تأثير المنظومة السياسية على المرأة في لبنان: كيف تفرض الأزمة وحدة المعارك؟
غراس قسيس
نور كلزي (عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة)
نشر في مجلة كحل على هذا الرابط. ٢٦ تشرين الأول ٢٠٢٠
رغم قساوة وتسارع المعالم الآنيّة للأزمة الاقتصادية في لبنان، إلّا أنّ معظم آثارها على المدى المتوسّط والبعيد تبقى غير متجلّية. هذه الأزمة البنيويّة قلّ نظيرها في العالم وذلك لِجمعها أزمات عدّة، أهمّها عجز كبير ومتراكم في ميزان المدفوعات، ما عُبِّر عنه بـ”شحّ الدولار”.هذا الشحّ لم يأتِ نتيجة تغيّرات ظرفية – نقول مازحين – كهطول أمطار مفاجئة أثّرت سلبًا على تصديرنا للكاكاو بشكل استثنائيّ لهذا الموسم مثلاً، بل هي أزمة بنيويّة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنظام الاقتصاديّ، أتت متأخّرة بعد محاولات تأجيل عدّة لم يكن الهدف منها إلّا التأجيل نفسه، ما راكم وضخّم الخسائر. في ظلّ هذه الأزمة التي تهدّد المجتمع في عمقه، نحاول أن نستعرض واقع المرأة بشكلٍ خاصّ: كيف يؤثر نظام الاقتصاد الريعي على النساء وأعمالهن؟ لماذا تعدّ النساء من بين الفئات الأكثر تضرراً من الأزمة الاقتصادية الحالية؟ كيف حجّمت المنظومة الطائفية دور المرأة ومكانتها في المجتمع؟
المجتمع، نادرًا ما يُستعمَلَ هذا المصطلح في أدبيّاتنا العامّة من قبل المسؤولين عنه – أي السياسيّين والمُمسكين بالسلطة – سواء شغروا مراكز رسميّة ضمن مؤسّسات الدولة أو بفعل دورهم في النظام القائم. فالتعابير التي تُستَخدَم للدلالة على مجموعة من اللبنانيين ترتبط غالبًا بعباراتٍ فئويّة كـ”الشارع” و”البيئة” و”الجمهور” تُلصَق بها صفات طائفيّة في أغلب الأحيان، وفي أحسن الأحوال، يُصار الى استخدام تعبيرَي “الناس” أو “الشعب”. لكن تبقى كلمة “مجتمع” قليلة الظهور. المجتمع، وعلى الرغم من تعدّد المقاربات السياسيّة والاجتماعيّة التي تتناوله، هو مجموعة الأفراد الذين تجمع بينهم روابط إنسانيّة ومصالح مشتركة، ويخضعون الى سلطة واحدة تحدِّد وتضبط سلوكيّاتهم. قلّة استخدام عبارة “المجتمع” من قبل السلطة السياسية وممثليها تُظهر في عمقها مشكلة أساسية وهي أنّ هذه السلطة تتعامل مع مجموعات هي “الطوائف” و”العائلات الروحية” وتتجاهل المجتمع الفعلي، أي مجموعة الناس المقيمين في البقعة الجغرافيّة عينها والخاضعة الى نفس السلطة في واقعها. وهنا ننوّه أنّ وحدة المجتمع لا نعني بها وحدة الانتماء القوميّ أو الفكريّ أو العقائديّ، بل نعني وحدة الواقع الذي يفرض نفسه على جميع الأفراد. تجسيدًا لذلك، الأزمة الاقتصاديّة هي الواقع الواحد الذي يعيشه جميع المقيمين في لبنان اليوم. طبعًا، هذا لا يعني أنّ تبعاتها هي نفسها على الجميع.
تتوفّر في المجتمع الواحد فئات عديدة من الناس لا تعدّ ولا تحصى باختلاف المعايير الوضعيّة المختارة (العمر، نسبة التعلّم، المدخول…)، وما الجندر إلّا معيارًا من بين هذه المعايير. إنّ تقييم وضع فئة من الناس وبلورة دورها بهدف حمايتها يتطلّب وعيًا وخيارًا واضحين في المقاربة لتفادي الانزلاق في مقاربات فئويّة عصبيّة تشبه الانزلاقات الطائفيّة، التي لا تقسّم الناس إلّا من منطلق فئويّ عدائيّ. من هنا، ضرورة التنبّه إلى مقاربة وضع المرأة كجزء أساس من المجتمع، مصلحتها من مصلحة المجتمع ومصلحة المجتمع من مصلحتها.
وبما أنّه من عناصر تعريف المجتمع احتكامه إلى سلطة واحدة، وبما أنّ الأزمة التي نعيشها هي نتيجة حتميّة للبنيان الاقتصاديّ السياسيّ القائم على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، يصبح فهم عمق تأثير السلطة على وضع المرأة في السابق أمرًا ضروريًّا لتحديد دورها اليوم.
شكل السلطة السياسيّة في لبنان: السلطة السياسيّة في معناها الحقيقي هي ما يحدّد سلوكيّات المجتمع. الدولة، بعيدًا عن النظريات الايدولوجيّة، بالمعنى الوظيفيّ هي أداة لإدارة المجتمع وقد تكون اذًا شكل من أشكال السلطة. عند معاينتنا لواقع السلطة السياسيّة في لبنان، يمكن أن نجزم من دون ارتباك غياب الدولة الفعليّة: فطاولات الحوار، وتمديد ولايات المجلس النيابيّ، وقوانين تسوية الاعتداءات على الأملاك العامّة وغيرها من الممارسات ليست سوى أمثلة واقعيّة عن غياب مؤسّسات الدولة. ننوّه بأنّ تركيزنا على السلطة الواقعيّة – حتّى وَإن كانت تتعارض وتبتعد عن الأطر القانونيّة التنظيميّة – لا ينبع من رغبة لدينا بتجاهل هذه الأطر أو بعدم احترامها، بل لتكون معاينتنا للواقع دقيقة، إذ إنّ السلطة الفعليّة في لبنان هي بيد ائتلاف زعماء الطوائف وكبار المتموّلين، وقد ظهرت المعالم الاقتصاديّة لهذا النظام في أواسط الثمانينات وأُرسي سياسيًّا بعد انتهاء الحرب الأهلية في اتّفاق الطائف.
شرعيّة هذه السلطة: طرح سؤال الشرعيّة هو البحث في سبب ارتضاء الناس الخضوع إلى هذه السلطة التي تُمارَس عليهم. السلطة الطائفيّة المتحكّمة تعتمد لقيام شرعيّتها على توزيع المنافع من جهة والمتاجرة بالقلق من جهة أخرى. توزيع الثروات عبر قنوات الزبائنيّة الطائفيّة هو نظام هدر ونظام يحتاج إلى سيولة مرتفعة. من هنا، فإن خيار أن يكون الاقتصاد في لبنان اقتصادًا ريعيًّا يأتي خدمةً لهذا النظام السياسيّ نظراً لميزة الاقتصاد الريعيّ في خلق وَهْم الثروات. فتُسخَّر أدوات الاقتصاد الريعيّ لهذا المنطق السياسيّ وترسِّخه في الوقت عينه.
سلطة كهذه، تحكم العلاقات الاجتماعيّة، هي بتكوينها نقيضة لمبدأ المساواة بين أفراد المجتمع وفئاته. فهي أصلًا لا تنظر إليهم كأفراد ذوي حقوق ولا تنظر إلى مجموعة الأفراد كمجتمع، بل تراهم – نساء ورجال – رعايا ضمن الطوائف. إلا أنّ كلّ الفئات لا تتساوى في درجة اللامساواة. ولا يخفى على أحد أن تكون المرأة من الفئات الأكثر تعرّضًا الى هشاشة هذا الوضع.
