبلنا لحظة أن وُلدنا

إن النظام السياسي-الاجتماعي-الاقتصادي اللبناني الذي بني من بعد الاستقلال إلى وقت وقوع الانهيار يرى وما زال حتى الآن، بعد حوالي ثلاث سنوات على الانهيار، أن الفرد هو مجرد فاعل اقتصادي وليس فاعل سياسي. بحيث أن أية مشكلة يواجهها الفرد هي مشكلة فردية وأن الحل هو فردي. نعم، إن بعضا من مشاكلنا تكون ناتجة عن خيارات شخصية وتحتاج حلولاً فردية. ولكن معظم المشاكل تكون في أساسها سياسية مرتبطة بسياسات عامة وحلّها لا يكون الّا بالسياسة. لا يمكن فصل السياسة عن المجتمع والاقتصاد. هذا الفصل أدى إلى تراكم مشاكل متعددة اجتماعية واقتصادية للأغلبية الساحقة وساهم في زيادة ثروة قلة قليلة. على سبيل المثال، التهجير الممنهج  لحوالي نصف كل جيل من بعد نهاية الحرب الأهلية، التي قامت ومازالت تقوم به السلطة السياسية، يمكن ربطه بالغياب المفتعل للمعنى الحقيقي للسياسة وتكريس منطق أن الفرد هو مجرد فاعل اقتصادي مستهلك لا يتأثر ولا يؤثر بمحيطه. 

يمكن اعتبار أن العمل السياسي هو العمل الذي يهتم بالشأن العام  لوضع أسس تنظيم المجتمع (كيف يتم توزيع الموارد في حال فائض او الاعباء بحال ازمة) وأيضا لاستباق الفرص أو الأزمات، لتنظيم العلاقات بين أفراده التي تخلق ما يسمى اقتصاد. للسياسات العامة دور أساسي في تنظيم العلاقات بين الناس، من العلاقات داخل الأسرة إلى العلاقات داخل المدرسة والجامعة إلى العلاقات بين رب العمل والموظف، التي تساهم بخلق اقتصاد قابل للعيش او اقتصاد محتم للسقوط كما حصل ومازال يحصل في لبنان.

كيف كان تأثير السياسات العامة التي اتبعتها السلطة السياسية منذ نهاية الحرب على العلاقات داخل الأسرة وداخل المجتمع؟ كيف قضت السلطة السياسية على مستقبلنا لحظة أن وُلدنا؟ 

تعدّ السنوات الثلاث الأولى من حياة الإنسان بالغة الأهمية وربما الأهم بالنسبة للدماغ من بين كافة المراحل العمرية. هي إحدى المراحل الأولى في نمو وتطور عقل الطفل، لذلك يكون الطفل خلالها في أمس الحاجة إلى العناية والاهتمام والتغذيّة الصحيّة. تتأثّر عملية النمو هذه بعوامل عدّة أكانت على صعيد الأُسرة أو المجتمع. هذه العوامل متداخلة ومرتبطة بعضها ببعض. يُعنى هذا المقال بكيفية تأثير السياسات العامة على هذه العوامل وبالتالي على تأمين البيئة الأمثل لنمو الطفل في هذه المرحلة. يركز المقال على ثلاثة عناوين:

 أ- إجازة أمومة كافية مدفوعة الأجر،

ب- إنشاء مساحاتٍ خضراء عامة تعطي الطفل فرصة الاستكشاف واللعب،

ج- تأمين الغذاء الصحي والمياه النظيفة للشرب. 

ما هي خيارات السلطة في لبنان فيما خص هذه العناوين؟ 

إجازة الأمومة: 

أوّلًا، يُعتبر الارتباط العاطفي للطفل بالمربّي أحد الأبعاد المهمة التي تؤثّر على نمو الطفل وتطور علاقته بهذا المربي، أكان أماً، أباً أو شخصًا راشداً مقرّبًا. كما أنّ تعزيز هذا الارتباط بين الطفل والمربي يشترط تواجد الأخير بشكلٍ دائم إلى جانب الطفل، ليس فقط جسديًا بل ذهنياً وعاطفيًا أيضًا. ولذا حين يعاني الأهل أو المربي من توترٍ مستمر أو من إرهاقٍ سببه كثرة المهام أو الهموم الحياتية، يقل حضورهم، جسدياً كان او ذهنياً، مما يعرقل بناء علاقة الطفل بالمربّي.

