البرنامج السياسي لـ”مواطنون ومواطنات في دولة”، في معرض الانتخابات النيابية
٣ شباط ٢٠٢٢
لأن الزعامات الطائفية، بعدما انهارت الحلقة المالية التي تؤمّن شروط أدائها، وبعدما تلبّدت العلاقات بين الأطراف الإقليمية التي تنتسب إليها، باتت عاجزةً عن الاستمرار بإجرائياتها المعتادة، فسارعت إلى حماية الحلقة المالية وتحصينها ثم أطلقت يدها لترمم بنيانها على حساب المجتمع، واستدعت فيما خصّها نزاعات الإقليم بلهفة لتطويق الناس بالقلق والترهيب، فقد أحرزت هذه الزعامات الطائفية انتصارين أو خيّل لها: ترويض المجتمع ليتقبّل خساراته وتبدّده بالهجرة والتسوّل، بكلفة باهظة فاقت 15 مليار دولار أضيفت إلى الخسائر الهائلة المتراكمة، من جهة، وقلب جدول الأعمال لتغليب منطق الخوف على المآسي اليومية ولتبرئة كل طرف من مسؤولياته وإلقائها على الغريم الداخلي والإقليمي، من جهة أخرى. هذا ما أوصل إلى حكومة ثنائية الخارج والمال، ميقاتي وسلامة، وإلى تلطي الزعامات الطائفية وراء الحكومة لتنفيذ التكليف المزدوج: التفاوض مع صندوق النقد وإجراء الانتخابات النيابية، في رهان على استدامة سطوتهم، وإنتاج صيغة متحوّرة منها، وإن على حطامٍ وضمن قلقٍ مستحكم، وفي سعيٍ لكسب شرعية شكلية تتسلّح بها اتجاه الخارج، بينما يسعى هذا الخارج أو ذاك لإضعاف هذا التنظيم الطائفي أو ذاك لارتباطه بمحور إقليمي أو لتعزيز ذاك لارتباطه بمحور مقابل، توصلا إما إلى ترتيب قمعي أو إلى تفتيت نهائي للبلد، وفق ما تؤول إليه مفاوضات إعادة تقاسم المنطقة، من دون أن يهتم لا الزعماء الطائفيون ولا الخارج بمصير المجتمع والناس. لذلك، لا يصح اعتبار الانتخابات مدخلًا لتغيير النظام بل هي ساحة لمواجهة مساعيه، من خلالها، لإعادة تثبيت أسسه, سوف نخوض هذه المواجهة، في معرض الانتخابات، لتظهير البديل واضحًا، أي لتحديد الخيارات الإجرائية التي تتعهّد بها السلطة البديلة، ولتعديل موازين القوى وصولًا إلى فرض التغيير، ولفرض جدول أعمال الانتقال عوضًا عن الاستسلام والانتظار والاحتراب.
لأن الأزمة ليست قدرًا ولا هي نهاية التاريخ، بل هي النتيجة المحتومة ليس إلا، وإن تم تأجيلها بأكلاف باهظة، للنظام السياسي-الاجتماعي الذي رسا بنتيجة الحرب الأهلية، وقوامه تدمير المجتمع عبر استهلاك طاقاته، فإن هذه الأزمة هي بنظرنا فرصة، على قسوتها، لطيّ خمسين سنة من الضياع. ليس المطلوب ترميم ذلك النظام أو الانخراط في أدواره، حتى تلك الاعتراضية أو المطالِبة التي يتعايش معها، أو المراهنة على تطويره تدريجيًّا. فالظرف ضاغطٌ ويفرض القطيعة خيارًا واجبًا وإن كان كثيرون يتهيّبونها، القطيعة مع أركانه الساعين عمدًا لترميمه ببراعة وشراسة، على الرغم من قلقهم، وإنما القطيعة أيضا مع المنخرطين عفوًا في طقوسيات هذا الترميم. إضافة شهر واحد إلى عمر هذه السلطة سوف يكلّف شقاء سنين لتعويض الكلف الإضافية. قد يعتبر البعض رهان القطيعة صعبًا، لكن المفاضلة بين حجم التغيير المطلوب وحظوظ تحقيقه محكومة بالثمن الباهظ للوقت، فالوقت المتاح قصير قبل أن يصبح الظرف مفتوحًا على عقود من البؤس والندم. القطيعة مع أدوار السلطة جميعها يقابلها تواصل حثيث مع الناس كي ينتظموا في الأطر المتاحة لهم مجتمعيًا للمواجهة، كمجتمع مدني سياسيّ.
