“شو صار؟ شو عم يصير؟ شو فينا نعمل؟“
شربل نحاس، مسرح المدينة، 16 نيسان 2024
الكلام والفعل
أيها الأصدقاء، أتيتم لسماع محاضرة، أي لتحمّل ساعة من الكلام، فشكرًا لحضوركم ولجرأتكم ولصبركم جميعًا. غايتي من الكلام أعلنها من البداية، هي استثارة أفعال بينكم لمواجهة مسارات خطيرة من الأحداث. فما علاقة الكلام بالأحداث، وما علاقة القول بالفعل؟
اللغة اللاتينية
ترتب اللغة اللاتينية الأفعال وفق تراتب زمني الفعل والكلام ووفق إنجاز الفعل نفسه واكتماله. فالأفعال غير المنجزة تكون في الحاضر، أي بالتزامن مع الكلام (présent)، أو في زمن سابق له من دون البت بإنجازها (imparfait)، أو في القادم بعده، من دون البت بإنجاز الفعل عند حصوله (futur). أما الأفعال المنجزة، فتكون مكتملة (parfait) وتعاين في زمن الكلام، كالقول “إنه عاش” (vixit)، أي انتهت حياته ومات، أو أو تكون قد اكتملت قبل زمن مضى (plus-que-parfait)، أو تكون قد اكتملت في زمن قادم بعد زمن الكلام (futur antérieur). أما اللغات الأوروبية الحديثة ذات الأصل اللاتيني فهي تنظم أزمنة الأفعال بحسب زمن الكلام وحسب، وما استبقي من الأنماط اللاتينية بات نادر الاستخدام لا بل أنه اندثر، فتعاين ماضيًا سبق الكلام وحاضرًا يزامنه ومستقبلًا يليه.
اللغة العربية تتعامل مع زمن الفعل نفسه، فتميّز بين فعل تحقق فأنجز واكتمل، وبهذا المعنى يكون قد مضى حصوله، كالقول: عشتم وعاش لبنان، أو دام عزكم، أو كان الله يحب المحسنين، وفعل جارٍ ومستمر، يضارع اسم وصفة الفاعل، فقول: المرء يسعى أو المرء ساعٍ سيّان، بمعزل عن حظوظ إنجاز الفعل واكتماله، وتخفّف تلك الحظوظ بإضافة قد، أو تغلّب بإضافة سوف، والسوف تعني شمّ رائحة عن بعد أي رائحة حصول الفعل.
يساور مقاربة اللغات ذات الأصل اللاتيني وهم أن القول هو الفعل بذاته، ويساور مقاربة اللغة العربية قلق من أن الفعل منفصل عن الفاعل وقدرته، إلا بعد حدوثه. لذا تكثر في اللغات الغربية الصيغ الفعلية (modes) لتلطيف الوهم والتمييز بين صيغة إخبارية (indicatif) وصيغة مشروطة (conditionnel) وصيغة تقديرية (subjonctif)، بينما يكثر في اللغة العربية، لا سيما المحكية، استخدام كلمات تسبق الفعل لتحدّد علاقة المتكلم به، كالقول عمّال يعمل، وعمّال صفة، تشديدًا على حصول العمل تزامنًا مع الكلام، وعمّال تصبح في المحكية عم أو عمن وبالتالي من، باستبدال اللام بالنون، أو كالقول راح يعمل، وراح فعل منجز أو ماضٍ، وتصبح رح في المحكية، تشديدًا على إتمام القصد وبالتالي رجحان توقّع حصول العمل، ليس أكثر، وهو مفهوم واقعي للمستقبل. أما اللغة الإنكليزية فقد شهدت تطورًا يشبه التطوّر الحاصل في العربية المحكية، عبر إضافة أفعال تعني الوجوب أو العزم (shall و will) أمام فعل حاضر يضارع الإسم أو الصفة وصولًا إلى اعتبار هذه الصيغ تعبر عن الزمن الآتي بعد وقت الكلام أي عن مستقبل يصوّر وكأنه محتّم الحصول.
من هذه الاعتبارات، أي من ارتباك علاقة القول بالفعل، كان العنوان الذي انتهيت إليه لهذه الندوة، على شكل ثلاث أسئلة: “شو صار؟ شو عم يصير؟ شو فينا نعمل؟” ليس لأن لا أجوبة أعرفها على تلك الأسئلة، بل على العكس، لأنني أعرف وأنتم تعرفون أن هناك جوابًا تلقائيًّا جاهزًا عليها الثلاثة معًا، وهو أن: “لبنان طول عمره هيك”، أي أنه “ما صار شي” غير المعروف المتكرّر، وبالتالي “ما عم بيصير شي”، والأهم أن لا داعٍ للفعل إذ لا جدوى منه، ولا تأثير للكلام عليه.
قد يسأل سائل: ما نفع الجواب إذا كان ردًّا معروفًا مسبقًا ومتكرّرًا؟ في الحقيقة نفعه عظيم لأنه يؤكد الانتماء جماعيًّا، وهذا ما يحصل في الطقوس على اختلافها، الدينية والحزبية وغيرها. فالانتماء الجماعي هو الردّ الأسهل على القلق. ذلك أن المعروف المتكرر محكوم بالقلق. قطوع يقطع خلف قطوع. القلق مستحكم ومعمّم. لذا يحلّ محل “شو فينا نعمل” سؤال بديل: “شو راح يصير؟”، ولعلي أعرف، أسوة بالخبراء والمنجمين الذين يملؤون الشاشات. المقصود قياس منسوب دواعي القلق. القلق يستدعي الانتماء ووقوده الانتماء، الانتماء هو الداء والدواء. لذا يصبح الإثنان مستحكمين بالجماعات التي ينتجانها ويصونانها.
كل الباقي أحداث عرضية. بعضها بعيدة وعامة كالحروب التي تجتاح العالم، فتشاهد وتولّد القلق، وبعضها قريبة، مشاكل فردية خاصة يتدبرها كلٌّ بما استطاع. مصاعب الحياة تستدعي التذمّر والتدبّر، تغذّي الشكوى وتبرّر الشطارة. للتمكّن من مواجهتها تبرز الحاجة لتوكيل القلق وكسب الوقت اللازم للتدبّر والشطارة. توكيله لله وللزعيم. العائلة تتولى مصاعب الحياة والله والوطن، وممثلهما زعيم الطائفة، يتوليان القلق.
نحن مجتمعون اليوم بدعوة من العزيزة نضال الأشقر ومن الدولية للمعلومات، وعليّ، ضمن توزيع الأدوار الذي يحكم كل علاقة، أن أتكلّم، وأنتم أتيتم مشكورين لتستمعوا وتسائلوا. لكنني لن أتكلّم بصفتي دكتورًا بل بصفتي السياسية، لأطرح أمامكم طرحًا بديلًا عن المعروف: أن السلطة ليست شيئًا بعيدًا يبتغى أو يمكن الافتراق عنه والاحتماؤء منه، بل هي توزّع الأدوار بين الناس وارتضاؤهم بهيكل التوزيع وإن لم يرتضوا حصتهم منه، وأن العمل السياسي الجدي عند المفاصل الحرجة ليس تولي أدوار مرسومة سلفًا أو التسلق من دور إلى آخر يبدو أعلى مرتبة، بل هو السعي لتأثير حاسم في السلطة أي في توزيع الأدوار وفي العلاقات بخارج محيط، وأن مصاعب الحياة بواقعها هي نفسها المجال العام، بينما القلق والانتماء، العائلي والطائفي والوطني، منتج تاريخي ظرفي.
شو صار؟
الوقائع لا تتكلم، لكنها تُروى، وهي تتحول مباشرة إلى سرديات متعددة بحسب اختلاف العدد اللغوية والمفهومية لسلالات الرواة وأهوائهم. جهد الرياضيون وبنسبة أقل الفلاسفة وبنسبة أقل الحقوقيون لصياغة معاجم مغلقة تضبط الدلالات. لكن هذه المعاجم، بقدر ما نجحت في ضبط دلالاتها، بقي استخدامها محصورًا سواء بمواضيع استخدامها أو بدائرة مستخدميها.
فلنستعرض الأحداث والوقائع القريبة منا، بما أمكن من واقعية ثم نتناول السرديات التي أطّرتها وأرست مفاعيلها.
على الصعيد الاقتصادي: توقّفت المصارف عن الدفع في خريف 2019، بعدما أوقف مصرف لبنان التسليف في مطلع السنة وباتت مؤشرات الإفلاس واضحة. وأعلنت الدولة تخلفها عن دينها بالعملات الأجنبية في ربيع 2020 في غياب أي وجهة لما بعد إعلان الافلاس. فقدت الليرة كامل قيمتها. تراجع الناتج المحلي إلى الثلث. تعممت الدولرة وعادت الأسعار تدريجيا الى مستويات ما قبل الأزمة. بدّدت موجودات البلد الخارجية لتتراجع من 30 مليار دولار إلى 5 مليارات، وأيضًا، في غياب أي وجهة، انما استيعابًا للصدمة وتهيأةً لتنظيم الاستعفاء والتكيّف.