من هنا، لابد من فهم عميق بأنّ التعامل مع وضع المرأة اليوم ليس على قاعدة صورة نلتقطها الآن، بل محاولة فهم الديناميكيّات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه. وبالتالي تُصبح المقاربة الزمنيّة ضرورة حتميّة وعمليّة مجدية لمعرفة كلّ من تأثير المنظومة السياسيّة الاقتصاديّة القائمة منذ أواسط الثمانينات على مكانة المرأة الاقتصاديّة أوّلًا، وعلى مكانتها الاجتماعيّة ثانيًا، لنتمكّن من تحديد دور المرأة في تغيير مسار الأزمة ثالثًا.
1- المكانة الاقتصاديّة للمرأة ضمن النظام الاقتصاديّ الريعيّ
الاقتصاد اللبنانيّ مركّب حول نظام ريعيّ قائم على قطاعين بقدرة إنتاجية محدودة أو حتى غائبة: قطاعي المصارف والبناء. هذان القطاعان يشكّلان الجزء الأساسيّ من الناتج المحليّ الإجماليّ (حجم القطاع المصرفيّ يشكل ٤,٤ أضعاف حجم اقتصاد البلد1). خاصيّتهما أنهما غير قادرين على ضخّ الأموال في الاقتصاد الحقيقيّ، أي لا يساهمان في خلق فرص عمل جديدة أو زيادة مشاريع الاستثمار. تكشف هذه النقطة السياقيّة صعوبة النظام الاقتصاديّ اللبنانيّ في خلق وظائف منتجة. هنا تبرز الزبائنيّة الطائفيّة، ومع قلّة فرص العمل، يتّجه زعماء الطوائف الى توظيف مكثّف في القطاع العام، كلٌّ لجماعته. إذا كان هذا التصرّف يحل مشكلة “فرص العمل”، إلّا أنّ مشكلة غياب الإنتاج المحلّي تبقى قائمة. الأمر الذي يجعل الاقتصاد اللبنانيّ يعتمد على الخارج لاستيراد المواد الأوليّة والمواد الإستهلاكيّة، حيث تصبح تلبية الحاجات الاستهلاكيّة المحليّة تعتمد إلى حدٍّ كبيرعلى التحويلات الماليّة من المغتربين. هذا التمويل يعزّز بدوره منطق الريع والاستهلاك، من دون تطوير القطاعات الانتاجيّة المحليّة وخلق فرص عمل، فينتج عنه موجات هجرة جديدة.2
الاقتصاد الريعيّ يتلاءم مع تغييب مفهوم الدولة المنوط بها الدور التنظيميّ. يُفترض بالدولة، عبر تحديدها لأطر النظام الاقتصاديّ، أن تساهم بشكل أساسيّ في تحديد هيكليّة المجتمع الفعليّ. بغياب خطّة سياسيّة واقتصاديّة واضحة، يصبح تحديد الديناميكيّات الاجتماعيّة متروكًا بطريقة عمديّة للمجال الخاصّ، الذي وعلى عكس ما هو مشاع، لا يتلاءم بالضرورة مع المصلحة العامّة. يقوم أفراد ومؤسسّات من المجال الخاصّ بتحديد إطار لعملهم من الممكن ألّا يتناسب مع أطر أُخرى ومع الوقائع الاجتماعيّة عمومًا. عدم اتّساق الرؤى وتعدّدها ما بين المؤسسّات المحليّة يؤدّيان الى دخول قطاعات ذات طابع حقوقيّ بامتياز كالتعليم أو الصحّة إلى منطق سلعيّ تنافسيّ.3
قلّة التوافق بين العرض والطلب تؤدي إلى خلل في تركيبة مجال العمل يتجلّى بنسب بطالة وبطالة مُزيّفة مرتفعة. هذا الخلل يؤثر على جميع الفئات الاجتماعيّة بخاصّةٍ الفئات الشابّة والنساء من بينها. تُتَرجم هذه الواقعة بزيادة المنافسة على الوظائف القليلة المتوفّرة. غالباً ما تُفَسَّر المشاركة المنخفضة للمرأة في سوق العمل ٢٧٪ مقابل ٧٣ % للرجال4– رغم زيادتها في السنوات الأخيرة – بتمييزها الجندريّ. إنّ منطق التمييز موجود بالتأكيد، ولكن احتساب المشاركة المنخفضة نسبيّاً حسب المعيار الجندري حصريًّا، قد يُشكّل استنتاجًا متسرّعًا يبعدنا عن الوقائع الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تُسلّط الضوء على الأوجه العديدة لعدم المساواة.
