احتياطي الذهب في لبنان: تضحيات الماضي وأمل الغد
حسين أيوب*
في خضم الانهيار الاقتصادي والسياسي الذي يعيشه البلد في ظلّ انعدام الأفق، وتحت وطأة اليأس الذي تملّك هذا المجتمع، متأثرًا بحجم مأساته العميقة مع سلطةٍ عاجزة، وحكومةِ لا قرار تبدّد الموارد والوقت، لا بدّ لنا من الحديث عن آخر ما تبقى لنا اليوم من ذخيرة لحماية المجتمع، ألا وهو الذهب.
لقد عمدت الدولة في خمسينيات وسيتينيات القرن الماضي إلى شراء كميات من الذهب من الأسواق العالمية، وكدّسته بغية تأمين تغطية فعلية لقيمة الليرة اللبنانية في حالات عدم الثبات الاقتصادي. لقد كان ميل الدولة اللبنانية آنذاك إلى تحويل فوائض الإيرادات لديها بشكل ممنهج إلى ما يسمى “مال الاحتياط”، أي الذهب، حيث إن قانون النقد والتسليف اللبناني قد نصّ في مادته الثانية أن سعر صرف الليرة اللبنانية يُحدّد بما يعادله مقدار معين من الذهب. إلّا أن هذه السياسة توقفت فيما بعد نظرًا لتغير النظام النقدي المعمول به عالميًّا، إذْ تخلّت الولايات المتحدة الأميركية عام 1971 عن نظام تبديل الدولار الأميركي بالذهب وفقًا لأسعار ثابتة (35 دولار للأونصة) في عهد الرئيس نيكسون، ما أفقد هذا النظام الأسس التي كان قائمًا عليها منذ اتفاقية «برتن وودز» لسنة 1944. بموجب ذلك، تحول الذهب إلى مجرد سلعة يتقلّب سعرها في السوق بكل حرية.
المصدر: مقال لفيفيان عقيقي في 9 تموز 2018 في جريدة الأخبار نقلًا عن مجلس الذهب العالمي.
بلغ مجموع ما راكمته الدولة من الذهب حوالَيْ 286.8 طنًّا، وفقًا لبيانات مجلس الذهب العالمي (WGC). فهو يحتل المرتبة العشرين عالميًّا والثانية عربيًّا مباشرةً بعد المملكة العربية السعودية. إلّا أن قيمة هذا الذهب متقلبة بحسب تغيّر سعر الأونصة في الأسواق العالمية. مثلًا، كانت قيمته قد بلغت 16.9 مليار دولار في صيف 2011، ثم انخفضت لتبلغ 10.12 مليار دولار في كانون الأول عام 2015. أي إنه فقد بالتالي أكثر من 40% من قيمته. لكنه عاد واكتسب جزءًا مهمًّا من قيمته عندما وصل سعر أونصة الذهب إلى مستويات قياسية عند 2070 دولارًا في آب 2020 على أثر جائحة كورونا.
الذهب المتراكم إذن، هو ثروة مهمة تبرز أهميتها يومًا بعد يوم، لكن كلفته لم تكن يومًا كلفة استثمارية فحسب؛ فهو لم يكن أبدًا وليد استخراج أو بيع لثروات طبيعية، بل كان عبارة عن تضحيات قدّمها أبناء هذا المجتمع على مرّ عقود. فالدولة التي أحجمت بعد الاستقلال عن استثمار فوائضها في شبكات الأمان الاجتماعي وبرامج التنمية أو حتى تحفيز القطاعات الإنتاجية، ولّدت حرمانًا قاسيًا، خصوصًا في بعض مناطق الأطراف في الجنوب والشمال والبقاع. ففي حين كان الذهب يتراكم كما نرى في المستند أعلاه، كانت بيروت تحتضن مليون ومئتي ألف لبناني من أصل مليونين وتسعمئة ألف؛ وكان حوالي 79% من اللبنانيين يتقاضون أقل من الحدّ الأدنى الكافي لتأمين المسكن والمأكل والملبس، مما ينعكس في التهرّب المدرسي ونقص التغذية. هذا الواقع أورث المجتمع تأثيرات سلبية بنيوية كبّدته خسائر جسيمة، تمثّلت أولًا بهجرة موجات واسعة من اللبنانيين واللبنانيات، ناهيك عن تفاوت عميق في مستويات المعيشة، وحالات نزوح كثيفة من الريف إلى المدينة. وثانيًا بتركز فادح للثروة والذي كان من أهم الأسباب التي دفعت بالمجتمع للانزلاق إلى حرب أهلية دامية.
بسبب هذه التضحيات اعتبر الذهب “الوصي الأسمى للشعب”، واكتسب بعدًا قدسيًّا الى حدّ دفع بحاكم المصرف المركزي الأسبق إدمون نعيم إلى إصدار تعاميم رسمية مختلفة لمنع اعتباره كأيّ عملة أجنبية عادية أو جزءًا من الأدوات المتاحة للتصرّف فقال: “الدولار للاستقطاب، أما الذهب فهو للوحدة وهو الحارس الأخير للشعب اللبناني، لم نفكّر ولن نفكّر بتحريكه طالما أننا نأمل في أن تستمر الحياة”.
إن هذا الذهب واحد من الموارد المتبقية كذخيرة لإدارة الانهيار والتأسيس لما بعد الأزمة. فالسلطة العاجزة قد بدّدت منذ بداية الأزمة ما يساوي قيمة هذا الذهب تقريبًا، وهي تسير بجموح وشراسة نحو تبديد أيّ مورد قد يمدّد أجلها المزيّف، ولو على حساب المجتمع. الذهب ليس القيمة الدفترية التي سوف نصرفها إنفاقًا على الاستهلاك كما تعتقد سلطة اللاقرار، بل هو الفرصة الحقيقية التي ستحول دون هجرة الكثيرين وستحفظ كرامة الناس بدل أن يتحوّل المجتمع الى متسوّل ذليل.
*عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة