توضيح الموقف من وحدة الاعتراض ومنصاته في سياق الانتخابات النيابية

بدأت “كلنا إرادة” بالظهور العلني سنة 2018، وكانت باكورته دعوتها من قبل الفرنسيين للمشاركة في ما عرف بمؤتمر “سيدر”، عشية الانتخابات النيابية، كممثل عن “المجتمع المدني”. منذ ذلك الحين عملت “كلنا إرادة” كمركز أبحاث وضغط في مجال السياسات العامة. وحازت على تمويلات من عدد من الأثرياء العاملين في الحقل المالي، وغالبيتهم من اللبنانيين المهاجرين. كما نشرت عددا من الدراسات والبيانات حول مسائل مالية وحقوقية .

مع دنو الانتخابات النيابية لعام 2022، برزت بدعة “المنصات الانتخابية”، وكانت أولاها “نحو الوطن” التي ضمت بين مموليها عددا من ممولي “كلنا إرادة”. حددت “نحو الوطن” هدفها بأنه “دفع التغيير السياسي من خلال تمكين ظهور قادة سياسيين جدد، ملتزمين خدمة المصلحة الوطنية”، وانطلاقا من “إيمانها بأن الانتخابات هي نقطة البداية للتغيير السياسي”، وتعهدت بـ”إنشاء بنية أساسيّة للحملة الإنتخابيّة”، أي بتقديم الدعم المادي. ولما كان عدد من ممولي “نحو الوطن” يمولون أيضا “كلنا إرادة”، فقد سعوا إلى دمج “المنصتين” على الرغم من اختلاف أهدافهما المعلنة. ووُقّع اتفاق بينهما. إنما، لأسباب مبهمة، سرعان ما حصلت خلافات بين المنصتين أدت إلى نقض الاتفاق وإلى انفصالهما من جديد. هؤلاء أنفسهم الذين ادعوا حمل مهمة توحيد المعارضة عبر منصاتهم بدأوا إنجازاتهم التوحيدية بفرط عقد أداة التوحيد نفسها.

نبهنا “كلنا إرادة” إلى مخاطر هذا الدور. فالترويج السطحي لفوز كبير في الانتخابات لـ”قوى التغيير”، عبر دراسات إحصائية مزعومة، مدعّما بوعود تمويل سخي، ومن دون برنامج سياسي محدد ومعلن، ما قد يخفي برامج مبطنة، خلطة كفيلة بتعطيل أي سعي جدي لإقامة بديل سياسي متماسك على صعيد البلد، لأنها تعزز الطموحات الفردية والمناطقية، وتستولد  ظاهرة “الائتلافات” المناطقية التي تمثل إطارا تفاويضيا للمسترشحين مع الممولين. هذا بالإضافة إلى ضربها ما كانت “كلنا إرادة” قد راكمته من عمل بحثي وتوثيقي وتهديد بقائها.

لنأخذ الساحة البيروتية مثالًا. فقد نجح ثنائي خلف ويعقوبيان في إفشال مساعي جدية لتشكيل لوائح موحدة للمعارضة في كل من دائرتي بيروت في اللحظات الأخيرة، ومن دون أي مضمون سياسي غير الشعارات والخطب المكررة ومناكفات على المقاعد

ما إن مضت أيام قليلة لم يتوقف خلالها ملحم خلف وبولا يعقوبيان من الظهور على الشاشات، حتى أتى تصريح خلف على تلفزيون الجديد في 11 نيسان 2022، حيث قال: “نحنا الحملة ستكلف 350 ألف دولار، منها بنهار الانتخابات ستكلف حوالي 275 ألف دولار. في تمويل من قبل “كلنا إرادة” رح تهتم هي بهذا الامر، مش بالمال انما باعتماد هذا الموضوع”.

اتصلنا بألبير كوستانيان، رئيس مجلس إدارة جمعية “كلنا إرادة” التنفيذي لاستيضاح الأمر، فنفى بشدة كلام خلف، وطلب منا التمهل قبل أن ننشر أي رد رسمي. فوافقنا على التريث حتى اليوم التالي.

يوم الأربعاء في 13 نيسان، كتب خلف النص التالي على حسابه على تويتر: “الإنفاق الإنتخابي للائحة “بيروت_التغيير” سيَتَّبع أعلى معايير الشفافية ويعتمد على طاقات كلّها تطوعية. “كلنا إرادة”، مشكورة، اقتصر دعمها على بعض الأمور اللوجستية العينية المحدودة. والرقم الذي ذكرته يوم الإثنين في برنامج “بتفرق ع وطن” على قناة الجديد هو رقم تقديري لمُجمل الإنفاق”.