الالتقاء حول هذا الطرح، بركنيه، المواجهة والقطيعة، بصدقيّة، وبالأفعال، ومنذ الآن، هو المعيار الأوحد والشرط الواضح الذي نعتمده للتنسيق السياسي، في معرض الانتخابات، قبلها، وأثناءها وبعدها إذا حصلت، مع كل طرف، حزب أو مجموعة أو شخصية.
عليه، ينتظم طرحنا، في التموضع أولا، ومن ثم في الصياغة البرنامجية، وفق تدرّج في ثلاث محطات، التعامل مع عوارض الأزمة أولًا، وعنوانها الإفلاس وتداعياته المباشرة، ومعالجة السبب الرئيس لحصول الأزمة ولتمادي تفشّيها ثانيًا ، وعنوانه ترويض المجتمع وأسره، وتحديد العلاج المتاح لذلك السبب الرئيس ثالثًا، وعنوانه إرساء الدولة القادرة والواثقة. هذا التسلسل سببي وإجرائي معًا، وهو الذي يحكم تموضعنا.
- التعامل الصريح مع الإفلاس، بدل إنكاره وترك مفاعيله تتعاظم باستمرار، وبدل استغلال خسائر المودعين لتشليح الناس الأملاك العامة التي هي أملاكهم، بعد سرقة مدخراتهم الخاصة والتعاضديّة، وذلك عبر توزيع الخسائر توزيعًا عادلًا وهادفًا:
- يجب أن يكون توزيع الخسائر عادلًا، ولذلك يجدر:
- مجابهة الحلقة المالية، والإقرار بدايةً وكمدخل لا بدّ منه لحفظ الحقوق، بإفلاس المصارف التي تخلّفت عن الإيفاء بمتوجبّاتها التعاقدية، وإعادة هيكلتها قبل التفاوض مع الدائنين وكأنها منهم، مع تحميل أصحابها، على أموالهم الخاصة، وكلٍّ بحسب وضعيته المالية ومسؤولياته، تبعات إساءة الأمانة اتجاه المودعين، سواء بالعملات الأجنبية أو بالليرة أيضًا.
- التعامل السويّ مع المطلوبات، الفردية منها طبعًا، وإنما المدّخرات الجماعية الإلزامية للصناديق التعاضدية أولًا، أخذًا بالحسبان ندرة الأموال التي سوف تكون متوافرة لفترة زمنية بات أمدها أطول بنتيجة تبديد الموارد خلال السنوات الأخيرة قبل انفضاح الانهيار وإنما أيضًا وبالأخص منذ حصوله، فيحدد سقف للسحوبات بحسب غايات استخدامها الاجتماعية والاقتصادية، على أن تُحفظ الأرصدة المتبقية، بينما تحول نسبة من الأرصدة الأكبر والأكثر استفادة من الفوائد إلى حصص في ملكية المصارف المتبقية بعد إعادة هيكلة القطاع،
- إرساء فوري، في مقابل الإجراءات المالية، ولأن الخسائر لم تطل المدّخرات فقط، بل طالت كل عناصر الدخل والتقديمات الاجتماعية والخدمات العامة، لمنطق الحقوق الاجتماعية التي يستفيد منها المودعون وإنما غير المودعين، والاقتصاد عموما، وأبرزها التغطية الصحيّة الشاملة للمقيمين، مع العمل لتوفير صيغ تمويل خارجية للاجئين من بينهم، ومجّانية التعليم الأساسي، سواء عبر التعليم الرسمي أو عبر مؤسسات التعليم الخاصة التي تلتزم تعاقديًّا بمنهج تعليمي وطني موحّد وبالإقلاع عن آليات التمييز الطبقي والطائفي في قبول التلامذة.
