ما يجب أن يكون عليه «مصرف لبنان»
مقال نشر في ملحق رأس المال في جريدة الأخبار بتاريخ 4/5/2020 على هذا الرابط.
“هنالك ثلاثة اختراعات عظيمة منذ فجر التاريخ: النّار، والعجلة، والبنوك المركزيّة”.
- ويل روجرز، ممثّل كوميدي أميركي.
يشهد لبنان تصاعداً في وتيرة النقاش حول دور “مصرف لبنان” ووظيفته في السياق الاقتصاديّ والاجتماعيّ العامّ. وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على تطوّر الوعي الجماعيّ اللبنانيّ بأهميّة النقاشات الاقتصادية، وتأثيرها المباشر في حياة المواطنين والمواطنات، وفي رفاهة المجتمع. وبات اللبنانيّون يُكثرون أيضاً من استعمال مصطلحات من نوع “الانتقال من اقتصاد ريعيّ إلى اقتصاد منتج” للتعبيرعن مطالبهم. واللافت أنّ المطالب المطروحة تنمّ عن إدراك مجتمعيّ واقعيّ لمدى اختلال البنية الاقتصاديّة اللبنانيّة، وما يجرّه من تداعيات اجتماعيّة واقتصاديّة مقلقة، وخصوصاً على مجمل العمالة في لبنان.
إنّ المسح الأخير ل “إدارة الإحصاء المركزيّ” للقوى العاملة في لبنان – وتوزّعها بحسب الأنشطة الاقتصاديّة للعام 2018 – يشير بوضوح إلى انخفاض حصّة الزراعة مثلاً من مجمل العمالة في لبنان من حوالى 7.5 بالمئة في العام 2004 إلى حوالى 3.6 بالمئة في عامي 2018 و2019. وانخفضت كذلك حصّة القطاع الصناعيّ من حوالى 23.7 بالمئة في العام 2004 إلى 20.5 بالمئة في عامي 2018و2019، فيما ارتفعت حصّة قطاع الخدمات من حوالى 68.8 بالمئة إلى حوالى 76 بالمئة خلال الفترة نفسها. وإذا نظرنا – مثلاً – إلى حصّة العمالة في قطاع الصناعات التحويليّة (Manufacturing) الذي يتميّز بصفات خاصّة لقدرته على تأمين فرص العمل وإنشاء روابط معرفيّة وتكنولوجيّة مع سائر الأنشطة الاقتصاديّة الأخرى، وجدنا أنّ هذه النسبة في المسح المذكور قد انخفضت بشكل بارز.
يُمكن إذاً اعتبار بُنية العمالة في لبنان انعكاساً لبُنية الإنتاج التي لم يطرأ عليها أيّ تغيير هيكليّ إيجابيّ، بل على العكس، فالاقتصاد اللبنانيّ يعاني غياب أيّ تحسّن ملحوظ في الإنتاجيّة، حيث إنّ جلّ العمالة المستحدثة خلال العقد الأخير تأتي في إطار الأنشطة الاقتصادية ذات الإنتاجية المنخفضة مثل التجارة والبناء، في حين أنّ محاولات خلق فرص العمل في القطاعات الخدماتيّة ذات الإنتاجيّة المرتفعة نسبيّاً مثل الأنشطة المصرفيّة والماليّة، كما التأمين، وتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، تبقى محدودةً للغاية.
