بين المعارضة والتّغيير فرق جوهري وكبير

مِن الصّحّي الإعتراف بأن النظام الذي تحكَّم بشتّى مفاصِل حياتنا لِعقود قد ترك في أذهاننا مُخَلّفات فكرية تُعيقنا اليوم من الإتحاد على كسرِه .

فنحن شئنا ام أبينا خريجو تربية هذ النظام، ورواسب ثقافتِه لا زالت حاضرة فينا، تجذّرت لدى البعض وتحرَّر منها آخرون لكن بِنِسَبٍ متفاوتة. فتشوهت لدينا على سبيل المثال لا الحصر مفاهيم عِدة كالعمل السياسي والحزبي، الحقوق والواجبات، المواطنية والدولة، الدفاع والمقاومة، والعداء والحياد … لا سيما مفهوم التمثيل الديمقراطي. في حين ان فكرة الديموقراطية حول العالم تكاد تكون شكلاً من أشكال الديكتاتورية المُقَنَّعة، فالحال في لبنان اكثر بشاعة حيث يتم التسويق للإنتخابات النيابية على انها مدخل من مداخل التغيير، في الوقت الذي تُقيمها سلطة تمتلك القرار والمال والإعلام والأمن معاً، إضافة إلى امتلاكها أصوات غالبية الناخبين الذين تمت سرقة ولاءاتهم سلفاً جراء سرقة حقوقهم.

وقد تكون إحدى أهم المغالطات التي تبثّها قوى السلطة وإعلامها اليوم هي فكرة “التغيير التراكمي”، أو المسار التغييري الطويل الذي ينضج مع الوقت، أو “كرة الثلج” التي تكبر وتكبر إلى أن يحدث التغيير!

 بينما تهدف السلطة من خلال هذا التشويه في المفاهيم إلى تثبيط عزائمنا وتقوية تحكّمها بالأمور من أجل تثبيت نظامها. فمن الوهم الحديث عن تراكم للوعي خلال الازمات. وفي قراءة موضوعية لتغيُّر الواقع منذ السابع عشر من تشرين ٢٠١٩ إلى اليوم، نرى تراكماً ملموساً في حجم الأزمة، لا في حجم التغيير. ونلتمس بوضوح مسار الرضوخ لدى أغلب شرائح المجتمع التي لم تعد تكترث إلى جنى عمرها الذي تبخر ولم تعد تلتفت إلى قيمة أجرها التي تنحدر بوتيرة مرعبة. بل على العكس فأقصى ما باتت تنشده هو النجاح في محاولة التأقلم !

أمّا كرة الثلج الكبيرة في الأصل والتي تتضخم بشكل يومي فهي أعداد المهاجرين من الشّبّان والشابات القادرين على إحداث التغيير!

وبالتالي فإن التغاضي عن هذين الأمرين والعيش في مُتَخَيَّل التغيير المستقبلي وتراكم الوعي هو انسلاخ عن الواقع وانصهار في أوهام أطلقها مُطلِقوها لمنع أي تغيير مباشر وفعلي، مع حتمية التضاؤل التدريجي لإمكانية حدوثه لاحقاً إلى حد الإنتفاء.

مرت سنتان ونصف ومازلنا ننفَعِل : نغضب ثم نتحمّس، أو نيأس ثم نَنسحب، أما هم فيقرأون الوقائع ويدرسونها بعناية ثم يخطِّطون بدهاء.

انطلاقاً من هنا لا يعود مستغرباً أبدأ ما نشهده اليوم من مقاربات ما يسمّى المعارضة أو المعترضين تجاه الإنتخابات بوصفهم إياها فرصة للتغيير الذي يبدأ على حد قولهم في هذه الدورة، ويُستكمَل في الدورات اللاحقة، وكأن قوى السلطة صاحبة القرار قد تستشعر خطراً ما ثم تركَنُ إليه بسذاجة، اليوم أو في الغد!

بعض المعارضين يتصور إحداث تغيير من داخل المجلس عبر سن القوانين، وكأن الحائل دون تغيير النظام هنا افتقاره للتشريع، وبعضهم الآخر يُحيلها إلى سوء الأداء، موحياً إلى ناخبيه أننا في ازمة سببها أشخاص فاسدون وأن تبديل الوجوه يؤدي إلى تبديل في النظام !