- والأهم، يجب أن يكون توزيع الخسائر هادفًا، ولذلك يجدر:
- التيقّن أن الخسائر لا تكمن أصلا في المطلوبات بل هي في تبديد الموجودات المقابلة لها، وهذا ما يرتّب أولا الحرص على الموجودات المتوافرة والمستبقاة، ولا سيما الذهب وسائر الأملاك العامة، ويرتّب ثانيًا رفض الانجرار إلى المناورات المتصلة بآمال الاستفادة من الموارد النفطية والغازية، إذا وجدت، لأنها ترمي إلى تمييع القدرة على المواجهة، وثالثًا صدّ محدلة تبديد الموارد ومطامح السطو عليها، كما حصل مع ثلاث مئة مليار دولار خلال العقود الثلاثة الماضية، والاحتفاظ بها ذخيرة لإعادة تأسيس اقتصاد سوي، تكون أولويته تعظيم قيمتها الفعلية تباعًا وبشكل منتظم وتراكمي،
- وعليه، تولّي الدولة مسؤوليات وصائية خلال مرحلة التصحيح، إلى حين استتباب مؤشرات الأسعار والكلف، عبر تضييق حدود التسليع، وتوجيه الدخل المتحقق أو المقتطع عبر الضرائب، بأقصى قدر ممكن، صوب الاستثمار الانتاجي والطلب على الإنتاج الداخلي عوضا عن الاستيراد،
- استخدام ما تيسر من الموارد لتغيير الوسائط والتقنيات المستخدمة في إنتاج وفي استهلاك الخدمات التي تشكل مدخلات وازنة في عمليات الإنتاج وفي الاستهلاك النهائي، وذلك لخفض الكلف المعيشية والاقتصادية من جهة، ولتقليص فاتورة الاستيراد من جهة أخرى، وذلك تحديدًا في أنظمة النقل والطاقة، عبر تحويل أكبر قسم ممكن من انتقال الركاب إلى النقل المشترك ومن إنتاج الطاقة إلى أنظمة الطاقة المتجددة.
- إعطاء الأولوية لاستبقاء المقدّرات الإنتاجية وتأسيس اقتصاد سويّ، عبر إعادة تكوين رأسمال إنتاجي عام وخاص ومقاومة النزوع لتصدير القدرات البشرية عبر الهجرة، وذلك من خلال إعادة صياغة نظام ضريبي لا يكتفي بتكليف الاستهلاك والمداخيل بل يميّز، في كل منها، ما يعزّز الإنتاج والتصدير، وخفض الضرائب التي تطاله لا بل إعفاؤه منها، طبعًا بعد إلغاء السرية المصرفية التي تحول دون تطبيق نظام ضريبي عادل ومجدٍ،
- تصويب عمل الوساطة المالية خدمة لهذا الهدف نفسه، وذلك في سياق إعادة هيكلة النظام المصرفي،
- تركيز العمل الدبلوماسي على السعي لتوفير تسهيلات تجارية للصادرات وللاستثمارات الإنتاجية، يكون تأثيرها مضاعفًا بحكم صغر الاقتصاد الوطني وضمور القدرات الشرائية المحلية، وتجنيد قدرات المغتربين خدمةً لهذه الغاية،
- إرساء نظام يكافئ كل من يساهم، بعمله واستثماره، في بناء اقتصاد سوي ومجتمع مطمئن، ويجزيه جزاءً معنويًّا وإنما ماديًّا ايضًا، وذلك عبر تسجيل رصيد لصالحه يكون مستندًا إلى استعادة مؤشر الناتج الاجتماعي للفرد لمستويات مقبولة ومتصاعدة، في تعبير مباشر عن التزامه بتحويل الخسائر إلى تضحيات مجدية.
- الدفاع عن المجتمع، عبر كسر قيود ترويضه، ومصالحته مع ممارسة مسؤوليات السلطة، بوصفها ناظمة لعلاقاته وضرورة لحمايته:
- لو كان الجسم الأساسي للمجتمع معافًى لما ارتضى الحرب الأهلية، ولا الترتيبات التي واكبتها وأنهت شكلها المعلن لإحلال هدنة قلقة محلّه، ولا تعلّق بالإنكار لمآسيه ولتراكم المخاطر منذ أكثر من عقدين ونصف، ولا ارتضى الرشوة والتزلّف، ولا تقبّل الخسائر التي ألحقته به سلطة فاشلة عاجزة. لم يعد مقبولًا أن تبقى السلطة في نظر الناس أمرًا واقعًا خارجيًا مفروضًا، يتملقون لها إذا قويت ورأوا في تأييدها منفعة، ويعتدون عليها إذا وهنت ورأوا فيها مغنمًا وساحة غزو، متسلحين بعصبيات الطوائف والأنساب التي لم تكن يومًا إلا بديلًا عن شرعية السلطة ونقيضًا لها، وهي نقيضٌ أيضا، للمؤمنين بينهم، للإيمان الديني الذي لا يكتسب معناه إلا من كونه خيارًا فرديًّا واعيًا وحرًّا.
- بفعل واقع المجتمع اللبناني، والمخاطر التي تحدق به وبكلٍّ من أفراده، لا بل بكلٍّ من طوائفه وبكلٍّ من زعماء تلك الطوائف حتى، المستقوين منهم والمستضعفين، وكلّهم يسيرون على سنّة واحدة مجرّبة معروفٌ مآلها، وإن اختلف موقعهم الآني وفقها، لا يبقى من مجال في نظرهم لقيام سلطةٍ فاعلة إلا بترتيب خارجي، فيكون ذلك الترتيب ويبقى بالضرورة محكومًا بتقلّب ظروف الخارج واعتباراته. وهذا ما يتوجب تفاديه.
