لبنان وصندوق النّقد الدولي: لكي لا يُقوَّض الأمن الاجتماعي
مقال لحسن شري، عضو حركة مواطنون ومواطنات في دولة، نشر في جريدة الأخبار بتاريخ 13-12-2021 على هذا الرابط.
لم تنفكّ أوساط المجتمع اللّبناني، مؤخّراً، تستحضر اسم صندوق النّقد الدّولي في إشارة إلى ضرورة استقدام حُزمة دعم مالي من المجتمع الدولي تُؤثّر إيجاباً في تصنيف البلاد الائتماني وتُعيد ثقة المستثمرين بالاقتصاد، فتُسهِم في الحدّ من تفاقم الأزمات الاجتماعية والاضطرابات في الاقتصاد الكلّي.
ومن نافل القول أنّ شرائح واسعة من المجتمع في لبنان لديها مخاوف من أيّ شراكة مُرتقبة مع الصّندوق، فهي ترى فيه مؤسّسة يطغى عليها طابع التّبشير بالسّلامة الماليّة، فتُروّج لمسار تقشّفي في الاقتصاد غالباً ما يُثقل كاهل ليس فقط ذوي الدخل المحدود، بل أيضاً الطبقة الوسطى التي تُمثّل القلب النابض للاقتصاد، والمحرّك الرئيسي للمجتمع كونها تلعب دوراً رئيسياً في تأمين التوازن الاقتصادي والاجتماعي، ووُجودها هو بمثابة قاطرة للتنمية والعدالة الاجتماعيّتَيْن.
على أن الدور المُناط بالصّندوق، والآثار الاقتصاديّة والاجتماعية المُترتّبة على الشراكة معه، غالباً ما تتّسم بالضبابيّة، وكثيراً ما يُساء فهمها.
اليوم، وبعدما أعلنت وزارة الماليّة اللّبنانيّة استئناف المفاوضات مع الصندوق من أجل التوصّل إلى اتّفاق من شأنه أن يُطلق العنان للدّعم المالي من المجتمع الدولي، لا بدّ من إطلاق نقاش حول ما إذا كانت المخاوف المُتعلّقة بهذه الشراكة مُبرّرة. فنظراً إلى المقاربة التقشّفية التي تتّصف بها برامج الصندوق، تجدر الإشارة إلى أنّ أكثر من نصف المواطنين والمواطنات في لبنان هم غير منضوين تحت أيّ مظلّة من مظلّات الحماية الاجتماعية. حتّى أنّ القوى العاملة التي يشملها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والصناديق التّابعة لنقابات المهن الحرّة ونقابة المعلّمين، هي باتت اليوم مُجرّدة من الحماية الاجتماعية، لا سيّما التغطية الصحيّة، بعدما شهدت الصناديق ذات الصّلة – أي المدّخرات الاجتماعية الإلزامية – إفلاساً نتيجة سطوة أصحاب المصارف عليها، وبمباركة من الحلقة الطائفية – أي أمراء الحرب والطوائف.
صندوق النّقد الدولي: ماهيّته والوظائف المنوطة به
أنشِئ صندوق النّقد الدولي عام 1944، في مؤتمر بريتون وودز جرّاء اتّفاق دولي حول إطار للتّعاون الاقتصادي في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، ويُمكن من خلاله منع تكرار كارثة الكساد الكبير التي وقعت في ثلاثينيّات القرن الماضي. ويهدف صندوق النقد بشكل أساسي إلى تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي من خلال تصحيح اختلالات موازين المدفوعات التي تتعرّض لها البلدان. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، يقوم الصندوق بجملة من المهامّ، أبرزها:
– أولاً، تقديم المشورة للدول الأعضاء بشأن السياسات الماليّة والنقديّة. وغالباً ما تتّخذ هذه المشورة شكل توصيات رئيسيّة في تقارير قطرية سنويّة يعدّها الصندوق.
– ثانياً، توفير المساعدة الفنّية للحكومات والمصارف المركزيّة في مختلف المجالات مثل السياسات الماليّة والنقديّة، وسياسات أسعار الصرف، بالإضافة إلى السياسات الضريبيّة، والإحصاءات الرسميّة.
– ثالثاً، تقديم قروض بالعملات الأجنبيّة إلى الدول الأعضاء التي تواجه عجزاً كبيراً في موازين مدفوعاتها، ونقصاً حادّاً في احتياطاتها من العملات الأجنبيّة الضروريّة للوفاء بقيمة ما تستورده من الخارج، والتي هي في الوقت نفسه تلجأ إلى صندوق النّقد بهدف الاقتراض بعدما تكون قد فشلت في الحصول على قروض جديدة من الدّائنين التجاريّين.
اللّافت هو أن المخاوف المرتبطة بالشراكة مع الصندوق تتعلّق تحديداً بالمهمّة الثالثة، أي التمويل. ذلك أنّ القروض التي تحصل عليها الدول المُقترِضة تأتي مشروطةً بحزمة من سياسات إصلاحيّة للاقتصاد الكلّي، يُصطلح عليها اسم برامج التثبيت والإصلاح الهيكلي.
منظور تاريخيّ لتطوّر المشروطيّة
توسّعت مشروطيّة صندوق النقد الدولي منذ إنشائه. ففي العقود الثلاثة التي تلت انتهاء الحرب العالميّة الثانية، حافظ الصندوق على درجة معيّنة من الحياد الاقتصادي. وكانت شروط الإقراض مبنيّة على اعتبارات ماليّة صرف وبعيداً عن أيّ مسعى لتعديل الأهداف الاقتصاديّة والاجتماعيّة للبلدان المُقترِضة. فعلى سبيل المثال، اشترطت قروضه إصلاحات محدودة ركّزت حصريّاً على التّخفيف من عجز الميزانيّة، وتحقيق استقرار سعر الصّرف. لكنّ الصندوق كان يُبقي للبُلدان المُقترضة حرّية اختيار السياسة الاقتصاديّة الملائمة، وأدواتها، لغرض الإصلاح.