تجدر الإشارة إلى أنّ سبب عدم انخراط المرأة غير مرتبط بعدم أهليتها وكفاءتها. فبحسب أرقام إدارة الإحصاء المركزيّ، تُشكّل نسبة النساء من بين الجامعيين ٥٥% مقابل ٤٥% للرجال، وذلك للأفراد الذين يتابعون الدراسة في العام ٢٠١٢. المشكلة إذًا ليست بعدم كفاءة المرأة، بل ببنية نظام العمل اللبنانيّ الذي يفرض بشكل غير مباشر عوائق لانضمام المرأة إليه.
من جهة أخرى، تبحث المرأة في لبنان بشكلٍ عام، وبسبب غياب البنية التحتية التي يُمكنها دعم المرأة في خيارها بالعمل، عن وظائف محدّدة تسمح لها بأداء الدور المنسوب إليها في مجتمعاتنا أي ضمن الدائرة الأسريّة. تقع خياراتها في خانة الوظائف المستقرّة التي لا تطلب منها ساعات عمل إضافيّة أو سفر مثل التعليم أو الوظائف في الدوائر العامّة. في حال اختارت المرأة اللبنانيّة أن تعمل، تعود لمواجهة القيود المرتبطة بالدور الاجتماعي المفروض.5
إن غلاء المعيشة الذي يشهده لبنان منذ أكثر من ١٠ سنوات و بخاصّةٍ في السنين الأربع الأخيرة، يُصَعِّب على ما يعرف بـ “ربّ العائلة” تأمين الاحيتاجات المنزليّة اليوميّة بمفرده، ويتطلّب مشاركة المرأة في العمل. لكن حتّى في هذه الحالة، يتّضح أنّ أحد العوائق أمام عملها هو أنّ الكلفة الإضافيّة الناتجة عن خيار انخراطها لا تضاهي ما كانت توفّره عندما لم تكن تعمل (تكلفة البحث عن عمل، تكلفة النقل، تكلفة الرعاية النهاريّة للأولاد). إنّ التكاليف الضمنيّة المرتبطة بالاقتصاد المنزليّ التي لا تحتسب في الناتج المحليّ الإجماليّ، لا تتبلور ككلفة إلّا في حال اختارت المرأة العمل. في معظم البلدان الاوروبية، أعمال الرعاية هي إحدى الطرق التي تهدف إلى تسهيل عمل المرأة، أي تطوير بنى تحتية تدعم المرأة في خيارها بالعمل. على سبيل المثال، تمديد ساعات الدراسة للأطفال كي يتناسب مع دوام عمل الأم. طبعاً إنّ هذه السياسات تفترض أوّلًا وجود دولة على استعداد لمشاركة المرأة في تحمّل هذه التكاليف. هذا تمامًا نقيض الدولة التي تتكل على المرأة وتحمّلها هذه الأعباء؛ إذ إن بنية الاقتصاد اللبناني ومجال العمل في لبنان بعيدان كلّ البعد عن هذا المنطق، فحتّى الحضانة هي سلعة محصورة بفئة معيّنة وليست حقًّا لكل الأسر.
لذلك، فإن أساسيّات تحصيل حقوق المرأة الاقتصاديّة وانخراطها في العمل تتطلّب أوّلًا نظامًا اقتصاديًّا يخلق فرص عمل حقيقيّة وثانيًا بنى تحتيّة تسمح بأن يكون مردود عمل المرأة أكبر من الكلفة الناتجة عن خيارها بالعمل.
أهميّة عمل المرأة لا تنحصر على المردود المادّيّ لعملها، بل تتعدّاه لتُتَرجم في موقع مغاير وأكثر اتّزانًا ضمن العلاقات الاجتماعيّة.6 في حال لم تستطع المرأة أن تكون جزءاً من القوى العاملة وفي حال عدم قدرتها على الحصول على راتب، تبقى غير مستقلّة عن الرجل، سواء كان أباها أو زوجها. هذه الاعتماديّة – إن كانت طوعيّة أو ملزمة – تؤدي إلى فقدان التوازن في العلاقات الأسريّة والإجتماعيّة.