على الصعيد البشري والمؤسسي: حصلت تظاهرات كبيرة في خريف 2019، بحجة ضريبة زهيدة على الواتس أب. انفجر مرفأ بيروت في صيف 2020. تعطل عمل الإدارة العامة والتعليم الرسمي والقضاء إلى حد بعيد. تتالت مواجهات أمنية طائفية تم ضبطها بسرعة. ارتفعت الهجرة السنوية الصافية للبنانيين من حوالي ثلاثين ألفا إلى قرابة مئة ألف بينما استمرت أعداد السوريين ونسبتهم من المقيمين ترتفع باطّراد. أجرت السلطة انتخابات نيابية في ربيع 2022 وأصبح كل مجلس النواب معارضًا (سواء باسم المعارضة السيادية أو الممانعة أو التغيير)، وشغرت رئاسة الجمهورية، واستعفى الجميع من مسؤولياته، لا سيما اتجاه الخارج. نجاح بارع.
على صعيد الإقليم: استمر الوضع التقسيمي في سوريا. نشبت حرب بين روسيا وحلف الناتو على أرض أوكرانيا. قامت عدة دول عربية بإشهار تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. أعلن عن تنظيم خط نقل بري من الخليج إلى حيفا، وآخر من إيران وآذربيجان إلى تركيا، ما استدعى حسمًا عسكريًا في أرمينيا. قام مقاومون فلسطينيون بهجوم واسع حول قطاع غزة أصاب إسرائيل بالهلع فردت بحرب تدمير وإبادة على غزة بدعم غربي. فتح حزب الله من جنوب لبنان جبهة إسناد لغزة وراحت المواجهات مع إسرائيل تتوسع تدريجيا. اعتدت إسرائيل على قنصلية إيران في دمشق فردت إيران لأول مرة، وكان رد إيراني مدروس ولأول مرة، مباشر، على إسرائيل . انقسم اللبنانيون بحدة حول المواجهة.
موجة هائلة من الأحداث. لكن الحدث لا يحمل معنًى محددًا، ولا يولد بذاته نتائج ولا مواقف. المعاينة شيء والتشخيص شيء آخر. المعاينة أن الشخص مصاب بالحمّى، والتشخيص أن الحمّى تعود لهذا الالتهاب أو ذاك ولهذه البكتيريا أو تلك. الحدث بذاته يولد القلق. أما التشخيص فيفتح الباب على خيارات التعامل مع الحدث، لا بل على استباقه أو حتى على افتعاله. التشخيص يحتاج لعدة مفهومية ويبقى معرّضًا للخطأ وللأهواء والنزوات. والعدة المفهومية متأخرة دائمًا عن الحدث والعمل النقدي على العُدد المفهومية يلاقي معارضات شديدة، ذاتية وسياسية، لأنه يزعزع الانتظام الذي يركن إليه الناس ويصيب مصالحهم الرمزية والمادية أيضًا.
العدة المفهومية المرجعية في لبنان موثّقة في نص قصير هو مقدمة الدستور، وهو نص ينقض كل مواد الدستور. قوامها تنظيم هدنة بين الميليشيات الطائفية برعاية دولية وإقليمية، بدأت تتبلور خلال مرحلة انتقالية منذ الثمانينيات. ومرت بامتحانات صعبة بدءًا من قرار أميركا اجتياح العراق، فالاغتيالات، فإخراج سوريا، فحرب 2006، فـ7 أيار، فالمحكمة الدولية، فإقصاء سعد الحريري بقرار سعودي. بذلت جهود لافتة لترتيب صيغة مّنقحة منها نسميها اللا-دولة الطائفية، وهي قائمة من دون وصاية خارجية ومن دون عنف داخلي منذ ما يقارب خمس عشرة سنة. صيغة دقيقة ومتطورة وحذقة، وخطرة.
توضيحًا للقصد، نقول إن ما حصل لم يكن نتيجة فساد وفاسدين، ففي كل الدنيا سارقون، ولا نتيجة تآمر خارجي، أميركي أو إيراني أو غير ذلك، فتدخل الدول لمصالحها هو أحد أهم أسباب وجودها، حيث توجد، ولا نتيجة خرق للدستور والقانون، لأنهما لا يعدوان مرتبة الشكليات في مفهوم راسخ عند الجميع. كل هذه التفسيرات لا تهدف إلا إلى تنزيه صيغة السلطة القائمة وصيانة شرعيتها العاجزة.
نقول إن الأحداث تؤشر على تعطّل صيغة السلطة، أي على حالة قطيعة واقعية مع ما كان قائمًا ولن يعود كما كان. المكابرة تقود إما إلى تبدد المجتمع، وهو ما يجري، وإما إلى تفلّت العنف، وهو تهديد دائم الحضورـ وإما إلى الاثنين معًا.
تندرج الأحداث- الوقائع تحت ثلاثة عناوين: الإفلاس والهجرات والإقليم.
- الإفلاس: وقد أتى نتيجة حتمية للنظام الاقتصادي-السياسي، وإن تم تأجيله بشطارة جهنمية، وبتقصد إجرامي، لسنوات عديدة، مقابل تعظيم الخسائر. في سنة 1999 وضعت كتاب “حظوظ اجتناب الأزمة وشروط تخطيها”. وفي سنة 2004 فاوضنا البنك الدولي وصندوق النقد، مع المرحوم الياس سابا، على تصحيح إرادي، لكن الاغتيالات أطاحت بحكومة عمر كرامي. وفي سنة 2011، عقدت سلسلة جلسات تفاوض مع رياض سلامة قبل التجديد له لوضع مجموعة من المؤشرات الاستباقية للأزمة المنتظرة ولتحديد كيفية التعامل معها متى حصلت، لكن الخلاف السياسي مع ميشال عون أسقط كليهما. وفي 2015 تقدمت مع كل من السادة حسين الحسيني وإلياس سابا ونجاح واكيم وغيرهم بمراجعة لدى مجلس الشورى لفرض رقابة قضائية على تصرف الدولة غير الدستوري وغير القانوني بالمال العام جباية وإنفاقا، فأتى الرد أن القضاء لا يستطيع الحلول محل سلطات تحوز على الشرعية الشعبية. في ربيع 2016، تم تأسيس “مواطنون ومواطنات في دولة” وكلّف فريق برصد الأوضاع المالية وتتبعها ووضع نماذج رياضية ارتقابية للانهيار. وعندما أصبح الانهيار وشيكا، أصدرت الحركة تنبيهًا علنيا في أيلول 2018، إلى حلقات السلطة الثلاث، الزعماء الطائفيين، والمصرفيين، وممثلي الدول الكبرى والمؤسسات المالية الدولية. وعقدنا اجتماعات مع الضمان الاجتماعي ومع نقباء المهن الحرة والمعلمين في بيروت وطرابلس وأخطرناهم بمسؤوليتهم الشخصية عن مدخرات اجتماعية تعود لمئات الآلاف وضرورة حمايتها، من دون جدوى. وغداة توقف المصارف عن الدفع أعلنّا في تشرين الثاني 2019 برنامج المرحلة الانتقالية القائم على توزيع عادل وهادف للخسائر، ثم أصدرنا في حزيران 2020، بعد ضرب اللصوصية الذي قامت به “لجنة تقصي الحقائق” والتي ضمت كل أحزاب السلطة ، كتاب “اقتصاد ودولة للبنان”. إضافة إلى حملات “مستقبلك ذهب” و”وين صندوقك”. على الرغم من الاستباق والتحذيرات، حُرم المودعون من ودائعهم، ما عدا المحظيين طبعًا، وحرم المضمونون والمتقاعدون من مدخراتهم، وهدرت مليارات الدولارات، وما هو أنكى من ذلك أن أصحاب المصارف وزعماء الطوائف استغلوا غضب المودعين لتضع الحلقة المالية يدها أيضًا على الأموال والأملاك العامة، محوّلين سرقتهم للمال الخاص إلى حجة لسرقة المال العام. حتى بات المرء يترحّم على لازار وعلى صندوق النقد.