غير أنّ الدّور الحياديّ للصندوق انقلب رأساً على عقب بعد انهيار نظام بريتون وودز في أوائل السبعينيّات. فمنذ ثمانينيّات القرن الماضي، أخذ الصندوق يوسّع نطاق مشروطيّته التي باتت تشمل طيفاً واسعاً من المجالات السياسيّة، منها تحرير علاقات العمل، وتحرير التجارة والقطاع الماليّ، وخصخصة الأصول المملوكة للدولة، بالإضافة إلى إعادة هيكلة النّظم الضريبيّة، والتشريع لاستقلاليّة البنك المركزي. وبذلك، فإن التمويل الخاص بصندوق النقد بات يحمل في طيّاته بُعداً سياسيّاً واجتماعيّاً.
مشروطيّة الصندوق في الدول العربية
اللّافت هو اتّساع نطاق المشروطيّة في المنطقة العربيّة منذ عام 2011. فقد بلغ عدد الشروط المرتبطة بتمويل الصّندوق للدول العربيّة بين عامَي 2011 و2014 نحو 331 شرطاً، فيما بلغت قيمة القروض لهذه البلدان 15.43 مليار دولار أميركي خلال الفترة الزمنيّة نفسها. ومن المُؤكّد أنّ عدد الشروط قد ارتفع أضعافاً في المرحلة التي تلت عام 2014، لأنّ دولاً عديدة في المنطقة، ولا سيّما المغرب ومصر والعراق والأردن وتونس، قد حصلت على قروض من الصندوق في عام 2016.
وإذا قمنا بفحص هذه الشروط، لوجدنا أنّها تشتمل على إصلاحات إلزاميّة في عدّة مجالات، في جملتها (انظر الرّسم البياني): خفوضات كبيرة في النفقات الحكومية، توسيع القاعدة الضريبيّة مع فرض ضرائب جديدة لا سيّما غير المباشرة منها، تحقيق الاستقرار في سعر الصرف مع تبنّي معدّلات فائدة أعلى. تحرير التّجارة من خلال إزالة الحواجز غير الجمركية، تحرير قوانين الملكيّة، إلغاء قيود علاقات العمل كما القيود الماليّة، وخصخصة الشّركات المملوكة للدولة.
لبنان وآفاق الشراكة مع الصندوق
بالعودة إلى الحالة اللّبنانيّة، إنّ اللجوء إلى صندوق النقد الدّولي من أجل معالجة تداعيات الأزمة الاقتصاديّة والماليّة غير المسبوقة، هو عبارة عن مغامرة غير معلومة النتائج. ذلك أن الموقع التفاوضي للبنان صعبٌ جدّاً، إذ لا يوجد فريق مُفاوض منسجم، ولا رؤية واضحة تحتكم إليها المفاوضات. ويعود ذلك إلى غياب تقديرات موحّدة للخسائر المالية وكيفية توزيعها على الفاعلين الاقتصاديّين. فما إعلان مصرف لبنان تحديد سعر صرف جديد للسحب من الودائع الدولاريّة بالليرة اللبنانية عند 8000 ليرة للدولار إلّا حلقة جديدة من مسلسل الخصم القسري للدين – أو ما يُصطلح عليه «قص الشعر» (Haircut) – المُستمرّ إلى حين أن يتم التوافق على أرقام واضحة للخسائر وكيفيّة توزيعها طالما أن المعركة الحقيقيّة تتمحور حولها.
ولم يكن لينجح أصحاب المصارف في تبديد المدّخرات الاجتماعية وأموال المودعين لولا وجود واقع قوامُه أن القيّمين على الشأن العام في لبنان يفتقرون إلى الجرأة والإرادة للتفاوض على حماية المجتمع ومنع تبديد موارد الدولة التي تعود ملكيّتها إلى الشعب.
يُقال: لربّما تضع المفاوضات لبنان أمام عمليّة تبادل غير عادل للأثمان. فما يحصل اليوم هو مؤامرة مُحكمة من قبل الحلقة المالية – أي أصحاب المصارف وحاكميّة المصرف المركزي – والحلقة الطائفية لتحميل الخسائر التي راكمها النظام المصرفي للماليّة العامة، فتأتي عملية تبادل الأثمان على حساب الناس.
انطلاقاً من هنا، ولكي لا تكون النتيجة تقويضاً للأمن الاجتماعي للمواطنين والمواطنات، فإن المرحلة الحاليّة تتطلّب وضوحاً في الرؤية والخطاب، وتقتضي الوقوف بصلابة بوجه ترويض المجتمع. وتستوْجِب المرحلة أيضاً مواجهة أي مسار تفاوضي لا يستثني القطاعات الأساسيّة، وخصوصاً التغطية الصحيّة والتعليم الأساسي، من مقتضيات خفض الإنفاق في إطار سياسات التثبيت والإصلاح الهيكلي. لذا، فإنّ أيّ شراكة مرتقبة بين لبنان وصندوق النقد الدولي لا تُراعي الأولويات المذكورة ستترتّب عليها في الغالب إشكاليّةٌ تتعلّق بتجريد المجتمع من أبرز حقوقِه ومن أهم مُقوّمات صمودِه، فتضع نفسها في حالة من الخصومة مع المجتمع ومعنا.