يعاني المربون في لبنان من قلقٍ دائم يولّده سعيهم المستمر إلى تأمين الاحتياجات الأساسية من مأكلٍ ومشربٍ صحيين ودخلٍ مستدام. وبحسب دراسة حديثة للأمم المتحدة، فإن ٧٨٪ من اللبنانيين محتجزين في الفقر، ٨٩٪ من اللاجئين السوريين يعيشون في حالة من الفقر القاسي و٨٧٪ من اللاجئين الفلسطينيين هم فقراء مما يفرض عليهم إيجاد عدّة وظائف (إذا ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً) لتأمين حاجاتهم الأساسية، ممّا يقلّص من مدة وجودة الوقت المتوافر لهم لرعاية الطفل. وفي مواجهة هذا الواقع، عادةً ما يلجأ الأهل لتفويض مهمة الرعاية إلى الأجداد أو أحد المقربين. 

ولكن الوضع الاقتصادي المتغيّر أجبر أفراد العائلة الواحدة على الهجرة والسفر، وبالتالي أدّى إلى تباعد الأقرباء عن بعضهم البعض. لم يقتصر هذا التغيير على لبنان فحسب، بل طال مختلف مجتمعات العالم التي توجّب عليها التعامل مع نتائج التغيرات الاقتصادية ولكن في لبنان تم تهجير الشباب عن قصد. لجأت بعض المجتمعات إلى سبلٍ أخرى لتواكب التطوّر الاقتصادي، فمنها من منح الأهل إجازة أمومة وأبوّة مدفوعة الأجر وطويلة الأمد – لتوفّر لهم الوقت للتواجد بالكامل مع الطفل من أجل رعايته – و منها من وفّر حضانات ذات جودة عالية. ومع أنّ مجهود رعاية الطفل (وكلفته) خلال مراحل نمو العقل الأولى قد يبدو كبيراً، إلا أن تأثيره أساسي في تشكيل المجتمع على المدى الطويل. 

مع غياب التخطيط السياسي في لبنان، تم التخلّي عن العائلات لتتدبّر أمورها وحدها. فبموجب القانون اللبناني الصادر عام ٢٠١٢، يحقّ لوالدة المولود الجديد الحصول على إجازة أمومة مدفوعة الأجر لمدة ١٠ أسابيع فيما يحقّ للأب ثلاثة أيام فقط. فإنّ إجازة الأمومة في لبنان لا تزال مدّتها أقصر من مدة الحدّ الأدنى الذي توصي به منظمة العمل الدولية وهي ١٤ أسبوعًا. أمّا فيما يخصّ المدة القصيرة فتقلّص بشكلِ كبير المدّة التي يتواجد فيها الوالدين مع الطفل، مما يؤثر ذلك على علاقة الوالدين بالطفل. من جهةٍ أخرى، عدم تساوي مدّة إجازة الأمومة والأبوّة يؤدي إلى التمييز بين الاثنين عند البحث عن عمل، الأمر الذي من شأنه أن يبدّد مفاهيم المواطنة والمساواة. وتكون إحدى الحلول المطروحة هي في إعطاء الزوجين فترة زمنية محدّدة ومدفوعة الأجر يختارون تقسيمها فيما بينهما.

في الوقت عينه، إنّ معظم حضانات الأطفال لا تقدّم مستوى جيداً للرعاية. أما تلك التي ترقى إلى المستوى المطلوب فلا يستطيع تحمل تكاليفها إلا قلّة قليلة من أُسر المجتمع اللبناني، الأمر الذي يزيد من حدّة عدم المساواة القائمة. 

المساحات الخضراء: 

إنّ حاجة الأطفال للاستكشاف واللعب (لا سيما خارج البيت وفي أحضان الطبيعة) تؤدي دوراً فائق الأهمية في تطوّر دماغ الطفل، لذلك تبرز أهمية المساحات الخضراء العامة في محيط المساكن. تفتقر معظم الأحياء والمدن في لبنان إلى هذه المساحات، مما يمنع معظم الأطفال من إمكانية اللعب في الحدائق. من جهة أخرى، غياب المساحات الخضراء التي تسمح بتنقية الهواء، لا يساعد في مشكلة التلوث. كما اشارت أيضاً منظمة الصحة العالمية، بأنّ الهواء الملوّث يؤثّر سلبًا على الدماغ  وعلى الصحة الفرد عامة.

اين هي المساحات الخضراء؟

بسبب النظام السياسي-الاقتصادي الذي بني ونما بأخر ثلاثة عقود الذي تغذّى على المضاربات العقارية وعلى جلب الأموال من الخارج، فقد تم تحويل كل مساحة خضراء أو عامة إلى مادة ربحية لقلة من أصحاب رأس المال والنافذين والمطورين العقاريين. على هذا الشكل تم تقليص والانقضاض على المساحات العامة. و زيادة الطلب على التطوير العقاري أدى بطبيعة الحال إلى زيادة الطلب على المواد الضرورية للبناء كالاسمنت مما زاد من وتيرة عمل المقالع والكسارات التي شوهت الجبال وكان أحد الأسباب لزيادة نسبة التصحر. كل هذا من أجل منفعة قلة قليلة من النافذين. المضاربات العقارية أيضا أدت الى تقليص المساحات المتاحة للزراعة، لأنها أصبحت مربحة بأن يتم بيع الأرض ووضع الأموال في المصارف ومراكمة الأرباح عن طريق نسبة الفائدة المرتفعة. مما ادى الى دفع الاقتصاد لجعله أكثر اعتمادا على الريع و ليس على الإنتاج الفعلي وإلى تقليص التنوع بطبيعة المحتوى الغذائي الذي يمكن أن يستهلكه المقيمون. فهل لهذا التغيير أيضا تأثير على نمو الدماغ؟