- الهجرات: دخل مئات آلاف السوريين إلى لبنان خلال سنة 2012، في ظل اقتناع كل من محوري هدنة اللا-دولة أن عودتهم سريعة، لأن مؤيدي الأسد كانوا واثقين من نصره الوشيك ومعارضوه من سقوطه الوشيك. ولم تعر السلطات اللبنانية مكوثهم منذ ما يقارب عقدا ونصف أي اهتمام، موكلة شؤونهم إلى الأمم المتحدة وأجهزتها وأجنداتها. باتوا اليوم يشكلون ثلث السكان والأغلبية بين الشباب، وفي القوى العاملة خارج القطاع العام، وجلّهم ينتظمون ضمن علاقات عشائرية ورثوها. نصفهم تقريبًا لم يعرفوا سوريا. في المقابل، أدى الإفلاس وفقدان فرص العمل إلى تعظيم هجرة اللبنانيين، لا سيما من الشباب، حتى باتت نزيفا جارفًا، وأصبحت تحويلاتهم، إضافة إلى المساعدات الخارجية واستهلاك مخزون الأموال لدى المصرف المركزي والأفراد، توازي الناتج المحلي وتسمح بالمحافظة على مستويات مقبولة بالحد الأدنى من الاستهلاك. تبديد البشر، اي مادة المجتمع، أصبح الملاذ. خسارة هائلة في العام تبدو الحل المتاح للأُسر في الخاص. وطبعًا ما زال اللبنانيون يتجاهلون المسار التراكمي للهجرتين الخارجة والوافدة، ويمتنعون عن القيام بالتعداد لأن السلطة لا ترى مقيمين ومواطنين بل طوائف وأغراب، ويتجاهلون ما حصل في سوريا. إضافة إلى افتراق مقياسي الخاص والعام، يتظهّر افتقاد حسّ الزمن وحسّ المجال.
- الإقليم: وقد تغيّرت معالمه بين فلسطين المحتلة وأهلها مهجرون أو مقتولون أو مقموعون، والعراق الذي تتقاسمه العصبيات والعصابات الطائفية من ضمن ازدواجية مرجعياتها بين إيران وأميركا، وسوريا التي تحضر فيها بعساكرها الدول العالمية والإقليمية المتصارعة، ولبنان الذي يتمسك أهله بسبب قلقهم المستحكم بهدنة خطرة وعاجزة ويرتضون تبددهم. بات في المنطقة ثلاث دول فاعلة: إيران وتركيا وإسرائيل. مقابلها مجموعة دول صغيرة نفطية، من دون مجتمعات، إذ الغالبية العظمى من سكانها عمال أجانب مؤقتون، تحميها قواعد أجنبية، وإلى جانبها السعودية التي يسعى حكامها لإرساء نظام جديد وسط مخاطر ومغامرات كبيرة، ومصر الدولة الكبرى التي أصبحت تعيش على التسوّل والتحيّن. أين أصبحنا من زمن كان فيه البدّاوي، وقد لحقت به بانياس تحت ضغط من سوريا، مصبًّا لنفط العراق، بدلًا من حيفا، بعدما رسمت حدود الأردن وفق مسار ذلك الخط وصولًا إلى حيفا، وكان فيه الزهراني مصبًا لنفط السعودية، بدلًا من حيفا أيضًا، وفق المخطط الأصلي؟ خطوط الغاز والنفط تعبر من إسرائيل إلى قبرص أو عبر تركيا إلى أوروبا. وأين أصبح وزن بيروت قياسًا على مدن المنطقة، وأين أصبح مرفأها ومطارها وجامعاتها؟ الحرب الهائلة التي تشنها إسرائيل منذ ستة أشهر ضد الغزاويين الصامدين ترمي إلى طردهم من ملجئهم بعدما أصيب المشروع الصهيوني في أساسه بوصفه قد أنشأ ملاذًأ نهائيًا وآمنًا ليهود العالم. ترمي إسرائيل بفظاعة أفعالها إلى القول للصهاينة إن ما حصل كان طارئًأ وعابرًا ولن يعود، وحتى كأنه لم يحصل. والرد الإيراني الأخير أصاب المشروع الصهيوني في ركيزته الثانية أي في زعمه أنه اليد الطولى للغرب في المنطقة. فإقدام إسرائيل على ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق سعى إلى توسعة الحرب إلى المجال الإقليمي، فأحرج إيران طبعًا وإنما أربك الولايات المتحدة ايضًا. فقامت إيران بالإنذار، إنما مادّيًا، بمخاطر حرب إقليمية لا بل دولية، وإرسال عدد من الصواريخ البالستية لا يكون لإحداث حفر في مطار عسكري، بل لحمل أشياء ورسائل أخرى. سواء امتد أمد الحرب وتوسع مداها أو انحسرت، فهي ستنتهي إلى ترتيبات، وإن مؤقتة. أين لبنان منها، بعد ما قدم من تضحيات؟ المسار إلى الحرب الأهلية لا ينفصل عن هزيمة 1967، وتشتّت شرعية نظامي الناصرية والبعث، وبدء تفاوض مصر مع إسرائيل إثر حرب 1973. اتفاق الطائف لا ينفصل عن تقهقر الاتحاد السوفياتي وبزوغ الأحادية القطبية لأميركا. تطبيقه بالرعاية السورية مرتبط مباشرة بغزو صدام حسين للكويت ووقوف سوريا مع التحالف الأميركي. ومؤتمر باريس 2 الذي أطال أمد النظام المالي في لبنان لقرابة خمس عشرة سنة أتى من تخوف فرنسا والسعودية وسوريا من نية بوش غزو العراق ومتى حصل الغزو كان القرار 1559 وإخراج سوريا. تظاهرات 2019 أتت بالتزامن مع تحركات احتجاجية حاشدة في العراق، قمعت بعنف، وبالتزامن مع إقرار قانون “قيصر” في أميركا لفرض حصار محكم على سوريا. لكن الشكوك لم تحل دون اعتبارنا أن التظاهرات “مباركة” لأنها وفّرت فرصة، ولو ضيقة، لمواجهة نظام سياسي مأزوم وعاجز، فسعينا لعدم إضاعتها، بينما انقسم أركان السلطة بعد إرباك دام أيامًا، وفقًا للقراءة الخارجية، بين من صوّر نفسه ثائرًا لأنه اعتبر أن أميركا تحرك الساحة، ومن اعنبر نفسه مواجهًا لأنه اعتبر أيضًا أن أميركا تحرك الساحة. لكن الفريقين اجتمعا، في انتخابات سنة 2022 على تنظيم الاستعفاء، من مخاطر الخارج أيضًأ، تاركين الناس يتدبرون أمورهم والمجتمع يتبدّد، وقد سعينا، هنا أيضًا لصدّ هذا المسعى. لبنان اليوم مرتهن، بإرادة زعمائه، لتطور الصراعات والمفاوضات في الإقليم وعلى مصيره. شرعية الدولة شرط لقدرتها على حشد الموارد والتعامل مع الخارج الخطر، بوسائل غير المراهنة والارتهان.
في مقابل التباس العام والخاص، وحلول الخاص بديلًا عن العام المستعفي، وافتقاد حسّ الزمن والمجال للإقامة في عالم هويّتي جامد متخيّل، والتغاضي عن الحاجة لدولة ذات شرعية، تملأ الجو ضوضاء سخيفة ومحزنة: عن الإفلاس، نسمع عن التعافي والريزليانس وعن ردم الفجوة وعن ازدهار المقاهي، وعن الهجرات نسمع أهلا بهالطلة أهلا، وعن جامعات تباهي بكفاءتها في تصدير الشباب وعن بلديات تضبط السوريين بينما الأمن العام ينظم قوافل العودة، وعن الإقليم، نسمع عن قرار تتخذه غزة مقابل دعوات “الله يسترنا” واتهامات متبادلة متصاعدة. وصار تاريخ 17 تشرين 2019 مرجعًا في النصوص القانونية والمراسيم والقرارات الرسمية ومنها قرار مجلس الوزراء في 4 نيسان الذي تكلّم عن القيود التي “فُرضت” على سحب الأموال (بالمجهول) واعتمد ذلك التاريخ حدًّا فاصلًا بين الأموال “الطازجة” والأموال البائتة، بينما يسميه الناس ثورة! هذا من دون نسيان الشغور في سدة الرئاسة الذي يشغل العالم والشاشات.
الكلام المحلي السائد منتظر ولا يفاجئ أحدًا وهو يبدو مزيجا من البديهيات المتصارعة، إنما لا عنف يتفلّت ولكن من دون أي طرح إجرائي أيضًا. هل مطلقو هذا الخطاب بتلاوينه أغبياء وفاسدون؟ لا. والدليل أن الاقبال عليه كثيف وشغوف ومردديه كثر. مطلقوه من الزعماء أسرى أدوار وأسرى قلق لا يستطيعون البوح به، ومتلقوه بدورهم أسرى قلق لكنهم يوكلونه إلى الزعيم وينسبون سببه إلى الزعيم الخصم أو إلى ما سمّي المنظومة، ويسعون قبل فوات الأوان إلى ترتيب أوضاع أولادهم في الهجرة أو في الإن جي أوز.