2- المكانة الاجتماعيّة للمرأة ضمن المنظومة الطائفيّة
غياب الدولة يتجسّد في موضوعين أساسيّين ذات تأثير مباشر على المرأة، وهما غياب تعداد المقيمين وموضوع القيد والنسب من جهة، وغياب قانون أحوال شخصية مدنيّ من جهة أخرى. ففي الحالتين، الدولة متنازلة إمّا عن إحدى أهم ّ أدواتها (التعداد) أو عن أهمّ أدوارها (تشريع وتأطير العلاقات).
أهمية موضوع القيد والنسب تتخطّى الواقع اللبنانيّ وتتعلّق مباشرة بأهميّة الحفاظ على المنظومات الاجتماعيّة. فمن خصائص المجتمع، أيّ مجتمع كان، أنّه لا يبقى جامدًا، حتّى اذا تجاهلنا الهجرات والنزوح، المجتمع يتبدّل ماديًّا بحكم دورة الحياة: هناك أفراد يموتون وأفراد يولدون، وكيلا ينتج عن هذا التبدّل المادّي للأفراد تبدّل لمنظومة العلاقات الاجتماعيّة القائمة، يصبح موضوع إدماج الأفراد الداخلين الجدد منذ نشأتهم أمرًا دقيقًا. في هذا الإطار تبرز أهميّة موضوع النسب، أي أن يُنسَب كلّ فرد منذ ولادته الى جماعة. كأغلب المجتمعات، يكون النسب للذكور، مع أنّ الإنجاب هو من قدرة النساء.7بناءًا على هذه القواعد، تُخلق مفاهيم جديدة تصبح هي السائدة عند الناس مثلًا: العائلات هي السلالات الذكورية.
خاصّية لبنان تكمن في غياب عمليّة تعداد المقيمين، ما يجعله أقدم بلد من دون عملية تعداد (تسعة عقود)، تليه دولة أفغانستان (أربعة عقود). غياب التعداد هذا أتى نتيجة خيار سياسيّ اتُخذ عام ١٩٤٦،8للتحكّم بالناخبين في أقلام تفرزهم بحسب طوائفهم وعائلاتهم، ما يسمح بضبط سلوكهم الانتخابيّ بدقة عبر “المفاتيح الانتخابيّة” ضمن كلّ عائلة أو فرع منها، ورصد أي شذوذ ضمن العائلة عن الولاء للزعيم. هذا الاختيار القصدي في تعزيز القدرة على ضبط السلوك السياسيّ مقابل فقدان أبسط وسائط إدارة الشأن العام (معرفة من يقيم في هذا البلد9) يترافق مع تكريس الأشكال الأسريّة والنسب. يُضاف الى ذلك فكرة صعوبة “نقل النفوس” التي هي أيضًا تجسيد لترسيخ الأسر (التي هي بحد ذاتها أطر سلطويّة) ضمن إطار سلطويّ أوسع.
أين المرأة في شكل السلطة هذه؟ في غياب تعداد المقيمين بحسب مكان سكنهم واقترانه بنظام القيد الحالي المرتبط بالنسب حسب تعداد سنة ١٩٣٢ مع ما ينبثق منه من ممارسات للحقوق، يستحيل للمرأة أن “تُحصى” إلّا بارتباطها برجل على قاعدة النسب الذكوريّ للأب أو الزوج. في هذه الصورة، تكون المرأة دائمًا غريبة. فهي، بالنسبة للأسرة الأوليّة موجودة معهم كاستعارة زمنيّة لأنّها سترتبط لاحقًا برجل، و بالنسبة للأسرة التي تنسب إليها عبر زواجها، فهي دخيلة. من هنا، يمكن قراءة كلّ حملات المطالبة بحقّها بإعطاء الجنسيّة إلى زوجها وأولادها على أنّها في عمقها محاولات مُحِقّة لتفكيك المنظومة القائمة الناتجة عن ترابط وتداخل كلّ هذه الركائز: ثبات مكان التسجيل مقيّدًا بإحصاء ١٩٣٢ حسب النسب الذكوريّ.