التغذيّة: 

إضافةً إلى ما سبق ذكره، يجب الأخذ بعين الاعتبار تأثير التغذية على تطوّر عقل الطفل. فهناك ارتباط بين ما يسمى ميكروبيوم الأمعاء والقدرات المعرفية للإنسان، ويعرّف ميكروبيوم الأمعاء على أنه “ميكروبيوم معوي؛ وهو يتشكل من مجتمعات متنوعة من الكائنات الدقيقة المعوية”.

كما أشارت دراسات مختلفة إلى أنّ ازدهار الميكروبيوم يحسّن القدرات المعرفية للفرد، أكان طفلًا أم راشدًا. ويتحتمّ وجود مكونات متنوعة للغذاء من أجل ازدهار الميكروبيوم. وإذا نظرنا مجددًا إلى لبنان كمثالٍ، نلاحظ أن قلّة قليلة نسبيًا من الأطفال تتمتع  بإمكانية الوصول إلى مكونات الغذاء الرئيسية المتنوعةً والمغذية.

تساهم كلّ العوامل التي ذكرناها سابقًا في تطور عقل الطفل، أكان ذلك من خلال توفّر المساحات الخضراء أو المكونات الغذائية المتنوعة أو تواجد الأهل وتفرغّهم لرعاية الطفل. ولذا لا غنى عن السياسات العامة التي تسمح بتعزيز بيئة حاضنة للطفل تساهم في تطوّر ونمو عقله.

تغيب الأحزاب السياسية في لبنان عن هذا النقاش وإجازة الأمومة هي خير مثالٍ على تقصيرهم. إنّ غياب السياسات العامة الفعّالة  في هذا المجال يؤدي إلى إعاقة نمو وتطور الطفل من الناحيتين الذهنية والنفسية من جهة وإلى زيادة حدّة الشرخ بين الأسر التي تتمتع بالامتيازات والغالبية المحرومة منها. 

ندرك، في حركة مواطنون ومواطنات في دولة، أهمية السياسات العامة في هذا المجال وخياراتنا السياسية سواء في ما خص مجانية التعليم الجيد للجميع أو التأمين الصحي المجاني للجميع ترفع عن كاهل الأسر جزءاً من الحمل ليتمكنوا من إيلاء الوقت المستحق للمولود الجديد. بغية تأمين المأكل والمياه الصحيين للجميع بما في ذلك الأطفال حديثي الولادة، نعمل على تحديد حاجاتنا الزراعية وإمكانياتنا الإنتاجية في هذا المجال وكيفية تفعليها (بما يخلق فرص عمل) كما كيفية مراقبة المدخلات على منتجاتنا الزراعية ومصادر تلوث مياهنا. 

نرى أن برنامجنا السياسي لا يستقيم إلّا بتأمين رعاية صحيّة شاملة وتعليم مجاني لكل المقيمين وإلزامه. تخفيف الحمل عن كاهل مانحي الرعاية للمولود يوفّر لهم الوقت ليمضوه بشكلٍ مفيد وحيويّ إلى جانب الطفل. عدا عن ذلك، فإنّ التفكير النقدي يعدّ أداةً مهمة يعتمد عليها الإنسان من أجل التغلّب على التحديات المختلفة  ومعالجة الكم الهائل من المعلومات، كما هي أداة مهمة تمكّن المواطن من إدراك الأمور السياسية وناشطًا فيها. ومن أجل تحفيز التفكير النقدي يشترط تطوّر ونمو الدماغ، والتي كما أوضحنا سابقًا، يمكن تعزيز أو عرقلة هذا النمو من خلال السياسات العامة المطروحة.

وأخيرًا، لا نعني بما أدرجناه فقدان الأمل من الفرد في حال لم تتوفّر له العناية الكافية في السنوات الثلاثة الأولى. إنّما هي للإشارة إلى أهمية السياسات العامة في هذا المجال وضرورة المراقبة المستمرة وفهم احتياجات المجتمع وهيكليته من خلال تعديل وصياغة السياسات العامة المناسبة.

ونختم بالقول بأنّ مسؤولية رعاية الأطفال لا تقع على عاتق الأهل فقط، إنّما هي مسؤولية المجتمع بأكمله أيضًا.

مقال من كتابة محمد خير نحاس، عضو حركة مواطنون ومواطنات في دولة.