الأشد إقلاقًا في الأمر هو التكيّف، وارتضاؤه.
شو عم يصير؟
صار يعني الحدث، أما يصير فيعني المسار والتغيّر. والأحداث ليست مفاجآت مقلقة أو مناسبات طقوسية.
مسارات التغيّر التي تتراكم مع الوقت هي القاعدة، هو مستمر وهي متعددة، ووتائرها متفاوتة ومتقلبة، تغّيّر في المناخ، تغيّر في التقنيات، تغيّر في علاقات الإنتاج، وفي العلاقات الأسرية ومعدلات وأعمار الإنجاب والوفيات، وفي أنظمة الحيازة، تغيّر في الصيغ السلطوية، تغيّر في المعتقدات، وفي اللغات، وفي الذمم المالية… التغيّر هو سنة الحياة، من دونه لا ولادة ولا نضوج ولا شيخوخة ولا موت، من دونه نفي للتاريخ، وإفقاد العقل جدواه، إذ لا أسباب ولا نتائج في غياب الترابط الزمني. ولا دواعي بالتالي للعمل السياسي، إلا لأداء طقوسيات خاضعة لقواعد ثابتة مبررها ومآلها تدعيم مقولات الثبات، ثبات الدول (كلمة دولة بالعربية تعني التحوّل بينما كلمة status اللاتينية تعني الثبات)، وثبات الدساتير، وثبات المعتقدات.
وعليه تزخر الأيام بمناسبات تبدو وكأنها أحداث، لكنها تكون مفتعلة، كجزء من طقوسيات السلطة و”استحقاقاتها”، بينما هناك أحداث، غير منتظمة، لا بل تبدو مفاجئة، وتكون مفروضة بحكم تراكم مفاعيل التغيّر داخل المجتمع أو حوله، على الرغم من إغفالها وإنكاره.
لولا قاعدة التغيّر لكان التغيير وهمًا. التغيير هو تأثير في مسارات التغيّر القائمة. ذلك أن التغيّر مقلق، للأفراد وللمجتمعات، والثوابت تُنتج بغزارة كملجأ من القلق الذي يرتبه التغيّر. وقد ابتدع البشر طرقًا ومتخيلات ومؤسسات لا تعدّ ولا تحصى لمحاولة تكريس الثبات: الأنساب الواقعية والمتوهّمة التي تعبر القرون، والهويات العقائدية الأزلية، والطقوس الدورية الموسمية، الرسمية والدينية، وإظهار القوة الجماعية عبر الاستعراضات العسكرية والمبارزات الرياضية القومية. سواء حوّل الوقت إلى لحظي أو أبدي-أزلي أو دوري، لا فرق، فأنه لا يعود له فعل تراكمي وتغييري. ولا يبقى منه إلا كمّ من اللحظات وخضمّ من الأحداث. يصبح معيار الشطارة، عبر التحيّن، الاستفادة منها، بقنصها، أو الاحتماء من وقعها. ولا يعود من معنًى لما يسمى استثمارًا ولا تضحيةً.
تعامل اللبنانيين مع الأحداث محكوم بهذا المفهوم للوقت: تراكم الذمم المالية التي هي تراكم للخسائر لم يرد أحد تقريبا التعامل معه، فأتت الأزمة كأنها مفاجأة، وتلتها التظاهرات كأنها احتفالية، بينما “التكيّف” جارٍ على قدم وساق، وتراكم الهجرات، الوافدة والخارجة، وفعلها يغيّر المجتمع والاقتصاد، فما من أحد تقريبًا يتعامل مع واقعها بل يتخيّل كل فريق أنه يحل مشاكله في زاروبه، ومتى تتكشف أحداثًا ستكون مفاجئة، وأتت الانتخابات كاحتفالية ثانية، وهجوم 7 تشرين نتيجة، وإن متأخّرة، لتراكم مديد، وصدّ لتراكم مقابل، والاستشراس الإسرائيلي في القتل والتدمير مسعى لصدّ مسار ما زال في بداياته لكنه تهديد للمشروع الصهيوني في أساسه.
مسارات التغيّر متعددة. وإن كان كل منها بسيطًا بمفرده، متى تمّ الاعتراف بحصوله والتعرف إلى مجرياته، فإن تداخلها ينتج صورة مرتبكة. لذلك تتشكل ذاكرة الناس حول أحداث و”شخصيات”، لما كان لها من تأثير مادي، واقعي أو متخيّل على الأحداث، أو من تأثير رمزي عليهم وفق ما حفظته السرديات التي يتناقلونها في عائلاتهم وأجوائهم الخاصة. وقد بقي التدوين التاريخي حتى زمن قريب محصورًا في غالبيته العظمى بالحوليات (annales أو chroniques) أي بتدوين الأحداث وفق تواريخ حصولها، مع حرص متفاوت بين المدوّنين على الدقة والشمولية. ومع تمأسس الدول وتوسع التعليم، راحت تغلب، عبر كتب التاريخ المدرسية، مقاربة أخرى قوامها التحقيب وفق تتالي الصيغ المؤسسية للسلطة (إمارة، فقائمقاميتان، فمتصرفية، فإعلان لبنان الكبير تحت الانتداب، فالاستقلال، فالحرب الأهلية، فصيغة الطائف) وكل من الحقبات تتضمن أحداثًا. لكن الصيغتين الخاصة والعامة للذاكرة تغفلان مسارات التغيّر ومفاعيلها.
هذا بينما تلك المسارات هي التي تفسّر الأحداث وقيام الصيغ المؤسسية واندثارها عبر مفاصل حادة وحرجة تتظهّر فيها الخيارات والمشاريع السياسية الكبرى، بنجاحاتها وبإخفاقاتها.
مسارات التغيّر بسيطة بحد ذاتها. ومفاصل الفعل السياسي التغييرية ليست عديدة. وأبرز تلك المفاصل وما أطلقت من مسارات عندنا خلال القرنين الماضيين خمس:
- مفصل التحديث العثماني كردّ على التوسع الرأسمالي الأوروبي، وقد أطلقا إرساء أنظمة الملكية الخاصة، والتنقيد، وتفكيك التراتبية السياسية بين أعيان وعامة، والهجرات الخارجية والداخلية،
- مفصل التقاسم الإمبريالي، وقد أطلق مسارات إنشاء الدول، وتوسّع التعليم، وإنشاء الإدارات، والانتقال الديمغرافي، وقولبة المجال وخطوط النقل على مقاسات الدول،
- مفصل مشاريع التحرر الوطني، وقد أطلقت مسارات الأطروحات القومية من أنطون سعادة إلى العروبة الناصرية، وتعميم التعليم، والتأميمات، وإنهاء سيطرة وجهاء المدن، وأشكال مختلفة لإدارة الريف،
- مفصل المشروع الصهيوني، وقد أطلق مسارات تساقط شرعية الدول، والعسكرة، وتبدلات المجال، وتراجع القومية لصالح التيارات الدينية، وتوسع دائرة الانهزام الطوعي،
- مفصل نظام القطبية الواحدة، وقد أطلق مسارات النيو-ليبرالية، وانقلاب الإقليم، وتفكك الدول، وضياع الشرعيات، ومساعي استعارتها.
عودةً، لا بل وصولًا، مع العدة وضمن السياق اللذين أسلفنا ذكرهما، إلى اليوم وإلى الساحة اللبنانية تحديدًا.
تميزت المنطقة التي باتت اليوم لبنان بخصوصيتين منذ انطلاق مسارات التغيّر، وهما:
- أنها كانت ريفًا هامشيًا ضمن الأمبراطورية، سكانها منتظمون ضمن طوائف، من دون أقطاب مدينية متصلة بشرعية السلطنة الدينية والصيغ المتفرعة عنها (ما عدا حالة طرابلس البالغة الدلالات، على محدودية مداها)
- أنها تشكلت حول بيروت، كمدينة قطب، طارئة في الأمبراطورية، كانت بوابة دخول التأثير الخارجي إليها وواجهة التحديث الداخلي فيها، وإن اعتمدت تسمية لبنان الكبير في إيحاء أنه استمرار لمتصرفية جبل لبنان.
نتج عن هاتين السمتين تطور يمكننا تحقيبه، تبسيطًا، إنما ضمن منطق المسارات، طوال قرنين، كالتالي:
- 1825- 1875: انطلاق مسارات التغيّر المجالي والاقتصادي والاجتماعي الأساسية،
- 1875- 1925: ترسّخ الوضع الاقتصادي والاجتماعي الناتج عن التغيّر،
- 1925- 1975: حكم دولة التجار الذميين، الضعيفة والمطمئنة حيال المسارات الفاعلة في الإقليم،
- 1975- 2025: تدفق أموال النفط، ونزوح الريفيين والحرب فيما بينهم، وإرساء لا-دولة الطوائف.
