مراجعة كتاب/تقرير « الدولة، بين ملك أفراد وقضايا مجتمع »

نشرت هذه المراجعة في “منتدى الاقتصاديين العرب” بتاريخ 30/3/2022 على هذا الرابط.

سمير العيطة

تشكّل قضايا « المُلكيّة » قضايا أساسيّة في بلادٍ يُعيق « الريع العقاريّ » نموّ اقتصاداتها ويتمّ فيها التعدّي بشكلٍ سافرٍ على الأملاك الخاصّة كما على الأملاك العامّة وتعجز فيها الدولة على تأطير تنظيم المدن والأقاليم ومجالات الأراضي. هذا عدا الدمار الذي ينتُج عن الصراعات المسلحّة وصفاقة مشاريع إعادة الإعمار المصمّمة لصالح أقليّة على حساب المجتمع. علماً أنّ عجز الدولة هذا هو أحد المسبّبات الأساسيّة للصراعات الاجتماعيّة.

كما أنّ الأزمة المالية اللبنانيّة طرحت في صلب الصراع السياسيّ قضيّة « بيع أملاك الدولة لتعويض الخسائر ». فبدل توزيع هذه الخسائر بشكلٍ عادل بين المجتمع والمصارف، يُضاف إلى تحميل المجتمع جزءاً ملحوظاً من الخسارة حتّى اليوم عبر انهيار أسعار الصرف والتضخّم وشطب المصارف للودائع، تحميله جزءاً كبيراً آخر عبر تبديد أملاك الدولة، التي هي أيضاً ملك المجتمع.

يُلقي الكتاب التقرير « الدولة، بين ملك أفراد وقضايا مجتمع » الذي أصدره حزب « مواطنون ومواطنات في دولة » ضوءاً جديداً على هذه القضايا ويتخطّى بعيداً الطروحات المتناثرة اليوم حول الإسكان والأرض والملكيّة (ما بات يسّمى HLP, House, Land and Property بتوصيف المانحين الدوليين ومراكز الأبحاث وحتّى المجتمع المدنيّ). إذ أنّه يطرح قضيّة « المُلكيّة » (وكذلك حقوق الاستخدام والتصرّف) على أنّها جوهريّاً نظام للعلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة ضمن البلاد تؤطّره الدولة عبر القوانين، أي أنّها في صلب الصراعات الاجتماعيّة والعلاقة بين المجتمع والدولة، أي في صلب علاقات السلطة والاقتصاد السياسيّ. بل أنّها تنتُج عن تاريخ هذه العلاقات والصراعات. بالتالي يأتي الكتاب التقرير ليطرح نزاعاً سياسيّاً أكاديميّاً حول مفاهيم « المُلكيّة » وأصولها وشرعيّتها.

بالتالي، لا معنى أن يكفل دستور لبنان « المُلكيّة الخاصّة » وحدها (المقدّمة الفقرة و) وأنّ الملكيّة في حمى القانون لا يجوز نزعها إلاّ لأسباب المنفعة العامّة (المادة 15)، دون الخوض في تفاصيل الملكيّة الخاصّة والعامّة وحقوق التصرّف فيهما. كما لا تكفي الإشارة، كما في الدستور السوري 2012، أنّ هذه المُلكيّة يمكن أن تكون فرديّة أو جماعيّة وأنّ نزعها للمنفعة العامّة يجب أن يأتي لقاء تعويض عادل بالقيمة الحقيقيّة للملكيّة (المادّة 15). حيث لا أثر للوظيفة الاجتماعيّة للملكيّة كما في الدستور الألماني لعام 1949 حيث أنّ « المُلكيّة تُلزِم. ويجب أن يساهم استخدامها في نفس الوقت في مصلحة المجتمع ».

