بيان: الحلقة المالية إلى الصف الأمامي للانقضاض على المجتمع
أتت حكومة ميقاتي-سلامة تعبيرًا عن تقدّم الحلقة المالية إلى واجهة السلطة، على حساب الحلقة الطائفية الأمنية العاجزة، مستظلةً بترتيب إقليمي جارٍ، ومراهنةً على يأس اللبنانيين ومستسهلةً تطويعهم، وطامحةً لتصفية أصول الدولة، بما فيها احتياطي الذهب، لتمويل مشاريع ريعية جديدة تديرها بالشراكة مع المصالح والمطامح الخارجية، مع منسوب منخفض من التوزيع ومع تهجير كلِّ من يستطيع الهجرة.
وكما المواجهة باتت أوضح وأكبر اليوم، كذلك على مقاومتها أن تكون أكبر وأشرس ومباشرة أكثر، ليتحمل مسؤوليته الشخصية كل مسؤول عن الجريمة الجماعية التي تُرتكب يوميًّا بحق المجتمع وكل مذعن لها. هذه المواجهة الكبرى التي تزداد صلافتُها بتيقّن أهل الحكم والمصالح المالية لانتصارهم في الجولات التي أعقبت الانتفاضة الشعبية في عام ٢٠١٩، لا تكون بشعارات تُعلّق على لوحات إعلانية ولا بالسكر في مهرجان الانتخابات (إن حصلت) والتي تديرها وتعلّبها هذه الحكومة، فيما المجتمع يتبدد. تبدأ المواجهة السياسية بدفع فئات المجتمع لأخذ خيار مقاومة عمليةِ السطو على ما تبقى من موارده ومستقبله. سنكمل سعينا، مع كل من بدأ يستشعر خطورة المرحلة وأبعادها، إلى تنظيم هذه المقاومة وتعزيز حظوظها، فإمّا المجتمع أو المنظومة.
في غياب دولة، خضع الناس لسلطة مركبة ومرتبكة قوامها: حلقة طائفية أمنية لا ترى مواطنين ومواطنات ولا مجتمعًا ولا تحسم خيارات ولا تعتمد سياسات مهما اشتدت حدة ضرورتِها، بل تبثّ القلق وتديره، وحلقة مالية لا ترى اقتصادًا، بل تبدع في صياغة الأوهام وفي إنجاز الصفقات وفي تصفية الموارد ضمن كازينو متجدد أزمةً بعد أزمة، وحلقة خارجية حاضرة دومًا ومرحّب بها، إذ لا داخل منفصلًا عن خارج في غياب دولة. ائتلفتْ هذه الحلقات الثلاث بعد الحرب بعد أن تزاوجت أدوارُها.
في ظل الاتفاق النووي الأميركي الإيراني خارجًا، وبإمداد من الهندسات المالية ومن وعود مؤتمر سيدر، تركزت التسوية الرئاسية بين زعماء الطوائف وحصلت انتخابات سنة 2018 وأتت حكومة “الوحدة الوطنية” لسعد الحريري. توجهنا في تشرين الأول 2018 إلى الحلقات الثلاث منبهين من دنو الأزمة المالية، لكن الانكار كان عارمًا وغالبًا.
حصل الانهيار المالي بعد سنة. كانت الحلقة الخارجية مبعثرة ومتعثرة ومتأزمة، فانقسم الزعماء الطائفيون تبعًا لانقسامها، بعضهم رأى في الانهيار فرصة لتعزيز موقعه الداخلي بدعم من “محوره” الإقليمي والدولي فادعى أنه ثوري وركّز هجومه على خصومه الداخليين، والبعض الآخر، انطلاقًا من قراءة متطابقة، اعتبر نفسه مهدَّدًا مع محورِه من قِبل مؤامرة خارجية، فقرر المواجهة. ولأنه كان يتهيّبها، قرر استعارة واجهة ليختبئ خلفها، فوجدها في حسان دياب وحكومته “التكنوقراطية”.
تغثّر حسان دياب وتكنوقراطيوه، لأنهم لم يستطيعوا تصور أنهم في موقع المسؤولية السياسية، فأعلنوا إفلاس الدولة واستعانوا بالمستشارين، الأجانب طبعًا، الذين وضعوا لهم برنامجًا لتوزيع الخسائر، تمهيدًا للتفاوض مع الدائنين، الأجانب أيضًا، ومع صندوق النقد الدولي.
ما إن هدد “حزب المستشارين” مصالح الحلقة المالية، مصرف لبنان وزبائنيته من المصارف، بتحميلها خسائر بلغت ثلاثة وثمانين مليار دولار (خُفضت اسميًّا في التقرير النهائي إلى تسع وستين)، حتى استشعرت حلقة زعماء الطوائف ضرورة التضامن مع الحلقة المالية.
فانبرت “لجنة تقصي الحقائق” التي ضمّت ممثلين عن زعماء الطوائف الستة، إضافة إلى ميقاتي، لتعلن أن لا خسائر (ما عدا عشرين مليارًا)، مطيحةً بحكومة دياب وبتوزيع الخسائر. بقيت حكومة دياب في غيبوبتها، من دون أن تفقه ما يحصل، بينما استفادت الحلقة المالية من خط الدفاع المنيع الذي حصنها لتنظّم أكبر عملية سرقة في التاريخ الحديث، عبر تعدد أسعار الصرف، والسطو على المدّخرات الخاصة والاجتماعية، وتبديد الموجودات بحجة دعمٍ ذهبَ معظمُه إلى عصابات المهربين والمحتكرين، بحماية زعماء الطوائف.
أمّا اليوم، واستكمالًا للنهج نفسه ودفاعًا عن المصالح نفسها، وبعد تلمّس زعماء الطوائف ترتيبًا إقليميًّا جديدًا بدأ يترجم بين بغداد ودمشق وتعاون مصري وإماراتي، تنازلوا عن خلافاتهم المحاصصتية ودفعهم عجزهم في الداخل وارتهانهم للخارج إلى ارتضاء تقدم الحلقة المالية إلى الصف الأمامي. بينما تتفاوض دول المنطقة، اختار زعماء لبنان تنظيم دورة جديدة من التسوّل من خلال حكومة ميقاتي-سلامة، والتي ستسعى أيضاً لتثبيت ما حققه تعاون الحلقتين السياسية والمالية خلال السنة والنصف الماضية من توزيع للخسائر على حساب المجتمع.
لن نتركهم يديرون تصفية المجتمع.