انطلاقاً من هذا الواقع، لا بدّ من التداعي إلى إطلاق نقاش واسع حول دور “مصرف لبنان” المطلوب في تحقيق التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وفي مقدّمتها أهداف التحوّل الهيكليّ، وزيادة التشغيل اللائق. لذا تطرح الأسئلة التالية نفسها:
ما هي وظيفة “البنك المركزيّ” بشكلٍ عامّ؟ وكيف يمكن توصيف دور “مصرف لبنان” خلال العقود الثلاثة المنصرمة؟ وهل يمكنه أن يؤدّي دوراً مركزيّاً في دفع عجلة التنمية الاقتصاديّة في المرحلة المقبلة؟ وما هي العوائق في سبيل قيامه بهذا الدور التنمويّ المطلوب؟
السياق التاريخيّ لوظيفة البنوك المركزيّة
في الحكمة التقليديّة أنّ المصارف المركزيّة هي الجهة الأساسيّة المناط بها تقرير السياسة النقديّة في البلاد، فهي تتحكّم في العرض النقديّ، وتقوم بتوسيعه أو تقليصه من أجل التأثير في متغيّرات الاقتصاد الكليّ وتحقيق أهدافه المرجوة، بما في ذلك تحقيق أهداف لجم التضخّم، والدّفع بعجلة النموّ الاقتصاديّ، وخلق فرص العمل.
ولإجراء السياسة النقديّة، يستخدم المصرف المركزي في الغالب أدواتٍ ثلاث. الأولى هي “عمليات السوق المفتوحة” (OMO)، حيث يقوم بعمليّة بيع وشراء الأوراق الماليّة بصفة عامّة، والسندات الحكوميّة بصفة خاصّة في السوق الماليّة، بهدف التأثير في العرض النقديّ وأسعار الفائدة. وتُعدّ هذه من الأدوات النقديّة الأكثر استخداماً في البنوك المركزيّة في العالم. والثانية هي “سعر الخصم” (Discount Rate)؛ وهي عبارة عن سعر الفائدة على الأموال التي يقرِضُها البنك المركزيّ إلى البنوك التجاريّة التي تواجه نقصاً في النقد المتاح من أجل تغطية احتياجاتها من السيولة. وبهذا، يبقى البنك المركزيّ – الذي هو بمثابة “بنك البنوك” – مستعدّاً دائماً لإقراض البنوك التجاريّة من خلال نافذة الخصم. ومن خلال عملية الإقراض هذه يؤثّر “المركزيّ” في مستوى الاحتياطيات في النظام المصرفيّ، وبالتالي في قدرة المصارف على خلق النقد. وأمّا الأداة الثالثة، فهي نسبة الاحتياطي الإلزامي النقدي (Reserve Requirement Rate)، وهي نسبة من إجمالي الودائع التي يتوجّب على المصارف التجاريّة الاحتفاظ بها لدى البنك المركزيّ دون فوائد. ومن خلال هذه الأداة، يتحكّم “المركزيّ” بمقدار الودائع المتاحة للإقراض، أو التي يتوجّب الاحتفاظ بها كاحتياطيات إلزاميّة.
بالإضافة إلى هذه الأدوات الثلاث، يتسنّى للبنوك المركزيّة أن تستخدم أدوات أخرى مثل: تخصيص الائتمان لبعض القطاعات (الاستراتيجيّة أو الواعدة)، أو تحديد متطلّبات رأس المال – وهو مقدار رأس المال الذي ينبغي أن يتوافر لدى البنوك التجاريّة أو المؤسّسات الماليّة الأخرى لتجنّب التعسّر أو الإفلاس – أو حتّى التدخّل في أسواق سعر الصرف.
وهنا نلفت إلى أنّ المؤرّخين الاقتصاديّين يُجمعون على الدور المهمّ الذي أدّته البنوك المركزيّة في الدول المتقدّمة كبريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية واليابان، وكذلك الولايات المتّحدة الأميركية، في إعادة هيكلة اقتصاداتها وبنائها في أعقاب “الكساد الكبير” و”الحرب العالمية الثانية” اللذين ألقا بثقليهما على هذه الدول، وعلى العالم أجمع، في الثلاثينيّات والأربعينيّات من القرن الماضي. في هذا السياق، يذكُر جيرالد إبشتاين في ورقته “البنوك المركزيّة كوكلاء في التنمية الاقتصاديّة” أنّ أدوار البنوك المركزيّة هذه شملت توفير الاحتياجات الاجتماعيّة، وذلك بالتعاون مع الحكومة غالباً. وهو يشير أيضاً إلى أنّه حتّى في البلدان النامية، كانت البنوك المركزيّة أكثر فاعليّة في التنمية الاقتصاديّة، فقد استخدمت هذه البنوك – وفي مراحل متعدّدة – مجموعة متنوّعة من التدابير الرامية إلى تحقيق الأهداف الاقتصاديّة والاجتماعيّة لبلدانها. ومن ضمن هذه التدابير تمويل “المركزيّ” للحكومات، وإدارة الائتمان وتوجيهه وفقاً لِمتطلّبات التطوّر الاقتصادي، وتقديم الإعانات المباشرة التي تستهدف قطاعات معيّنة. وعلاوةً على ذلك، فقد شرعت المصارف المركزيّة تاريخيّاً بإدارة العملات الأجنبية خدمةً للأهداف الوطنيّة، حيث ارتكزت سياساتها على فرض ضوابط على رأس المال، وعلى حركة رؤوس الأموال الدوليّة (Capital and Exchange Controls).