- في المقابل، بات المجتمع، بواقعه، وبتحوّلاته العميقة والمتسارعة، وبضيق المتخيّلات التي تحكمه، في حاجة فوريّة، وإن كانت مكبوتة، إلى إرساء شرعيةٍ واثقةٍ للسلطة، لأن استشعار السلطة لشرعيّتها هو ما يخوّلها اتّخاذ القرارات، بما تتضمّن حكمًا من مخاطرة، ويخوّلها أيضًا الرجوع عن الرهانات متى تبيّن خطؤها. ولا يمكن للسلطة في لبنان أن تستعير شرعية من مرجعياتٍ دينيّةٍ ولا عسكريّةٍ ولا عرقيّة، كما يحصل في غالب الأحيان، بل يتوجّب أن تكون شرعيّتها مدنيّةً، أي أن تُستمدّ من التزامها منطق الحقوق والوقائع، فتتعامل مع الطوائف ليس بإنكار وجودها، ولا باعتبارها مكوّنات للا-دولة فاشلة تزعم كل منها حيازتها شرعيّة مطلقة، بل كحالات مجتمعيّة تاريخيّة وظرفيّة، فلا يكون الانتماء إليها إلا خيارًا فرديًّا، وتقوم الدولة بحماية الذين يختارون الانتماء إلى دولتهم ليس بعلاقة مباشرة بل عبر واسطة الطائفة، من بعضهم البعض، لأن الطوائف كيانات دفاعية عدوانية في جوهرها.
- لا مجال بالتالي للتهاون مع أطروحات اللامركزية المتجددة. فاللا-مركزية مجرد صيغة من بين الصيغ التي تعتمدها الدول لتنظيم الأداء الإجرائي ضمنها، وهي ليست بالتالي لا جيدة ولا سيئة بالمطلق. منفعتها تستند إلى قرب المكلفين بالضرائب والمستفيدين من الخدمات ممن يتولون إدارة الأموال العامة وتأدية الخدمات العامة، لتعزيز اهتمامهم ورقابتهم. وهذا يفترض حكما توافر ثلاثة شروط: أن تقوم اللا-مركزية على المقيمين فعليا ضمن كل من الوحدات الإقليمية، وأن تكون هذه الوحدات متوازنة بين مواردها وحاجات سكانها، والأهم، أن تكون الدولة التي تتولى رسم السياسات العامة ومنها توزيع المهام ضمنها فاعلة وقادرة. ليس أي من هذه الشروط متحققًا اليوم ولا هو مطروح من قبل من يروجون للا-مركزية. طرح اللا-مركزية ليس اليوم سوى ركضٍ وراء سرابٍ خطير، لأن اللا-دولة الفاشلة الحالية ما هي أصلًا إلا كونفدرالية طوائف، والطرح يأتي سعيًا أو خدمةً لمأسسة النظام الفاشل مجاليًا وماليًا، وتكريسًا لزعم أن الأزمة سببها الآخر، عن خبث أو عن توهّم.
- تتم ترجمة هذا التوجه أولًا، عبر القيام بتعداد سكاني للمقيمين جميعًا، وللمغتربين اللبنانيين، بحيث يتمّ تعرّف المجتمع إلى واقعه لتتعامل السلطة المسؤولة معه على ما هو عليه، لناحية الإقامة والعمر والمؤهّلات، تبديدًا لأسر الأنساب والطوائف والمناطق الموهومة، وثانيًا، عبر اعتماد نظام للتمثيل السياسي ولتولّي المسؤوليات العامة يضع المرشّح والمواطن، عند كل استحقاق، أما خيار الانتماء المواطني المباشر أو الانتماء عبر الواسطة الطائفية، فيضبط، للذين اختاروا الواسطة الطائفية، توازن حصصهم منعًا لعدوانيتهم، فيكون الانتقال فوريًّا على صعيد شرعية السلطة، وتدريجيًّا على صعيد التكيّف الاجتماعي، ولا يبقى معلّقًا وفق الترتيب الذي وضع تحت ضغط الخارج لإنهاء الحرب الأهلية واستبقاء مفاعيلها، بين إلغاء مبهم لا يحصل وتعميق مستمر، وثالثًا، عبر نظامٍ موحّدٍ للأحوال الشخصية، يترك لمن يختارون الانتماء إلى طائفة ما ذات نظام خاص، الخضوع له، ما لم يتعارض مع مبادئ الانتظام العام.