يوضح الكتاب في محوره الأوّل، « تاريخ ملكيّة الأراضي في المنطقة: بين القوانين والحيل »، أنّ مفهومي المُلكيّة الخاصّة والمُلكيّة العامّة حديثا العهد في لبنان، كما في سوريا، تطوّرا مع « تنظيمات » الدولة العثمانيّة ثمّ الانتداب ومن بعدهما الدولة الوطنيّة. وهما أكثر تعقيداً من صورتهما النمطيّة اليوم، فقط بين ملكيّة خاصّة وعامّة صِرفَتين. إذ ما زالت هناك أراضي أميريّة (أي أراضي بيت المال) واسعة، تعود ملكيّتها اسميّاً للدولة (الرقبة) في حين أنّ هناك حقّ تصرّف حصل عليه أفراد أو مجموعات. وحقّ التصرّف هذا يُمكن « فراغه » (بدل بيعه) أو « نقله » وراثةً للنساء بالمساواة مع الرجال وفق فتاوى دينيّة صدرت في العصر العثمانيّ. ويتبع حقّ التصرّف هذا دفع ضريبة. كما أنّ هناك أراضي « مشاع »، تشترك في التصرّف بها مجموعات سكّانيّة (كانت تتوازع استثمار الأراضي الزراعيّة المحيطة) وليس أفراداً بعينهم. ومن المفترض أن يكفل الدستور حقّ التصرّف هذا، في حين كثيراً ما شهد التاريخ تحويل مسؤوليّة الجباية الضريبيّة إلى ملكيّات خاصّة، أحياناً واسعة جدّاً، لدى تحديد الأراضي والعقارات وتسجيلها، ما كان أساساً « للمُلكيّات » الكبيرة دون وجود إقطاع وفق النموذج الأوروبي. في حين تجنّب المزارعون تسجيل حقوقهم في الأرض تخوّفاً من الضرائب والتجنيد الإلزامي بحيث ضاع الهدف من وراء الإصلاح، الذي تمثّل حينها بإلغاء الوسيط بين الدولة والمنتِج. أضِف إلى ذلك أنّ هناك « أملاك » أوقاف واسعة جدّاً تخصّ مجموعات مذهبيّة أو أسرٍ بعينها.

بالتالي يتموضع مفهوم الملكيّة ضمن صيرورة تطوّر القوانين والإدارة (بما فيها التسجيل والتحديد) وكذلك الإنتاج (أي الاقتصاد) منذ القرن التاسع عشر. لكنّ هذا التطوّر لم يجرِ بشكلٍ متساوٍ ومتوازٍ في جميع أنحاء بلاد الشام حتّى نهاية الفترة العثمانيّة. وبقي يفتقر إلى اليوم، في لبنان كما في بقية بلدان الجوار، إلى دراسات تاريخيّة نقديّة توثّقه. لكنّه تمّت ملاحظة أنّ تسجيل الملكيّة في متصرفيّة جبل لبنان وحده قد تمّ تنظيمه على لوائح للمالكين بحسب طوائفهم. كما أنّ « ملكيّة الدولة » لجزءٍ كبيرٍ من أراضي فلسطين (43%) سهّل على الانتداب البريطاني تنفيذ وعد بلفور وخلق المستوطنات الصهيونيّة، ومن ثمّ نقل هذه الملكيّة للدولة العبريّة. وذلك أكثر بكثير من شراء الأراضي من « إقطاعيين » لبنانيين وسوريين في مأزقٍ ماليّ كانوا قد استفادوا من آليّات تسجيل الملكيّات العثمانيّة.

ويُقارِن الكتاب التقرير حالة مدينتين هما حلب وبيروت. ففي حالة مدينة حلب السوريّة، كان هناك نوعان من الملكيّة في زمن العثمانيين،: تلك المسجّلة (فيما دعيَ الطابو) المرهونة، بختم الدولة، وتلك التي « حجّتها » في حكم محكمة (شرعيّة حينها)، بختم قاضٍ. كما هو الأمر اليوم فيما يسمّى المخالفات. الأغنياء وحدهم كانوا القادرين على التسجيل « الحكومي »، في ظلّ صراع اجتماعيّ ظهر بين التنظيم المركزيّ وبين البلديّات التي قامت بالتخطيط العمراني. وخلفيّة كلّ ذلك الاقتصاديّة كانت المضاربات العقاريّة والريوع التي تجلبها. وكان الفرنسيّون قد أجروا مسحاً عقاريّاً لمدينة حلب قبل الانتداب، تمهيداً لتدخّلهم في الصراع الاجتماعي المحليّ عبر إصدار قوانين عقاريّة من 1926 حتّى 1933 هدفت إلى محاولة إسقاط مفاهيم الملكيّة الخاصّة بهم بين الخاصّ والعامّ، ولإلغاء الأنماط الموروثة (المشاع، الميري، …). ثمّ استكملت الدولة السوريّة الحديثة هذا المنهج عبر « تأميم » الأوقاف. إلاّ أنّ التطوّر السكّاني والعمراني للمدينة تخطّى قدرات الدولة وتخطيطها فنشأت الفجوة بين المدينة « المنظّمة » (بما فيها محاولات إطلاق مشاريع على شاكلة سوليدير) وبين مناطق « المخالفات » التي تحيط بها التي كانت أحد العناصر الأساسيّة للصراع الاجتماعيّ الذي ظهر في 2011. التطوّر في بيروت كان مماثلاً مع توسّع كبير للملكيّات الخاصّة والأوقاف خلال الفترات الثلاث (« التنظيمات » العثمانيّة والانتداب والدولة الوطنيّة) ولتحويل العقارات إلى سلع تدعم النشاط المصرفيّ عبر قوننة الرهونات. إلاّ أنّ بيروت ولبنان لم يشهدا تأميماً للأوقاف. كما أنّ لبنان لم يشهد « إصلاحاً زراعيّاً » كما في سوريا.