هذا التصريح لا ينفي ما ورد في التصريح الأول بتاتًا بل يؤكّده. وأما القول إن الرقم تقديري، فيذكّر بدقة خلف في التقديرات، حيث لا يمكن نسيان تقديره قيمة كل دولار من مدخرات المحامين التي سرقها المصرفيون بـ1500 ليرة لبنانية لا غير، وفقا لما أورد في التقرير السنوي الذي رفعه إلى الجمعية العمومية لنقابة المحامين في بيروت يوم انتهاء ولايته!

وجّهنا في اليوم ذاته كتابا إلى ديانا منعم، المديرة التنفيذية لجمعية “كلنا إرادة”، نذكّر فيه بتصريح خلف المنسجم مع الموقف الرسمي للجمعية، حيث ورد على موقعها الالكتروني ما يلي:

سترتكز جهودنا على دعم نخبةٍ جديدة من القادة والجماعات السياسية المنبثقة من انتفاضة 17 تشرين الأول، وبالتالي رفدهم بالمعطيات والتوجّهات والدعم اللازم”.

وطلبنا منها، عملاً بمبدأي الشفافية والحيادية اللذان تجاهر بهما، إعلامنا عما يلي:

1-            أسماء المرشحين واللوائح التي حصلت أو التي سوف تحصل على دعم مالي أو لوجيستي من جمعيتكم في إطار تمويلها للحملات الانتخابية القادمة في 15 أيار 2022.

2-            قيمة أو نوع هذه المساهمات.

3-            الأسس التي اعتمدتها الجمعية في اختيار المرشحين واللوائح التي قررت دعمها مالياً او لوجستياً.

4-            الطريقة المتبعة من قبل الجمعية للتأكد من عدم مخالفة هذا التمويل لأحكام قانون رقم 44/2017 المعدل لاسيما المادة 60 منه، والتي تحدد في الفقرة الخامسة منها سقف المساهمة في التمويل الانتخابي لكل مرشح أو لائحة.

تأخّر جواب “كلنا إرادة” حتى 18 نيسان.، وعندما أتى، لم يتضمن أي جواب على أي من الأسئلة المباشرة التي طرحناها. كل ما تضمن الرد دار حول نقطتين: شرح منهجية عمل “كلنا إرادة”، وتكرار تصريح ملحم خلف عبر تويتر.

فيما خص منهجية عمل “كلنا إرادة”، ورد في الرد تمييز بين مرحلتين:

مرحلة أولى قالت “كلنا إرادة” أنها دعت خلالها “مختلف القوى والمجموعات المعارضة” لاجتماعات تمحورت حول “مقاربة “كلنا إرادة” للمعركة الانتخابية” وعرض تفصيلي لآلية ومعايير التعاون مع المعارضة والقوائم الانتخابية والمرشحين”. وقد أعربت الجمعية عن “”أسفها لعدم حضور (مواطنون ومواطنات) ومشاركتها فيها”. فعلاً لم نشارك في أي اجتماع توحيدي برعاية المنصة، أولاً لأنه تبيّن لنا أن مشروعها لا يقيم القطيعة مع السلطة القائمة، وثانيًا لأننا لا نرى في الانتخابات مباراة لكرة القدم يعود لـ”كلنا إرادة” أو لأي كان فيها دور تشكيل المنتخب، بل هي ساحة مواجهة سياسية مع سلطة عاجزة ومجرمة.

أمّا المرحلة الثانية، فتقول “كلنا إرادة” إنها بدأت “بعد اكتمال اللوائح، وبالرغم من عدم قدرة المجموعات المعارضة على التوحّد حول طرح متماسك”، وهو تأكيد لما كنا قد حذرنا منه في المرحلة الأولى واعتراف، وإن متأخّر، بصوابيته. غير أن “كلنا إرادة” لم تستخلص العبرةإنما قررت “”استكمال الجهود والإيفاء بما كانت قد التزمت به منذ البداية مع المجموعات التي شاركتنا النية في التعاون”. وهكذا تكون المسألة قد أصبحت مسألة نوايا، ويتضح أن هناك التزامات متبادلة منذ البداية، أي منذ قبل التداول السياسي. لعل “كلنا إرادة” شعرت بالإرباك عند كتابتها هذه الجملة، فاضافت ما يناقضها، زاعمة أنها “تسعى إلى ملاقاة اللوائح الانتخابية التي تتوافق مع الأسس والمعايير الآتية:

             أن تنسجم مع قيم “كلنا إرادة” ومبادئها السياسية،

             أن تضم في تركيبتها أوسع شريحة من القوى المعلرضة،

             أن تحظى بفرص عالية لخرق لوائح المنظومة”.