- اقتدار الدولة وفتح الأفاق المتاحة أمام دولة لبنانية فعلية: الدولة هي الأداة الفاصلة بين مجتمع منكوب وإقليم ممزق، والحاجة للدولة اليوم مزدوجة وملحّة:
- ليست الدولة صيغة تلقائية ينتجها أي مجتمع فيسمى عندها شعبًا، ولا هي صيغة مشروطة بأداء دور وظيفي للبلد يتيحه الخارج ظرفيًّا، ويزيله. بل إن الدولة هي فعلٌ سياسي يقوم على تجرّؤٍ ومخاطرةٍ وكلفٍ. قوامها تجنيد إمكانات المجتمع، كل إمكاناته، للتعامل مع الخارج، كلّ الخارج، كساحات تأثير، فلا تستقدمه ولا تواليه ولا تعارضه اعتباطًا، ولا تنافق حياله، المقدرات المتاحة للدولة واللازمة لفعلها بشرية ومادية، ومنها السلاح، وسياسية، وهي الأهمّ، استنادًا إلى أسس شرعيتها الواثقة.
- الدولة، كل دولة، هي ترتيب مجالي محدود، وعلاقات أية دولة بالخارج محكومة بتقدير مسؤوليها لمصالح مجتمعها وقدراته. لا العداء عقيدة ولا الأخوّة، وكل ما بينهما. العداء موقف، وهو قرار أقصى يرتّب اعتماده تبعات جسيمة فلا يكون اتّخاذه مبررًا إلا لأسباب خطيرة، في مقدّمها صدّ تهديد مباشر لشرعية الدولة ولتماسك المجتمع. هذا بالتحديد ما يستدعي عداء الدولة اللبنانية للمشروع الصهيوني، بوصفه مشروعّا سياسيّا، قبل أن يتحوّل إلى دولة ويشكل مجتمعًا، وقوامه عدوانية منهجية تبرّرها مزاعم عنصرية ودينية.
- ليس لبنان، ككيان سياسي، محكومًا بخطيئة أصلية، فهو، مثله مثل الغالبية العظمى من الدول، قد نشأ بفعل الحروب وتقاسم رابحيها للأراضي والشعوب. ولا هو حائزٌ على امتياز حضاري وفرادة تحميانه جوهرانيًا. لكن المسار السياسي والاجتماعي الذي عاشه من حملوا جنسيته، على علاته، ولّد تكثّفًا واقعيًا بينهم. واللبنانيون لا يمتازون بصفات خاصة، وإنما لأنهم خبروا، قبل غيرهم، في المنطقة وفي العالم، تجارب العولمة والأمولة والتقوقع الطائفي والانتهازية الحذقة والمراوغة، ولأن هذه الخبرة كلفتهم الكثير، وأثبتوا خلالها عن إقدام يجاري التهور، فحققوا إنجازات لافتة، وإن فردية وفئوية، عجزت عنها مجتمعات أخرى، لذلك كله، يكتسب مشروع إرساء شرعيّة مدنيّة مجرّدة للدولة في لبنان بعدًا ووقعًا إقليميين وعالميين، بدءًا بالمحيط المباشر في سوريا التي يجري التفاوض على مصيرها والتي ترتّب الصيغة التي سوف ترسو عليها نتائج حاسمة على الوضع اللبناني اقتصاديًا واجتماعيًا، وفي فلسطين حيث الدولة المدنية تمثّل الرد على المشروع الصهيوني في أساسه. وذلك كله لأن ما خبره اللبنانيون، كحالة مبكرة وقصوى، قد اجتاح الإقليم وبات يهدد العلم بأسره.
- لأن إرساء اسس الدولة حاجة ضرورية وملحّة، ينطلق تطبيق المشروع البديل للا-دولة العاجزة من تأليف حكومة تتمتع بصلاحيات تشريعية استثنائية لفترة محددة ولتنفيذ البرنامج المعلن بكل بنوده.
لا، ليست الأزمة قدرًا ولا هي نهاية التاريخ، بل هي، على قساوتها، فرصةٌ لتأسيس مجتمع متماسك واقتصاد سويّ. المواجهة دقيقة وتتطلب تضحيات، لكنها مجدية ومجزية، أما تفويت الفرصة والتلهي عن أسباب الانهيار فهما مشاركة بالجرم. الأداء بائس، أيا كان الممثلون، النجوم الحاليون أو الطامحون للنجومية، على السواء، والمطلوب تغيير الأدوار والنص والمسرح، رأفة بالجمهور، كي يبقى جمهور، وليأتِ حينها إلى الخشبة من يرغب تمثيل هموم الناس ومن يقدر ويجرؤ على تحمّل أعبائه ومخاطره.