كل من الحقبات حكمت بمسارات أطلقتها مفاصل سابقة وحرفتها مفاصل سابقة، إنما متى انطلق قطار التغيّر على سكّته تمحى ذاكرة ما سبقه وما أطلقه، وتنسج روايات تنطلق من نقطة الوصول أو من تصورات أزلية، كالقول، ضمن المنطق الطائفي، إن بطريرك الموارنة إلياس الحويك أسّس لبنان وأقنع الملحد كليمنصو بذلك في حين كانت بيروت نقطة ارتكاز الانتداب الفرنسي في بيروت وكان تقاسم العالم بين الاستعمارين الفرنسي والبريطاني جاريًا على قدم وساق، بينما جمعهما قلقهما من الثورة البولشفية، أو إن لبنان قائم منذ الأزل وإن أهله قاوموا محتليه عبر القرون، أو القول إن الشيعة كانوا مضطهدين من قبل الموارنة، فحصّلوا الحقوق التي حرموهم منها، بينما كلاهما أبناء نازحين من الريف أتوا مع فارق بضعة عقود، أو إنهم بطبعهم مناهضون للغرب المستكبر وحريصون على تحرير فلسطين، من دون اعتبار دور التنظيمات اليسارية ثم حزب الله في تأطير ارتقائهم الاجتماعي وتوجيهه، أو إن طرابلس “السنية” سلخت عن سوريا، بينما هي كانت جزءًأ من ولاية بيروت وكانت قبل ذلك مركز ولاية بذاتها، ولم تستخدم كلمة سوريا إلا للدلالة على ولاية دمشق وذلك بدءًا من منتصف القرن التاسع عشر، تأثرا باللغات الأوروبية، وما إلى ذلك من الأمثلة… المسارات تبقى صامتة بينما تفعل فعلها، ومتى تنتج أوضاعًا مؤسسية، عند مفصل وعبر أحداث، ترسي سرديات مصطنعة عن تاريخها، تتجاهل ليس فقط المسار الذي أنتجها بل تتجاهل أيضًا المسارات التي تنطلق أو تستمر فاعلةً ضمن تلك الصيغ المؤسسية. وهذه السرديات تنسب الارتقاء الاجتماعي، على مستوى الخاص، والصعود الخلدوني، على الصعيد العام، إلى سمات ذاتية وجماعية، وتصوّر التراجع الاجتماعي والخلدوني على أنه وليد ظلم وتآمر.
نحن اليوم عند مفصل جديد.
نظام اللا-دولة تعطّل بحلقاته الثلاث، السياسية-الطائفية، والمالية، والخارجية.
ثلاثية حلقات السلطة كانت متكاملة ومتآلفة (الطائفة، المال، الخارج) ضمن توافق السين-سين وضبط تحكيمه (1989-2004)، ثم من دونه (اجتياح العراق والقرار 1559)، عبر نظام اللا-دولة الذي تمكّن، بإبداع، من ستر تصاعد الضغوط الطائفية-السياسية (تحت لوائي 8 و14 آذار) والمالية (هندسات مصرف لبنان) والإقليمية (المحكمة الدولية فحرب 2006 والقرار 1701 فالحرب السورية)، هذه الثلاثية وصلت، بعد 2019، إلى انقلاب مفاعيلها بحيث تحولت إلى ثلاثية الهجرات والإفلاس وإعادة تشكيل الإقليم، على المكشوف. كانت الحلقة الخارجية تضبط الأطراف السياسية الطائفية، فتنتج “الوحدة الوطنية”، وتوفّر الدعم المالي للحلقة المالية عند الحاجة، وكانت الحلقة المالية بدورها توزّع المنافع على الأطراف السياسية الطائفية.
باتت موجتا الهجرة، الخارجة والوافدة، تترجم، محليًّا بتقدّم عملية إعادة تشكّل الإقليم، وتعوّض، بالتحويلات والمساعدات، مفاعيل الإفلاس، لكن الضغط المزدوج للإفلاس، توزيعًا للخسائر، ولطرفي الإقليم، انخراطًا في خندقيهما، يواجَه بتنظيم الحلقة السياسية الطائفية للاستعفاء، فيتفاقم الضغط ومفاعيله.
ما يجري اليوم، تحت عناوين التكيّف والتعافي، يؤدي إلى مجتمع لا ينتج إلا القلق من العنف والمآسي وبضاعته الوحيدة للتصدير (أي أبناؤه وبناته) تتناقص كميتها وتتراجع نوعيتها. ما يجري اليوم هو تبديد ممنهج للموارد. في تشبيه من علم الأحياء: تسعى بعض الفصائل، أمام مسار تغيّر يتراكم واقعيًا، للتكيّف. بعضها يتكيّف بعد حصول تغيّر في تركيبتها الجينية، أي في نظامها، بينما أخرى تبقى أسيرة نظامها، فتنقرض.
الخط الفاصل اليوم هو بين التكيّف أي تبديد ما تراكم من الموارد المجتمعية والمؤسسية خلال القرنين الماضيين، بالقدر الذي تُتاح المحافظة على الهدوء، من جهة، وخوض تجربة سياسية أداتها دولة واثقة من شرعيتها، أي دزلة مدنية، تصون الموارد وتطوّر أسبقية التجربة في لبنان لتطلق مسارًا جديدًا على صعيد المنطقة. المواجهة على الشرعية هي عنوان الظرف، لا المطالبة ولا الوعظ، وهي ما حملنا في أطروحاتنا، فكان الجبن والتقاعس، ونحن اليوم جالسون معًا للفعل.
شو فينا نعمل؟ وشو علينا نعمل؟
كيف تنقلب الصورة؟ ومن هم النحن المقصودون في السؤال؟
المتكلم والمخاطب في لبنان يتحددان أولا بالطائفة، كل ينتمي إلى شارع ومجتمع وبيئة، لكل طائفة خطابها ووسائل تواصلها، وفق منطق “بيشبهونا”. وقد أضيفت مؤخرا طائفة قيد الإنجاز هي طائفة التغييريين بطرافتها وبؤسها. وكما تسير الأمور، سوف تتكوّن طائفة السوريين.
لكن ما هي الطوائف، وكيف تشكّلت أصلًا؟ وما هذه الكذبة حول الحضارات وهذا التحايل على الدين والفكر؟ وماذا عن مزاعم الأصول الثابتة لجموع وفدوا إلى فندق كان فارغًا، من غساسنة ومردة وبني عاملة إلى آخر المعزوفة؟ أو اللجوء من تعسف وقمع إلى الجبل المنيع العصي على أمبراطوريات كانت تغزو القارات؟ الطوائف تشكلت عند مفاصل قامت فيها الدول أو تدخلت عندها قوى خارجية. اللافت أنها استبقت وجودها حتى بعد زوال تلك الدول والقوى، لا بل أنها مأسسته، تحنيطًا دفاعيًّا. الطوائف أحزاب سياسية من الأصل.
