ماذا يحضّر لطرابلس؟

يوسف وعبيدة تكريتي*

ماذا يُحضّر لطرابلس؟ لم يتغيّر هذا السؤال منذ انضمام طرابلس إلى دولة لبنان الكبير وخسارة دورها الاقتصادي، والثقافي والاجتماعي. واستخدام هذه الجملة قد يبدو بريئًا عندما تصدر على لسان الصحفيّين على اعتبار أنهم ينقلون ما يُتداول وما تملي عليهم موضوعيتهم! لكن تزداد وطأة السؤال حين تستخدمه الطبقة المتمايزة، بثقافتها المتخيّلة عن تاريخ طرابلس، ونسيانهم الدائم لعبثيّة الموت في المناطق التي لا يزورونها إلّا لتعزيز انتمائهم المزيّف إلى المدينة. يقع اللوم على هذه الطبقة “المثقفّة” لسببين: أولًا، لنفيهم دورهم كأفراد وشخصيّات عامة ووجهاء، بما يمتلكونه من مراكز ثقافية وأعمال خيريّة وجمعيّات غير حكوميّة. وثانيًا، لتخاذلهم في مواجهة خطر ما يمليه هذا السؤال من متخيّلات عمّا يُحاك لطرابلس من قبل “جهاتٍ مجهولة”.

بالطبع، ما إن تندلع أعمال العنف في طرابلس حتى تعلو الأصوات للقول بأنّ مثل هذه الأعمال لا تمثّل الوجه الحضاري لطرابلس. ويسقط الشهيد تلو الآخر حتّى تنتهي هذه اللعبة. ولكنّ الموت يبقى حقيقة لا تخفى على أبناء المدينة الحقيقيين، وترفع صورة الشهيد في أزّقة الأحياء للذكرى. من يقومون بأعمال العنف يُسمَّون دومًا بالطابور الخامس أو المندسّين أو المخرّبين، وينعتون بكلّ الصفات إلّا الفقر! لأنّه بمخيلة النُّخبة الحاكمة و”المثقفة” أنّ الفقير يأتي على شكل حمل وديع يجرّ عربة الخضار أمامه بحثًا عن لقمة عيشه. وينسَون أن العنف هو الأسلوب المنهجي لتعاطي السلطة مع كلّ المقيمين والمقيمات في طرابلس. يَظهر العنف جليًّا في وجهه الأشرس أمام كاميرات الإعلام على هيئة المتصدّين لبطش القوى الأمنية ورصاصها الحيّ بلحمهم الطريّ.

إنّ خبث السؤال عمّا يُحضّر لطرابلس ومنحى استخدامه عند رؤوس الشبكة الزبائنية، من سياسيّي المدينة ووجهائها، يأتي لتثبيت شرعيتهم الواهنة عبر بثّ الذعر والخوف في نفوس الطرابلسيين وغيرهم، وكأداةِ ضغط وتهديد غير مباشرة بقطع الخدمات التي يوزّعونها في المدينة من طبابة واستشفاء وكراتين إعاشة. نتيجة لهذا السؤال، تلجأ السلطة عبر الأجهزة الأمنيّة إلى مواجهة أعمال الشغب و”ما يُحضّر لطرابلس من جهة متخيّلة”، بالملالات والرصاص الحيّ ووابل من قنابل الغاز. وتَستخدم السلطة هذا العنف المفرط لتثبيت قدرتها على جعل المجتمع من مدنيّين وقوى أمنيّة ينصاع لأوامرها لتخيّلهم أنّ لديها قدرة تفوقهم. لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ هذا التصوّر يَنتج عن الظروف المادية التي تتمتّع بها العلاقة المجتمعيّة السلطويّة، ونقصد هنا العلاقة بين المجتمع والسلطة.

يحتاج عنف السلطة المفرط لأنْ يقترن بالشرعية التي يعطيها المجتمع له، أي استخدام العنف المضاد للحدّ من أعمال الشغب حتّى القتل، وإلّا كان غير مبرّر. فتُكتسب هذه الشرعيّة بموافقة الطبقة التي تكلّمنا عنها بالإيحاء أو التصريح بأنّ من يقوم بهذه الأعمال “الإرهابية” ليسوا من نسيج هذه المدينة، و”غريبون عن المنطقة”. وقد يقولون أيضًا إنّهم لاجئون سوريّون أو فلسطينيّون فلا مشكلة بإقصائهم، أو سجنهم، أو تعذيبهم أو حتى رميهم بالرصاص! وهذا لسبب أساسيّ وهو بعد الواقع عن المتخيّل وطبقيّة الصراع وطائفيّته؛ وعنصريّة مبرّرة تشمل كل أبناء الحارات الفقيرة من التبانة والقبة وضهر المغر وباب الرمل ومحرّم والميناء.

في أحداث العنف السابقة اجتمعت بعض نخب طرابلس واستنكروا إحراق مبنى البلدية وقاعة الاستقبال في المحكمة الشرعة، فكرّروا بذلك خطابات ميقاتي ودريان والحريري وباسيل في ذلك الوقت. وأعطوا مبررًا للقوى الأمنية أن تستلم الساحات وتملي عنفها المنظّم عبر الحواجز والتفتيش لكسر أيّ قدرة تنظيميّة للحراك. أما قنابل المولوتوف فقد أحرقت كلّ الأماكن الفارغة لما فيها من رمزيّة الأبنية للوحش الكبير، السلطة القاتلة. هنا، يجدرُ القول بأن ما نراه من عنف هو الوجه الأكثر وضوحًا عن المأساة التي يعيشها لبنان. لذلك فاستنكاره باعتباره أمرًا غير مألوف هو نكرانٌ للواقع وانجرار لخطابات السلطة. أما التهليل له دون نقد فهو تقاعس عن المسؤولية ودفعٌ باتجاه الأسوأ دون جدوى. فالعنف ليس هدفًا بحدّ ذاته، وإذا لم يكن مقرونًا بجدوى تؤطره وتستخلص منه نتيجةً سياسية، فهو يبقى احتجاجًا على وضع قائم لا يعدو ليصبح عملًا تغييريًّا أو ثوريًّا.

* أعضاء في حركة مواطنون ومواطنات في دولة