وهناك من ظن أنه فهم اللعبة وراح ينشئ إئتلافات ويصوغ لها عناوين وشعارات أسماها برامج انتخابية، بينما هي لا ترقى لأن تكون أكثر من لوائح أمنيات لا تقدّم أي سبيل عملي لبلوغ الأهداف المنشودة، هؤلاء يعلمون جيداً أن الشيطان يكمن في التفاصيل وفي ذلك بالطبع انكشافٌ لهم أمام فئات من المجتمع وخسارة حتمية لعدد من ناخبيهم! طالما أن الأهم لديهم هو التجميع لإحداث خرق وحجز مقعد في نادي ممثلي الأحزاب الكبرى، مقعد يصرخ حينًا في وجهها دون جدوى، ويترنّح أحيانًا على أنغامها، فيُكسِب سلطاتها شرعية شكلية تجاه مموليها عن حسن أو عن سوء نية. فهذه الخروقات لن تُحدث فرقاً إن حصلت في الوقت الذي لم يتفق فيه الخارقون سوى على عناوين برّاقة يهواها الجميع فينتخبهم، وفضفاضة تتيح لمتبنّيها الهروب من المساءلة بعد أن يعجز عن التطبيق.

وحيال هذا المشهد قاطع البعض الآخر الإنتخابات بالمطلق، لكي لا يكون شريكاً في إضفاء شرعية على نظام قوى السلطة، متناسيًا أن نِسب الإقتراع في الدورة الماضية وصلت إلى الثمانين بالمئة من المقيمين! مسلياً نفسه بأنها لم تتجاوز الخمسين بالمئة في الإجمال من الناخبين، بينما يُعتبَر جُلُّهُم من المغتربين الذين لم يكن أقصى همهم الإقتراع، وإن أصبح فلن يجدوا له سبيلاً.

كُلٌّ عَمِل من منطلقِه عن دراية أو عن جهل، على إطالة عمر المنظومة، وتمتين “لا شرعِيَّتها”، وتعزيز حظوظ أركان السلطة، وترسيخ منطق النظام الطائفي المناطقي في النفوس.

في مقابل ذلك تحيّنت إحدى الحركات التغييرية الفرصة للطعن في شرعية النظام الشكلية والإجرائية معا، من خلال عجز أقطابه عن الترشح في كافة المناطق اللبنانية كما وعجز كل طرف منهم مع جميع المجموعات الإعتراضية عن تقديم برنامج حل للأزمة يوزع الخسائر فيها، أو حتى عن طرح مشروع سياسي مفصّل يقدم الآليات العملية للوصول إلى بناء دولة. فقامت حركة مواطنون ومواطنات في دولة بخطوة تاريخية بترشيح ٦٥ مرشحًا على كافة الدوائر الانتخابية يحملون مشروعاً سياسياً واحداً .
ثم قامت الحركة بسحب مرشحيها لصالح كل فرد، طرف، أو جهة تتبنى الطرح الإنقاذي الفعلي الوحيد في لبنان، في مسعى منها لإعطائه شرعيةً أكبر قد تصل إلى نسبة ١٥٪ من التمثيل الشعبي على مستوى البلد كَكُل، ما يفوق طموح كافة أحزاب المنظومة التي تراوحت حظوظها في الدورة الماضية بين ال٢٪ بالمئة لأصغر هذه الاحزاب، و ١٥٪ لأكبرها.

نسبة مئوية بإمكانها أن تفضح زيف التمثيل الشعبي – المزور مسبقاً عبر سرقة الولاءات أو حتى بيع الأوهام – أمام دافعي الضرائب في الدول التي تسعى أنظمتها لتقديم حفنة من الأموال لإطالة عمر النظام القائم في لبنان على حساب مديونيتنا وقدراتنا الشرائية وتفتت مجتمعنا .

جاءت هذه المبادرة في إطار تحويل المهرجان الإنتخابي من محطة لبيع الأوهام إلى فرصة للإضاءة على نقاط ضعف النظام وتحويل المعارضين الحقيقيين إلى تغييريين من خلال التصويب عليها، عبر خطوات متلازمة تفك ارتباطات أحزاب المنظومة بحلقتها المالية وتدكّ أسس نظامها القائم على قنوات التوزيع الزبائني، كما تضعفها أمام الخارج. بين المعارضة والتّغيير فرق جوهري وكبير.

مقال من كتابة هادي الحسيني.