الأمبراطوريات، متى تركّزت قوتها الغازية وبدأت تفقد من عزمها، تعتمد دينًا من الأديان لتركيز شرعيتها. والأديان تعمّر أطول من الأمبراطوريات. الأمبراطورية الرومانية اعتمدت المسيحية، وانقسمت القبائل التركية بين سلاجقة وعثمانيين اعتمدوا السنة وصفويين اعتمدوا التشيع. عندما يعتمد السلطان دينًا للأمبراطورية سرعان ما يتبعه أهل المدن، فالمدينة تَدين، بينما نسبتها إلى فعل مدن غير المستخدم ضعيفة، وفي كل مدينة قلعة، ثم يأتي سكان مناطق الإنتاج الأساسية والسهول المروية والثغور الدفاعية، وخير مثال اختفاء أثر الفاطميين من مصر ومن تونس أيضًا، واختفاء الشيعة من طرابلس وحمص وحلب. أما المناطق الهامشية، الضئيلة الإنتاج، والتي لا توفر للسلطان مالًا ولا تهدّد سلطته، فلا تلتحق بدينه بسرعة لا لشيء إلا لأن السلطة لا تحضر فيها مباشرة لأسباب اقتصادية بديهية، فتكتفي بقمع أية قلاقل تحصل عبر تجنيد حملات عسكرية حاسمة، لا تحول التضاريس دون تقدمها، فتطيح هذا الوكيل وتكلّف واحدًا بديلًا عنه. الكلمة التي تستخدم بالفرنسية والإنكليزية للإشارة إلى الفلاحين هي نفسها التي تعني الوثنيين، وقد بقي سكان المناطق الجبلية في المشرق يمارسون دياناتهم الكنعانية قرونًا بعد اعتماد الرومان للمسيحية وحتى بعد الغزو العربي. في بلداننا، تقبل السلاطين أن يتعايش مع أتباعهم، لا سيما في المدن، أتباع ديانات سلطوية سابقة بوصفهم ذميين خاضعين، فاعترف العثمانيون بثلاث ملل هم الروم والأرمن واليهود، وهذه الملل تحتفظ بتنظيمها الشرعي والوقفي وتشرف على أتباع ريفيين. أما في المناطق الهامشية، فبقي السكان على دياناتهم السابقة، من سريان يعاقبة وموارنة، أو بقوا على ديانات حملتها أمبراطوريات سقطت، كالدروز والاسماعيليين من آثار الحكم الفاطمي، أو تأثروا بالمحيط في ظروف تاريخية واستبقوا تلك التأثيرات كالشيعة الإثني عشريين خلال مرحلة غلبة الشيعة في القرن العاشر الميلادي، مع الحمدانيين وبني عمار، أو ألّفوا عبر مثقفين ودعاة أتوا من المدن إدماجًا لتقاليد قديمة ولعادات مستجدة كما مع النصيريين-العلويين والإيزيديين وغيرهم. كل هذه التشكّلات تحججت بإقامة مسافة مع شرعية السلطان الدينية، سواء باستبقاء ما كان قبلها أو بالتموضع على افتراق في قلبها. لكن تمأسس هذه الجماعات لم يحصل بسرعة بل تأخّر كثيرا وقد حصل في لبنان مع الدروز أولا ثم مع الموارنة وأخيرا مع الشيعة.
الطوائف نتاج تاريخي وإرث مجتمعي ليس إلا. لا نتجاهلها عبر شعارات كالتي وردت في الدستور، ولكننا لسنا أسراها.
طرحنا اليوم يقوم على ثلاثة عناوين:
- النزاع على الشرعية (ومن هنا شعار “البديل موجود”)، والمقصود مواجهة صلابة الشرعية الذاتية لكيانات طائفية، متولدة من الحرب، وممأسسة، نجحت في الانتظام ضمن اللا-دولة، وعجزها البنيوي عن التعامل مع مفاعيل مسارات تراكمية داخلية وخارجية على المجتمع، وهذا الخيار الذي اعتمدناه مفترِق جوهريًّا عن تأدية أدوار هامشية ترتضيها السلطة ولو وجهت لها الانتقادات، وهو لا يتبنى المناشدة والمطالبة، لأنهما يثبتان شرعية المخاطَب، ولا الاتهامات الشخصية بالفساد والخيانة وغيرهما، لأنها لا تصيب أسس السلطة. لكنها تفرض في المقابل صياغة مشروع سياسي مع ما يتضمن من خيارات ومفاضلات.
- المرحلة الانتقالية (ومن هنا شعار “الأزمة فرصة”)، نقول إن طرحًا كالذي نحمله لم يكن ذا أفق لولا تعثّر النظام الذي قام منذ نهاية الثمانينيات، على صعده الثلاثة، المال والهجرات وإعادة تشكيل الإقليم، على الرغم من مكابراته وهندساته وبراعاته. عندما نتكلم عن مرحلة انتقالية نقول إن ما كان لن يعود لأن تعطّله ليس نتاج صدفة، ونقول إن إنجاز التأثير الحاسم في إدارة المرحلة الانتقالية ليس نهاية للتاريخ، كما يصوّر أتباع ومحوّرو بعض الإيديولوجيات. إدارة المرحلة الانتقالية تتولاها حكومة بصلاحيات تشريعية استثنائية وفق برنامج متفق عليه ومحدد. والهدف من الانتقال ليس ترميم ما كان أو إنتاج صيغة متحوّرة منه، بل طيّ حقبة الخمسين سنة التي ساد فيها.
- الانتقال السلمي (ومن هنا شعار “فرض التفاوض”)، نقول إن الانتقال، في مواجهة كيانات هويتية قتالية، تتغذى من الصراعات وقابلة للعودة إلى الحرب إذا دعت الحاجة أو إذا أتى الإيعاز، لا يكون إلا سلميًّا، وذلك يعني التفاوض مع زعماء الطوائف، إنما التفاوض يتوجب فرضه.
- المخاطر والاقتدار (يعني “موازين القوى”)، نقول إن فرض التفاوض لا يكون إلا بتعديل موازين القوى، وميزان القوى نسبي وليس مطلقًا، وهو ينتج عن تقاطع اقتدار نحرزه وارتفاع المخاطر التي يستشعرها أركان السلطة. دواعي قلقهم متعددة وإن اختلفت وطأة كل منها بينهم: ضغط ناسهم الناتج عن الأزمة الاقتصادية، انقلاب رعاتهم عليهم أو إهمالهم لهم، انفلات التشنج العصبي الذي يحتاجون لتأجيجه وتحوله عنفًا، تأمين وراثة المتقدمين في السن بينهم ووراثة الزعيم-البطل تجربة صعبة لأن الوريث لا يستطيع مجاراة السلف البطل إلا بافتعال الصدامات…
برنامج حكومة المرحلة الانتقالية مقصل في منشورات الحركة. عناوينه هي التالية:
الإرساء النهائي للشرعية المدنية للدولة مع تعاملها الواقعي مع الطوائف بوصفها كيانات مجتمعية هي جزء موروث من واقعنا، إنما من دون أن تمسّ بشرعية السلطة. وذلك عبر:
- القيام بتعداد المقيمين من لبنانيين وأجانب، ثم المهاجرين اللبنانيين، وتحديد أقامتهم وأوضاعهم التعليمية والصحية والمهنية، خارج أي تصنيف إداري نسَبي أو طائفي، وبتعداد المؤسسات على اختلافها، وتنظيم قواعد المعلومات،
- وضع نظام مرجعي مدني للأحوال الشخصية يطبق على جميع المقيمين، لكنه يلحظ استبقاء الخيار للبنانيين، ولللبنانيين حصرًا، الانتماء إلى طائفة واتباع انظمتها، مع ما يرتب ذلك من تبعات على صعد عدة،
- وضع قوانين الانتخاب، حيث تكون الإقامة الفعلية هي القاعدة، وحيث يتوجب على المرشح اختيار تمثيله للمواطنين مباشرة أو عبر الطائفة، ويختار الناخبون الاقتراع لهؤلاء أو لأولئك، فتوزع المقاعد بين الفئتين بحسب خيار الناخبين، وتبقى المقاعد التي تعود للممثلين عبر الطوائف موزعة بينها وفق الأعراف،
- تحديد صفات فئات المقيمين والمهاجرين القانونية، مع ما ترتّب كل واحدة منها من حقوق وواجبات، ماليًا وضريبيًّا ومهنيًّا وعسكريًّأ، سواء بشكل إلزامي أو عبر اشتراط تعاقدي، وفق مصلحة الدولة وحاجاتها.
إعادة رسم الحدود بين الخدمات ذات الصفة السلعية والخدمات التي تشكل حقوقًا:
- تعميم التعليم الأساسي المجاني الإلزامي كحق اجتماعي وفق منهج موحّد ومع الحرص على التخالط الطبقي والطائفي، وتوجيه التعليم العالي والفني بما يخدم الحاجات الاقتصادية للبلد وليس لتصدير الشباب لأنه استثمار (الخسائر الحالية الصافية تفوق 10 مليار دولار سنويا) والتعاقد لذلك مع المؤسسات التعليمية بالكلفة الفعلية،
- تعميم التغطية الصحية الأساسية على المقيمين وتحديد مهام الضمان من جهة ووزارة الصحة من جهة أخرى ومقدمي الخدمات من أطباء ومستشفيات ومختبرات ومراكز عناية اولية.
اعتماد الخيارات المؤسسية المالية اللازمة لطيّ تجربة العقود الأربعة الماضية وإنهاء مسارها المدمّر:
- الخروج من الدولرة التي فرضت نفسها منذ أواسط الثمانينيات، واستعادة حرية التأثير عبر السياسات النقدية للتحكم بانحرافات الأسعار الداخلية النسبية وتأثيراتها على كلف المعيشة والإنتاج،
- إعادة الوساطة المالية إلى دورها المحتاج: تمويل حلقات الإنتاج والتوزيع من جهة، وتمويل الاستثمارات من جهة أخرى، مع فصل فئتي المصارف لناحية طبيعة موارد تمويلها وآجالها وأشكال تسليفها ومخاطرها، بعد التطبيق الفوري لقانون 1991 رقم 110 لإصلاح الوضع المصرفي وإنهاء للمهزلة-المأساة المستمرة منذ خمس سنوات.