على صعيد آخر، يتجلّى غياب الدولة بشكل كامل في موضوع الأحوال الشخصيّة. فالمشرّع وبعدم سنّه القوانين الناظمة للأحوال الشخصيّة ترك الموضوع بين يدي السلطات الدينيّة الخاصّة لكل طائفة. وهذا تقصير مباشر. فالقانون وظيفته تنظيم الحقّ، وعدم تنظيم الحقّ هو تلكّؤ عن وظيفة الدولة. هذا التلكؤ وتغييب دور الدولة لم يأتيا بالصدفة بل جاءا ليعزّزا المنظومة الطائفيّة. غالبًا ما يُطرَح هذا الموضوع على أنّه اجحاف قوانين الأحوال الشخصيّة الطائفيّة بمضامينها الدينية الذكوريّة التي تظلم المرأة خصوصًا مع اقترانها بالمحاكم الدينيّة. مرّة جديدة، هذا الموضوع يتعدّى موضوع ما اذا كانت القوانين الروحيّة / الشرعيّة مجحفة بحقّ المرأة أم لا. القصد من هذا العرض هو توصيف الواقع كما هو، وعليه، فالقوانين الدينية تترجم نظامًا قيميّا معيّنًا، قد يناسب المجتمع أو ما يُعرف قانونًا بالارادة العامّة التي يجسّدها المشرّع. إلّا أنّ المشكلة الأساسية أكبر من مضمون هذه القوانين، بل هي مرتبطة بطبيعتها: شرعيتّها، بوصفها قوانين دينيّة، ليست مستقاة أصلًا من الإرادة العامّة، بل من ارادة إلهيّة. ما يمنع أصلًا امكانيّة البحث في مضامينها وتبديلها إذا لم تعد تعبّرعن الإرادة العامّة.
من هنا تترسّخ أهميّة وجود قانون مدنيّ للأحوال الشخصيّة. مع العلم أنّ القانون المدنيّ قد لا يعني بالضرورة حلًّا أمثلَ في مضمونه، فقد يكون مضمونه مجحفًا بنظر فئة معينة. القوانين المدنيّة لا تضمن بحدِّ ذاتها الخيارات الفضلى ولا تُجَسِّد النعيم، فالحياة ليست مسارًا مع نقطة وصول يفصل بين الجنّة والجحيم. الحياة صراع دائم والمجتمعات في حالة تبدّل دائم. إذًا أهميّة سنّ قانون مدنيّ للأحوال الشخصية ينبثق عن الدولة، تكمن في إعادة الصراع إلى ساحته الطبيعية أي الساحة التي تراعي ديناميكية تطوّر المجتمعات.
3- دور المرأة في تغيير مسار الأزمة في لبنان
إن الأزمة البنيويّة التي نعيشها والأخطار العميقة التي تحدق بنا في حال تقاعسْنا ولم نسعَ لتدخّلات إراديّة وحاسمة لبناء نظام سياسيّ واقتصاديّ بديل، سيكون لها تبعات كارثية على مختلف المستويات. وبغياب خيارات سياسيّة إراديّة لضبط مفاعيل الأزمة، ستفرض علينا مجريات الأحداث المتسارعة واقعًا جديدًا مأساويًّا، إذ إن عمق الأزمة وتخبّط المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي يمنعان أيّ تصوّر دقيق للنتائج التي ستترتّب عن ذلك.