يوضح المحور الثاني من الكتاب تحت عنوان « إدارة الدولة للأملاك بين العمل التنظيمي والعمل الضريبيّ » كيف أنّ قوننة الملكيّة وعمليّات مسحها جغرافيّاً قد انتهيا إلى انتشار « المُلك » الخاصّ في أراضي المتصرّفيّة والمدن وبقاء المُلكيّة « الأميريّة » في أغلب بقيّة المناطق، مع تعزيز حقّ التصرّف والمشاع والوقف… وأُسقِطَت تدريجيّاً أحكام القانون المدني الفرنسي الذي أُنتِجَ في بلدٍ شهد مصادرات كبيرة لأملاك النبلاء والكنيسة بعد « ثورته » على بلادٍ أخرى دون أن يتمّ تحديد قواعد تحويل الأراضي الزراعيّة إلى مبنيّة بقانون « تنظيم مُدُنيّ » (أي عُمرانيّ) في حالة لبنان. فانتهى الأمر مع قوانين الدولة اللبنانيّة الحديثة إلى « تقديس » حقّ البناء على أيّة أرض دون ضوابط، سوى تلك الهشّة عبر عامل الاستثمار، وإلى تشجيع المضاربات العقاريّة. كما تمّ إفراغ مبادئ حماية الملكيّة العامّة، بما فيها الأملاك البحريّة، من مضامينها.

ومع النموّ الديموغرافي وهجرة الريف إلى المدينة (أو بالأحرى إلى « تحضير » الريف)، أضحى التضارب الأساسيّ، في ظلّ حريّة البناء المطلقة هذه وغياب الاستملاك للمصلحة العامّة، كامناً في لبنان بين حقّ البناء الخاصّ المقدّس هذا وبين « واجب » الدولة (في الحقيقة البلديّات) في شقّ الطرق ومدّ البنى التحتيّة إلى التجمّعات السكنية الناتجة لزيادة ريعها. وبقيت قوانين البناء تخصّ وحدها معايير تقنيّة تتعلّق بالسلامة والصحّة العامّة. وكانت النتيجة أن تمّ استبدال وظيفة « الملكيّة » الاجتماعيّة من وسيلة لتحديد استخدامات الأراضي والمجال لصالح المجتمع (السكن،…) وسائر مقدرّات الإنتاج ولفرض الضريبة على الريع المتحصّل من استثمارها إلى عبء نفقة على الدولة لزيادة قيمة « العقارات » وريعها وتحويلها إلى سلعة لاستجلاب الودائع إلى المصارف على حساب استثمارها في تكوين رأسمال إنتاجي فعليّ. وفشلت السلطات المتعاقبة في لبنان في فرض أيّة ضريبة فعليّة على العقارات والأراضي وفي ضبط استمرار ارتفاع أسعارها. بالتالي تورّمت « الثروة » العقاريّة بالتوازي مع تورّم ودائع المصارف، التي انهارت قيمتها مع انهيار 2019 المالي. وبات هذا التورّم جزءاً من آليّة الحفاظ على نمط السلطة القائم، من البلديّات التي أضحت نقابات لملاكيّ الأراضي الذين لا يقيم أغلبهم في البلدة، إلى الزعامات الطائفيّة الممثّلة بالنوّاب كرؤساء لرؤساء البلديّات الموكلين بالحفاظ على قيمتها وبالاستشراس في الزعم « الأسطوري » حول تأصّل الملكيّة وقِدَمها.

وفي الحقيقة، اقتصر العمل التنظيمي للدولة اللبنانيّة، قبل وخاصّة بعد الحرب الأهليّة، على إدارة نموذج محلّي للرأسماليّة الماليّة، يقوم على استجلاب الأموال من الخارج نحو الودائع المصرفيّة والعقارات، وعلى محاولة الالتفاف على الأزمات التي يولّدها تلقائيّاً هذا النموذج. إذ تترابط في هذا النموذج قيم العمليّات العقاريّة مع حجم الودائع المصرفيّة، وبالتالي مع الوسائل التي يستخدمها مصرف لبنان للحفاظ على النموذج رغم التقّلبات المحليّة والمحيطة (أسعار النفط، الأزمات العالميّة، الصراع في سوريا،…). العقارات للتوظيف طويل الأمد وسندات الخزينة لتلك القصيرة الأمد. هكذا تمّت « أمولة » الأملاك العقاريّة، أي تحويلها إلى أصولٍ ماليّة وتنظيم تطوّر الإعمار ضمن « توسّع مُدُنيّ مُثبَت » عبر تحرير الإيجارات وتشجيع القروض السكنيّة وممارسات مطوّري العقارات، وكذلك في معايير مصرف لبنان تجاه الأصول والرهون العقاريّة للمصارف.