حسم الخيارات القطاعية والاجتماعية، وهي تبقى محكومة بصغر البلد وبخسارة الموارد وبالانحرافات التي تراكمت لعقود على صعيد المؤسسات والقوى العاملة. لذا يتوجب اعتماد نهج واضح يرمي إلى تحقيق هدفين: توفير فرص العمل للبنانيين لوقف الهجرة وتحقيق التوازن في العلاقات الخارجية لوقف التسول والارتهان:
- القيام بالاستثمارات العامة الآيلة لخفض الكلف الاقتصادية الداخلية وحجم الاستيراد لا سيما في النقل والطاقة،
- إرساء نظام ضريبي لا يقتصر على جمع التمويل بأسهل الطرق بل يصمَّم لتأدية دور تحفيزي خدمة للمصالح الاقتصادية العامة فلا يعتمد مقاييس المحاسبة الخاصة كمرجع مطلق، فدفع الأجور وتدريب العاملين أو حملات الدعاية ومصاريف الحفلات والترفيه لا يجوز التعامل معهما وكأنهما أعباء متوازية التأثير على الربح، مثلًا، كما أن المبيعات الداخلية أو الصادرات لا يجوز التعامل معهما وكأنهما مداخيل متوازية التأثير عليه.
- انتظام عمل الإحصاء المركزي، استنادًا إلى تعداد المقيمين والمؤسسات، لإنتاج حسابات وطنية دقيقة ولتأمين مؤشرات مستمرة وسريعة تسمح برصد اقتصادي واجتماعي يوجّه السياسات العامة،
- إعادة الاعتبار للأجر، ليس فقط عبر تحسينه بل أولًا عبر تحصينه، وإنهاء مهانة بدلات النقل والمساعدات الاستثنائية وغيرها من البدع التي ارتضتها جماعة اتحاد العمالة العام، تأمينًا لمداخيل تؤمن الحياة الكريمة وتصحح النسبة الهزيلة للأجور في الناتج، وتوسع الطلب الداخلي بالتوازي مع ارتفاع الإنتاج.
- توسعة نسبة المشاركة في العمل، لا سيما بين النساء، عبر تعديل الدوامات والعطل المدرسية وتنظيم الأنشطة الترفيهية والفنية للأولاد، وإنما أيضًا بين أفراد القوى العسكرية للاستفادة من طاقاتهم الإنتاجية مع تدريبهم مهنيًّا،
- الإدارة العامة تحتضر، حوالي ربع الملاك فقط مشغول وغالبية الموظفين يتقدمون في السن وما من شاب أو شابة يقدم على الوظيفة العامة. واللا-دولة لا تحب الإدارة، لأن الإدارة هي أساس الدولة وركن شرعيتها. جل ما ترى فيها، عدا بعض المواقع التي توفر للزعيم مالًا أو قدرة على شراء الولاءات، بابًا للتوزيع، ولا سيما عبر التعاقد لأنه يؤمن الضبط والابتزازعلى المنتفع. الإدارة لا تطالب سلطة اللا-دولة بل تنازعها على الشرعية. تعزيز الإدارة وتحديثها وتجهيزها مهمة ذات أولوية.
تصحيح الانحرافات البنيوية في الاقتصاد بعدما تمادت لعقود يعني تغييرًا في المجتمع وتبدّلًا في مجالات العمل وفي المواقع الاجتماعية وفي المهن، وهو بالتالي يستدعي إجراءات للمواكبة، أبرزها، إلى جانب توسعة الحقوق وما ترسيه من شرعية للسلطة، وضوح القصد اي المشروع، ما يغلّب المقارنات المسارية للمواقع والطموحات على المقارنات الآنية، من دون إغفال أهمية التدريب المهني الذي تتولاه مؤسسات التعليم العالي بعد تصويب مهامها وأدوارها، بالتعاون مع المؤسسات الإنتاجية، لتصويب كفاءات القوى العاملة.
اعتماد سياسات خارجية مسؤولة: لبنان بلد صغير، سوقه الداخلية ضيقة، ومجتمعه مشتّت بين مواطنين مهاجرين وأجانب مقيمين توازي أعداد كل منهما أعداد مواطنيه المقيمين، وهو واقع ضمن إقليم ممزق ومستباح، وأطراف خارجية عدة، دولية وإقليمية، حاضرة فيه مباشرة وعبر رعاية أحزاب سياسية أساسية فيه لا بل رعاية مؤسسات عامة، وعبر افتعال أحداث أو استثارتها أو استغلالها. لهذه الأسباب، بات الخارج يشكل حلقة من حلقات السلطة الفعلية الثلاث في نظام اللا-دولة. أمام هذا الواقع، بات لبنان مضطرًّا، لتفادي تبدّده كمجتمع، أن يتعامل بفاعلية مع محيطه، والدعوات إلى الحياد وإلى الانكفاء عبر تحريف مقولات اللا-مركزية ليست سوى تعبير عن الاستسلام لهذا الواقع. التعامل الفاعل مع الخارج ليست مسألة خيار، فبقدر ما يتم التعامل مع المجتمع بواقعه، كداخل، يكون التعامل مع باقي العالم، كخارج. والفصل بين داخل وخارج هو بالتحديد ما تقوم به وما تقوم عليه الدولة. فالدولة، أية دولة، وقبل كل التبريرات الأيديولوجية، هي ترتيب موضعي، مكلف، ولا يخلو من المخاطر، لكنه يصبح ضروريًا أمام الحاجة. والحاجة، اليوم وههنا، ملحّة وقاهرة، بالنظر إلى تبدد المجتمع وعودة الصراعات بين الدول إلى الواجهة بعد أفول نتج عن القطبية الثنائية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ونظام الطوائف هو نقيض الدولة، وهو في الأصل مسعى للاستغناء عنها والاستعفاء منها.
تندرج الاعتبارات الأساسية التي تحكم السياسة الخارجية لدولة لبنانية تحت ثلاثة عناوين:
- اعتبارات تتعلق بالاقتصاد والتجارة الدولية: صغر السوق وضمور الطلب الداخلي يجعلان من أية زيادة في الطلب الخارجي رافعة حاسمة للاقتصاد. وتوسعة السوق من زاوية الإنتاج تسمح بالاستفادة من الوفور الحجمية وتسهل تصحيح الانحرافات المتراكمة والمتمادية في تخصيص موارده، من قوى عاملة ومن استثمارات. لذا هناك مصلحة أكيدة للبنان بتجنيد علاقات مواطنيه، لا سيما المهاجرين منهم، لتنمية قدرات مؤسساته الإنتاجية عبر انخراطها في الحلقات المجدية من سلاسل الإنتاج. وله مصلحة أيضًا في تجنيد طاقات المقيمين من غير اللبنانيين بقدر ما هي تلبي حاجات توازن قدراته الإنتاجية.
- اعتبارات تتعلق بالمجال: تحول لبنان تدريجيا من قطب اقتصادي في المنطقة إلى تابع لاقتصاديات دول الخليج، حتى بات يقوم على تصدير أبنائه والتسوّل الاستتباعي لاستبقاء حلقة استهلاكية تتّسع وتضيق حسب تقلب أوضاع الإقليم وعلاقاته به. إعادة التوازن إلى الإقليم تستدعي معاينة صريحة لتقاطع مصالحه مع مصالح السوريين بعد ما حل ببلادهم من تمزيق وعنف، وإنهاء تاريخ طويل من الاستعلاء السوري والاستعفاء اللبناني، بحيث يستعيد مربع بيروت-طرابلس-حمص-دمشق موقعًا محوريًا يقوم على تكامل مدروس للأدوار ضمنه. وثمة أسباب موضوعية إرساء علاقات تعاون مع كل من مصر والسعودية اللتين تواجهان، خلف شعارات متنوعة ومتقلبة، تحديات تطاول شرعية سلطاتهما واستقرار مجتمعهما.