وفي سياقٍ متّصل، يذكُر أناند تشاندا فاركار في ورقته البحثية “الأدوار الترويجيّة للبنوك المركزيّة في البلدان النامية” أنّ بلداناً عديدة، وبخاصّة اليابان وكوريا الجنوبية وإيطاليا وهولندا والسويد، قد قامت بمنح الائتمان المباشر للصناعات والمناطق المتخلّفة تنمويّاً، وكذلك للشركات الصغيرة في مراحل التصنيع المكثّف.
على أنّه، وبرغم الأهميّة التاريخية لهذا الدورالتنموي للبنوك المركزيّة، فإنّه أخذ يتضاءل بدءاً من أواخر سبعينيّات القرن الماضي، حتى أنهته البنوك المركزيّة جميعها تقريباً، أو هي قيّدت بشدّة استخدام الأدوات النقديّة في عملية تحقيق أهداف التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وواكب هذه الحقبة بروزُ النموذج النيو- ليبرالي بكامل قوّته، وقد أرسى نهجاً جديداً للبنوك المركزيّة، حيث حصر وظيفتها بتأمين الاستقرار الماليّ والنقديّ. وينطوي هذا النهج على مكوّنات رئيسيّة أبرزها: استقلاليّة البنك المركزيّ (Central Bank Independence)، والتركيز على مكافحة التضخّم، والتحكّم بأسعار الفائدة، مفترضاً أنّه بمجرد تحقيق استقرار الأسعار، فإنّه سيتم تحقيق النمو الاقتصاديّ وخلق فرص العمل.
“مصرف لبنان” ومقتضيات التنمية الاقتصاديّة
لا يمكن فصل الوظيفة التي مارسها “مصرف لبنان” منذ تسعينيّات القرن الماضي عن السياق النظريّ والتطبيقي النيو-ليبرالي لعمل البنوك المركزيّة، فقد اقتصر دوره طوال عقود ثلاثة على تأمين الاستقرار النقديّ، ثمّ على مكافحة التضخّم وإن بنحو أقلّ. وبذلك، تمّت عمليّة تجريد السياسة النقديّة من السياق الاقتصادي والاجتماعي الكائن بشكل كامل، فباتت وظيفته – وبطريقة ميكانيكيّة صرف – تقتصر على تحديد حجم العرض النقديّ بما يتناسب مع هدف تثبيت سعر صرف الليرة للدولار.