بالتالي سقطت إمكانيّة التخطيط المُدُنيّ (الحضريّ) والإقليميّ أمام فخّ اعتبار الأرض مجموعة ملكيّات خاصّة وعامّة، لا شيء بينهما، وبالتحديد لا « مصلحة عامّة » ولا نظرة للمدينة على أنّها « فسحة متكاملة ومترابطة تتشاركها فئات عديدة من الناس بمن فيهم أصحاب الأملاك والمستأجرين والزائرين وغيرهم ». هكذا جرى توسّع المدن اللبنانيّة (مثال الرملة البيضة) أو إعادة إعمارها بعد الحرب (مثال حارة حريك أو تبنين) كمشاريع « توضيح ملكيّات » و »إزالة شيوع » تهضم « قانونيّاً » حقوق المالكين والمستأجرين القديمين لصالح مطّوري العقارات. وذلك دون اعتبار « للحقّ في المدينة » وللحيّز العام فيها ولسبل التواصل والنقل.

ينتهي الكتاب التقرير في فصلٍ يخصّ « الملكيّة من السياسات العاّمة إلى الفعل السياسي: وقائع، مصالح، خيارات ومواقف ». ويُعالج بدءاً قضيّة التعدّي على الأملاك البحريّة، وهي قانوناً ملكٌ عام للدولة لا يجوز بيعه. وكيف تمّت شرعنة هذا التعدّي وفرض غرامات إشغال ضئيلة « لتسوية » أوضاعها وتحويلها إلى أملاكٍ خاصّة دون إزالتها كما ينصّ القانون أيضاً. ثمّ ينتقل لقضايا النقل واستحالة تخفيض عبء أكلافه عبر منظومات نقل متعدّدة تلبّي طلب محدودي الدخل عليه، بما فيها النقل العام الطرقي والسككي، وتخلق تنمية متوازنة بين المناطق. وذلك لاصطدام مشاريع تطوير النقل بمصالح « المُلكيّات » رغم سنّ قوانين متعدّدة حول الموضوع و »الخطّة الشاملة لترتيب الأراضي ». وينتهي التقرير موضحاً، أنّه حتّى في حالة المباني التراثيّة لا تسمح القوانين الحاليّة القائمة على عوامل الاستثمار (وإمكانيّة نقلها) في الحفاظ على نتاج تاريخ المجتمع وهويّته الجماعيّة.

هكذا ضاع الطموح الذي طرحته صحيفة النهار في 29 آذار 1963، حين عنونت: « كانت بيروت في العهد العثماني « قرية كبرى » محاطة بالرمول والصبّير… وانتقلت في الانتداب الفرنسي إلى مدينة نصفها أكواخ ولاجئون… وتحوّلت في العهد الوطني إلى « سجن » يضمّ نصف مليون نازح ومقيم… واخترقت الحصار حديثاً وانطلقت نحو الشاطئ الجنوبي الغربي إلى الجناح… لتصبح في عام 1980 مدينة عصريّة (!)… ». والمقصود باللاجئين في المرحلة الأولى من أتى من باقي أنحاء سوريا، وبالنازحين في المرحلة الثانية « اللاجئون الفلسطينيّون ». فما بالنا اليوم مع « النازحين السوريين ».

يؤسّس هذا الكتاب التقرير لطرح يُمكِن أن « يُنظِّف » الأساطير التي تشوب المفاهيم لإنتاج سياسات عامّة جديدة للخروج بلبنان من أزمته. وذلك عبر تحويل الملكيّة من أداة للعدوانيّة إلى وسيلة لتبادل الأعباء والمنافع ضمن المجتمع. لكنّ مثل هذا الجهد الأكاديميّ السياسيّ يحتاج أيضاً وبذات الوعي إلى التطرّق لبعض المفاهيم رغم حساسيّتها. فماذا عن الأوقاف المذهبيّة في لبنان التي لا يوجد أيُّ مسحٍ لها ولا تخضع لأيّة ضريبة، رغم ضخامة حجمها ضمن مجمل الملكيّات؟ وكيف يُمكِن بناء دولة مواطنة متساوية غير طائفيّة دون التطرّق لهذا؟ كذلك، وبما أنّ اللاجئين السوريين في لبنان أضحوا جزءاً رئيساً من السكّان، لم لا تُطرَح قضايا الملكيّة والحقّ في المدينة والأرض التي تشكّل أحد عناصر عودتهم إلى بلدهم؟ فكيف يعود اللاجئ الذي فقد إمكانيّة زراعة أرضه « الأميريّة » والمستأجر الذي تدمّر مسكنه وفقد حقوقه؟