- اعتبارات تتعلق بالشرعية والأمن: المشروع الصهيوني عدواني وديني وعنصري في أساسه، وقد نجح في تقويض شرعية كافة الدول في المنطقة، بدءًا بفلسطين طبعًا ثم لبنان. العداء اتجاهه خيار مكلف لكنه ضروري لحماية شرعية الشكل الوحيد المتاح للدولة في لبنان، أي الشرعية المدنية. إدارة العداء مكلفة ودقيقة، والبعد الأمني والقتالي ليس سوى جزءٍ، وإن ضروري، منها. المشروع الصهيوني أصيب في أساسه لكنه استشرس لاستبقاء حجته، اي شرعيته. وقد راكم لبنانيون في المناطق التي تعرضت خلال عقود للاعتداءات الصهيونية، من خلال تنظيم حزب الله قدرات عسكرية لم تحزها الجيوش العربية في أوجها. لكنهم مؤطّرون، أسوة بالغالبية العظمى من اللبنانيين، ضمن الأطر الطائفية التي تولّد بينهم الاندفاع بقدر ما تولّد عند الآخرين الابتعاد. هنا تبرز بالتوازي الحاجة لدولة والحاجة لطرح سياسي يؤطر العمل العسكري متى يكون ضروريًا. مثل إيران واضح في هذا السياق، وإن كانت الدولة في إيران تعتمد الدين ركنًا من شرعيتها، إنما لأسباب تاريخية قائمة في إيران، لكنها غائبة في لبنان. والحاجة ملحّة في فلسطين حيث ما زال يُتداول كلام غير بريءعن مأساة “مشروع الدولتين”، الذي لا يصيب المشروع الصهيوني في شرعيته العنصرية الدينية، بل يسعى للحدّ ولو قليلًا وقليلًا جدًّا من توسعه، ولذلك تم الإطباق عليه من قبل الصهاينة. الطرح لفلسطين هو دولة مدنية، وأول من يستطيع طرحه اللبنانيون، إنما بعد إرسائه في بلدهم، أقله من باب الصدقية.
في الصورة العامة، يتظهّر لبنان، ليس لرغبة أيديولوجية، بل لحاجة موضوعية، منطلقًا لمسار تغييري في المنطقة، فلسطين وسوريا والعراق، قوامه شرعية وظيفية مدنية للدول، بعد تحطم المشاريع القومية والدينية والقمعية على اختلافها. ذلك أن منطقتنا لم ترث، على عكس تركيا وإيران، أمبراطوريات، بل بقيت على هامشها. ولبنان لا يحوز أي فضل في ذلك، سوى أسبقية زمنية على الصعد كافة، التعلم، والنزوح من الريف، والهجرات، والانتقال الديمغرافي، والحروب الأهلية، وتسويات الهدن.
أضيعت فرص عديدة. كانت كلفة إضاعتها هائلة. محاولات التصحيح الإرادي، التنبيهات، ثم مساعي تنظيم قيادة تقوم بالتفاوض عند أوج التظاهرات، ثم الجهد لقلب مهرجان الانتخابات وخطة تنظيم السلطة الفعلية للاستعفاء وستر عجزها وقلق أركانها إلى منازعة على الشرعية عبر إعلان المجلس الوطني المدني… وشهدنا منذ أيام في نقابة المهندسين عودة جحافل الطوائف نتيجة أفعال نقيبين تغييريين أو بشكل أدق إحجامهما عن أي فعل.
الموارد تتضاءل لكن المخاطر تزداد. الحلقة المالية تعطلت، الإقليم يتفجر أمام أعيننا، والتغير الديمغرفي سوف يأتي بفعله. عودة لأزمنة الأفعال. ارتضاء الرداءة هو ارتضاء للتصفية، والتكيّف انهزام. تعديل ميزان القوى ضروري أولًا لوقف الانهزام، وهو من باب المشاعر. إظهار القدرة هو المحك، لقلب المشاعر.
نحن اليوم أمام مفترق. لذا أصارحكم، بدعوة كل من الحضور إلى الإسهام في المواجهة. ليست المسألة قلة موارد. المفارقة أن وفرة الموارد هي بالذات التي جعلت التصفية والتبدد يبدوان متاحين، المسألة هي في صيغ تأطير الموارد: الحزب طبعا صيغة للتأطير، أقولها من دون مواربة ورياء، إنما ليست الصيغة الحصرية أبدًا، وليس حتى مقصودًا أن تكون كذلك، فقد أسسنا الحزب لغاية محددة هي الإسهام في إدارة المرحلة الانتقالية كي لا نقف حائرين في خضمها. تأطير الموارد متاح تحت صيغ متعددة، ودعوة كل واحد للإقدام والمشاركة بإحداها كان القصد من هذه الجلسة:
- مقابل التبدد، وهو تبدد للمؤسسات، وعلى رأسها الإدارة العامة، الرد يكون بإنشاء تشكلات مؤسسية: جامعة لا تهدف إلى تصدير الشباب وإلى منح صفات وألقاب ومقامات اجتماعية تعفي من العمل العام ومن إنتاج الفكر، معهد فنون للموسيقى والرسم والتمثيل كي يُخاطب الناس بلغة الجمال العابرة لحدود شرذمتهم ويرسم حدًّا مع التسليع المقيت المتمادي، وإعلام لا يكون مجموعة طبولٍ لتنظيمات سياسية عاجزة إلا عن شد الأعصاب ولا منصات مأجورة لمشاريع خارجية….
- مقابل القلق والتخوّف والإحجام، الردّ يكون باعتماد الصيغ التعاضدية لقلب الخسائر إلى تضحيات مجزية، أي إلى استثمار، ولتكريس طمأنينة قادرة، أسوة بتجارب عالمية كانت في أساس نشوء النقابات، بدءًا من التعليم الرسمي ومن الإدارة، بحيث تستكمل تقديمات تعاونية الموظفين من خلال الصناديق التعاضدية فيحصّن التعليم الرسمي والإدارة. وإنما ايضًا في مختلف قطاعات الإنتاج، وفي الوساطة المالية أيضًا، حيث تحرّر علاقات رأس المال والعمل من المنطق التعارضي والقصير الأجل للرأسمالية التقليدية، فتترجم الالتزامات المتبادلة، نموذجيًّا، للعاملين، بأنهم يمتنعون عن الهجرة وعن ترك المؤسسة متى اكتسبوا الخبرة والعلاقات، ولمقدمي رؤوس الأموال وميسّري بلوغ الأسواق التصديرية بعدم اقتطاع مكاسب بشكل أرباح أو منافع شخصية وبعدم بيع مشاركتهم، وذلك طوال مدة ووفق شروط محددة، فتترجم هذه الالتزامات المتبادلة تشاركًا في المخاطر وإطالة للأمد الزمني لتخطّيها، وتنعكس بالتالي تخفيضًا لأعبائها ولمفاعيلها التعطيلية. وتستفيد المؤسسات التعاضدية من دعم فاعلين آخرين معنيين، أولها الجامعات والمعاهد التقنية حيث يقوم طلابها بالتحرك لفرض مشاركتها في الصيغ التعاضدية بحيث تخفّض أقساطهم وتؤجّل، ولو جزئيًا، تسديدها مقابل التزامهم بالبقاء في لبنان والعمل ضمن المشاريع التعاضدية وذلك حتى نجاحها.
- مقابل تفشّي مساعي التدبّر الفردي ومصاعب الحياة اليومية، ومقابل التطويق الذي تتولاه أدوات التكيّف على معارضيه، هناك حاجة لتوفير الدعم لصيغ التأطير التي أسلفنا، وذلك لا يكون بالانخراط في منظومات الإن جي أوز وأجندات مموليها ولا في تنظيمات الوجاهة وضمن ادعاءات الخبرة، بل عبر تنظيم الإسهامات المالية والعينية الطوعية، الواعية لغاياتها والمراقبة لأدائها، على خلاف الاقتطاع بالضريبة المفروضة وبالسرقات المتمادية.
هذه التشكلات المؤسسية والصيغ التعاضدية والاسهامات الطوعية ليست أبدًا بدائل عن الدولة أو استعفاء منها واستغناء عنها، بل هي على العكس تمامًا مؤسسات دولة فعلية، أي مؤسسات تتولى المهام التي تقوم من أجلها وعلى أساسها الدولة، بينما تتعايش السلطة مع تبددها لا بل تعتاش تبددها، وهي تهدف إلى استثارة نهضة بين العاملين في الخدمة العامة كي يعبّروا عن كونهم هم، وليس السلطة السياسية العاجزة والمستعفية، من يحملون شرعية الدولة، بانخراطهم في هذه المؤسسات وبسلوكهم الإجرائي اتجاه الناس. ذلك إلى جانب إظهار إمكانية المواجهة وجدواها، أي تعديل الصورة المقدرة، في أعين الناس، لميزان القوى.
آليات كل من الصيغ المذكورة تستدعي بالتأكيد شرحًا ونقاشًا، والرفاق هنا للقاء المهتمين بينكم بالتعرف عليها وبتطويرها وتسجيل أسمائهم وعناوينهم لتنظيم التواصل.
بعد كل الذي صار، ومواجهة لما يصير، هذا الذي علينا، وهذا الذي فينا فعله. كي نسوف رائحة مختلفة عن الأسن الطاغي ونشوف غير مشهد الخراب.
عنوان
مضمون