عن أية قيم ومبادئ سياسية نتكلم، ما دام الالتزام قائما منذ البداية؟ وفي غياب مشروع سياسي محدد المعالم، ما معنى ضم أكبر عدد من المرشحين من “قوى المعارضة” بحيث يكون المشترك بينهم طمعهم بالمال والطمع يؤجّج التنافس والفرقة بطبيعته؟ وكيف يؤول تقدير فرص الخرق في كل من الدوائر إلى بلورة بديل سياسي وطني في حين أن تقسيم الدوائر على أساس طائفي يجعل من ممالأة الخطابات الطائفية المتنافرة بين الدوائر، إضافة للمال، المدخل الأسهل لجمع الأصوات؟

بتاريخ 15 نيسان، أطلت المرشحة بولا يعقوبيان في مقابلة مع الصحافية شيرلي المر وصرحت بما يلي: “ما تقولي مش شاعرة بكمية المصاري يلي عم تنكب يمين وشمال”. ولما سؤلت عمّن يموّلها، قالت “كيف شفتي تمويل؟ بس قولي لي. لحد هلق عم نخوض الانتخابات باللحم الحي. بالنسبة لي يمكن وضعي مختلف، زوجي مرتاح وقادرة أكتر شوي خوض هيدي الانتخابات. بس نحنا اليوم ما حدا صرف شي… فعلا بعد ما قربنا”. لكنها أضافت “بعدين فيه هيدي المنصات… هيدي المنصات تعد أنها ستكون إلى جانب هذه المعارضة. فالتعويل عليها”.

بناء على طلب “كلنا إرادة”، عقد اجتماع في 22 نيسان. لم نتلقَّ أي توضيح يرفع الالتباس الذي حكم أجوبتها الخطية. لكننا سمعنا أن تأكيداً مرة أخرى أن ما أدلى به ملحم خلف منافٍ للحقيقة، لكن “كلنا إرادة” لم ترغب في إصدار تكذيب لما قال “كي لا يزعل”. وسمعنا أن بولا يعقوبيان و”زوجها المرتاح” تلقت تمويلا لحملتها الدعائية على اللوحات الإعلانية.

ما أوردناه ببعض التفصيل عن عمل “كلنا إرادة” ينطبق طبعا على “نحو الوطن” وعلى “سوا للبنان”، وربما بحدة أكبر، وإنما ينطبق أيضا على حالات موضعية مثل نعمة افرام في كسروان جبيل أو حالة فؤاد مخزومي في بيروت وغيرهما.

في الخلاصة، كان لما سمّي بالـ”منصات” دوراً بارزاً في إفشال تبلور مشروع سياسي متماسك في مقابل لائحة السلطة المتشكلة واقعيا عبر الدوائر الخمسة عشر، تحت ستار شعارات 8 و14 آذار المتعاضدة والمتكاملة بحدّتها المتقابلة والبعيدة كل البعد عن التعامل الواقعي مع الظرفين الداخلي المحكوم بالإفلاس والخارجي المحكوم بالتشظّي والتهديدات، وهو تعامل تخشاه أطراف السلطة لأنها عاجزة عنه.

في مساحة سياسية طبيعية، أي عند وجود دولة، تقوم الأحزاب السياسية بطرح مشروع حكم، بغض النظر عن حظوظ نجاحها، على كامل مساحة البلد، تُبيّن فيه خياراتها وأي مصالح ستُبدّي على أية مصالح أخرى، إن وصلت الى السلطة (أو إن عارضت السلطة)، وبالتالي كيف ستدير الموارد وتوزع الخدمات والحقوق والأعباء. واستناداً الى مشروع الحكم الذي تقدمه، تقوم الأحزاب بجولات واتصالات تجمع من خلالها المال، لتغطية كلفة حملتها الانتخابية. أمّا في تعاونية الطوائف التي يعيش لبنان تحت وطأة عجزها وعصبيتها، فيأتي المال قبل، لا بل من دون أي مشروع حكم، فيساهم بشكل ممنهج في تكريس اللا-دولة التي أفرغت السياسة من مضمونها وجدواها، وسلمّت الإدارة الى حلقة مالية تمعن في تبديد المجتمع.

اليوم بالتحديد، وفي خضم أزمة شرعية لزعماء الطوائف، يتجاوب المال الانتخابي مع الحالة الاحتجاجية، ويوظّفها في مسار تظهير نخب شكلية جديدة تتجاوب مع طلب السوق الداخلي والخارجي لوجوه جديدة “تمثّل” النقمة الشعبية، وبالتالي تساهم في إعادة إنتاج شرعية السلطة بادعاء “تمثيل صحيح” لطوائفها وحالات الاعتراض عليها.