في السيناريو الذي لا تُنّظم فيه خطّة بديلة (وهذا ما يحدث الآن…)، ستكون عواقب الأزمة على المدى المتوسط والطويل كارثيّة. ستحدث تبدّلات عميقة في المجتمع من حيث تراجع القدرة الشرائيّة والمستوى المعيشيّ والاختفاء التدريجيّ للطبقة المتوسطة. إنّ القطبيّة التي ستميّز التركيبة الاجتماعيّة اللبنانيّة ستُترجَم بعدم توفّر الحقوق الأساسيّة للأفراد والفئات المهمّشة بالإجمال: العمّال الأجانب، اللاجئين والمرأة. العنف والاضطرابات الاجتماعيّة ستُصبح القاعدة السائدة. زيادة معدّلات الفقر والأميّة ستعزّز التطرّف وستنعكس تراجعاً في دور المرأة، وستحرمها من بعض الانتصارات التي حقّقتها سابقاً. من دون أن ننسى أنّ معدّلات الهجرة ستتفاقم ولن يبقى في لبنان إلّا الذين لا يمكنهم المغادرة. تؤدّي هذه الواقعة إلى انحراف المجتمع في انعطاف خطير حيث التغيير يصبح مستحيلًا بسبب غياب القوى المفكّرة والمنتجة والمغيّرة. ومن المهم طرح هذه الحقائق كما هي لنتمكّن من تحديد سبل المواجهة.
انّنا في مرحلة انهيار كلّيّ للمنظومة الاجتماعيّة نتيجةً للأزمة، لكنّ الأزمة فرصة. إذا تعمّقنا في تعريفها هي لدغة عنيفة لا تُحتَمَل وتفرض استحالة الانتظار وواجب التصرّف السريع. أمّا في اللّغات الأوروبية ذات الأصل اليوناني “κρίσις“، فالمعنى أوضح: هي فعل اتّخاذ قرار. من هنا، وبما أنّ الأزمة ليست نهاية، فالتاريخ لا يعرف نهايات، بل مرحلة تبدّلات حتميّة تضعنا أمام خيارات، يُصبح الظرف – على صعوبته – فرصة ثمينة لإعادة ترتيب العلاقات الاجتماعيّة، خصوصًا أنّ الوضع الراهن في لبنان كشف عن منطق الهيمنة الذي يقوم عليه النظام السياسيّ الاقتصاديّ.
أظهرت تساؤلاتنا الأوليّة المتعلّقة بالمرأة عيوبًا اجتماعيّة واقتصاديّة وكشفت عن التداخل بين طبيعة العلاقات السياسيّة ومكانة المرأة في المجتمع. إنّ التساؤلات المرتبطة بالمرأة هي ذاتها التساؤلات عن التركيبة الاقتصاديّة والسياسيّة للمجتمع وتحتاج إلى إعادة التفكير بأسس هذا المجتمع و تكوينه. في مرحلة انهيار كلّيّ للبنيان، لن تُربَح معركة تحصين مكانة المرأة إذا اتخذت شكل معركة فئويّة تكون فيها كلّ فئة في صراع مع الفئات الأُخرى.
في هذه المرحلة، يتطلّب تحرير المرأة من القيود الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تواجهها نظامًا سياسيًّا واقتصاديًّا بديلًا قادرًا على تجاوز أي شكل من أشكال الهيمنة لبناء مجتمع أكثر تماسكًا وعدالة. الدور المطلوب اليوم من المرأة انطلاقاً من مصالحها الفئوية يبدأ بالضغط والنضال لتأسيس دولة فعليّة، دولة مدنيّة.
الدولة، بكونها أداة لإدارة المجتمع، هي حاجة ملحّة اليوم إذ أننّا في مرحلة توزيع خسائر، في مرحلة مفصليّة تتطلّب اتخاذ قرارات. الشرعيّة المدنيّة للدولة – على اختلاف المفاهيم والاختبارات التاريخيّة – هي الدولة التي لا وسيط فيها بين المواطن/ة وحقوقه/ا، وتكون شرعيّتها، بكلّ بساطة، مستقاة من قدرتها على القيام بوظائفها.
من هنا، وبما أنّ مرحلة الأزمة وكيفيّة إدارتها هي التي تحدّد مرحلة ما بعد الأزمة، تظهر أهميّة انخراط النضال النسويّ ضمن مشروع سياسيّ يكون فيه للمرأة إسهام حاسم في بلورة شكل سلطة جديدة يحفظ لها حقوقها.