إنّ لبنان يُواجه اليوم أزمة مزدوجة تتمثّل بالتعسّر الماليّ وانهيار سعر الصرف من جهة، وتفشّي جائحة كوفيد-19 وما يترتّب عليها من انكماش اقتصادي غير مسبوق من جهة أخرى. وعنصرا الأزمة المزدوجة كلاهما يعترض مسار نهوض البلاد وإحقاق التنمية. وتُشكّل هذه الأزمة تحدّياً جدّياً لصانعي السياسات الاقتصاديّة في لبنان، وهو الاضطرار إلى المقايضة بين مقتضيات الحدّ من التضخّم من جهة ومقتضيات التنمية من جهة أخرى، بما في ذلك تحفيز النموّ والتشغيل. أمّا الأسوأ فهو أن تتّجه السياسة النقديّة في لبنان، وتحت الوصاية المرتقبة ل “صندوق النقد الدولي”، إلى التركيز بالكامل على تعزيز الاستقرار الماليّ والنقديّ على حساب ضرورات التنمية. من هنا تبرز ضرورة أن يقتدي “مصرف لبنان” بالتجارب التاريخيّة للبنوك المركزيّة في الدول الصناعيّة والنامية على حدٍّ سواء فيحذو حذوها، لا سيّما أنّ هنالك أمثلة أظهرت نجاحاً في التوفيق بين الاستقرار المالي والمساهمة في التنمية، وذلك من خلال إطلاق العنان للأدوات النقديّة في طيفها الواسع، بالإضافة إلى التنسيق الواسع النطاق مع الحكومات لناحية مواءمة السياسات الماليّة والنقديّة.
لا شكّ في أنّ هناك عوائق أمام “المصرف المركزي اللبناني” للقيام بدور تنمويّ في خضمّ الأزمة المزدوجة. ناهيك عن مواجهته الضغط الناشئ من التجاذبات السياسية، الداخلية منها والخارجية، فلبنان بلدٌ فيه اقتصادٌ مُدَوْلر (Dollarized). ويُشير ارتفاع معدّل الدّولرة إلى زيادة الطلب من قبل المودعين على الدولار الأمريكي أو العملات الأجنبية الأخرى، يُقابلُه انخفاض في الطلب على الليرة اللبنانيّة. لقد بلغت نسبة ودائع القطاع الخاصّ في المصارف التجاريّة، والمقوّمة بعملات غير الليرة اللبنانية، حوالى 78 بالمئة من مجمل ودائع القطاع الخاصّ في شباط 2020، وهذه تُعتبر من المعدّلات المرتفعة جدّاً (انظر الرسم البياني). وفي الاقتصادات المُدولرة، تَفقِد السياسة النقديّة الكثير من فاعليّتها لجهة تعزيز النمو الاقتصادي، والتشغيل، والاستقرار الماليّ. ويعود ذلك إلى صعوبة قياس العرض النقديّ المكوَّن من العملة الأجنبيّة، وبالتالي عدم قدرة البنك المركزيّ على إدارة هذه الكتلة النقديّة لغايات تنمويّة. وهنا تكمن أهمية أن يقوم “مصرف لبنان” بحسن إدارة الانتقال نحو اقتصاد أقلّ دَوْلرة، تُمكّنهُ من استرداد السيادة النقديّة، وحسن استخدام أدواتها في خدمة الأهداف التنمويّة.
المصدر: حسابات الكاتب استناداً الى قاعدة بيانات بنك بلوم للاستثمار.
في الختام، لا ينبغي أن يتخلّى “مصرف لبنان” تماماً عن سياسة التنمية، بل عليه أن يسعى لسياسة نقديّة تتناسب مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. ولا بدّ أن تكون أهداف المصرف متعدّدةً، وتشمل: الحدّ من الفقر، وخلق العمالة اللائقة، وتحفيز النموّ الاقتصاديّ، بالإضافة إلى هدفه في تحقيق الاستقرار الماليّ والنقديّ. ولكن لتحقيق هذه الأهداف المتعدّدة، يحتاج “مصرف لبنان” إلى توظيف السياسة النقديّة بطريقة مختلفة، حيث يقوم بتنسيق سياساته عن كثب مع السياسات الحكوميّة في إطار خطّة نهوض اقتصادي وتنمية اقتصاديّة واجتماعيّة. وهذا الدور التنمويّ المنشود لا ينبغي أن يُفهَم على أنّه مزاحم لِدور القطاع المصرفيّ التجاري، بل هو عامل مساعد للعبور نحو اقتصاد أكثر إنصافاً وعدالةً.
حسن شرّي، أستاذ جامعي في علم الاقتصاد