أتت المنصات، كظاهرة لافتة، تعلن أن غايتها جمع المال الانتخابي لسوق الاحتجاج، وتزعم توحيد لوائح ما تعتبره هي بأنه المعارضة، مع حرص شديد على الظهور كأنها لا تنخرط مباشرة في أي مشروع سياسي محدد. لذلك أصرّينا، قبل تلبيتنا دعوات إحدى أهم هذه المنصات، “كلنا إرادة”، لأي استعراض توحيدي يضمّ متنافسين على المال الموعود، على أن نلتقي ممثليها لتوضيح دورها ومناقشة قدراتها ومعاييرها. حصل هذا اللقاء ولم نتلقَّ أجوبة واضحة ومنسجمة مع الشعارات، بل ازدادت الشبهات حول مصادر التمويل ودوره ووظيفته. وعليه اعتذرنا عن المشاركة في جلسات التوحيد تلك، رغم أننا لم نقطع قنوات التواصل مع ممثليها لا بل حاولنا جاهدين، تجاوباً مع طلب بعض مجموعات المعارضة، دفع هذه “المنصة” نحو مسار سياسي بنّاء يقدّم للمجتمع معارضة موحدة مبنية على مشروع حكم يرتقي الى مستوى التحدي التاريخي الذي نواجهه.

أثبتت نتيجة عمل المنصات مخاوفنا، إذ أنها أتت بالتحديد، للمساهمة في إنتاج نخب جديدة تمثل حالة احتجاجية داخل مؤسسات السلطة على حساب عمل سياسي جذري مبني على مشروع حكم بديل وجامع لقوى التغيير الجادة في صراعها على السلطة، فتصبح الانتخابات أحد مسارات مواجهة السلطة على شرعيتها، لا استعراضا تمثيليا عبر بضعة مقاعد في حضن السلطة القائمة.

من يسعى اليوم لأن يكون وجه الاحتجاج الجديد من ضمن مجلس السلطة، بدعم وبتمويل من منصات انتاج الوجوه الاحتجاجية، قد اختار بالفعل والقول التعايش مع النزيف المالي والاقتصادي والبشري الذي أنتجته الأزمة. ومن أبرز هؤلاء تعايش مع الخسائر وطريقة توزيعها المجرمة، ومنهم من فاوض طويلا مع أحزاب طائفية وتحالف مع بعضها هنا وعارض بعضها الآخر هناك، من ضمن انتهازية قاصرة مستحكمة، ومنهم من قرّر، خلف شعارات ومهارات تسويقية، الانخراط في تغذية تصادم عصبيتي 8 و14 آذار.

أمّا نحن، ولأننا ديمقراطيون، ومن باب المسؤولية اتجاه مجتمعنا بأسره، واحتراماً لعقول الناس، فإننا لم ولن نرضى بيع الناس أوهاما، ونعتبر الحالة الاحتجاجية المصطنعة والمنظمة عبر المال السياسي والمشتتة عن سابق تصور وتصميم، جزءا لا يتجزأ من النظام الذي نسعى لكسره.

وعليه، لم ولن نرضى بتشتيت انتباه الناس عن صراع وجودي بوجه سلطة مجرمة تسعى، بحلقتيها السياسية والمالية، من خلال ضجيج التمثيل الانتخابي، لتكبيد المجتمع والأجيال القادمة أكلاف الحقبة السابقة ولنسف أي احتمال لتحويل الأزمة الى فرصة لبناء دولة. قررنا خوض هذه المواجهة من خلال تقديم مشروع الحكم البديل للناخبين والناخبات على مساحة الوطن، وفرض خطاب جذري بواقعيته في تعاطيه مع السلطة العاجزة وفي قطيعته مع أدواتها المناطقية والطائفية والزعماتية والزبائنية.

وبناء على كل ما ذكر، فإننا نجاهر برفضنا اعتبار توحيد “الصوت الاحتجاجي” غاية بذاته في الانتخابات النيابية. واضحين نحن في دورنا، في وجه خبث المنصات وارادتها في تشتيت وتمييع أي بوادر لعمل السياسي جدي وجامع. إن غاية تنظيمنا هي تغيير شكل السلطة، أي شرعيتها ومؤسساتها والثقافة السياسية التي تتغذى منها، وليس التمثّل فيها كحالة احتجاجية تعطي السلطة بالمقابل شرعية لحكم الطوائف.

أخطأ من توقّع منا، حتى اللحظة الأخيرة من اعلان اللوائح، بأننا قد نبدّي الصورة الباهتة لوحدة احتجاجية ظاهرية على حاجة الناس الملحة لمعارضة تسعى لقلب الطاولة لا الجلوس على أطرافها. لكم الطاولة والمقاعد، ولنا الوضوح في مشروع الحكم البديل، والثقة في استعدادنا لتحمل المسؤولية التاريخية أمام الناس.