دراسة غير مسبوقة تنذر بـ “تغير جذري في النسيج الديموغرافي اللبناني”

مقال من كتابة فؤاد الجميل، نشر في صحيفة لوريان لو-جور بتاريخ ١١ كانون الثاني ٢٠٢٤

في السيناريو الأكثر تشاؤماً، يقدر الوزير السابق شربل نحاس أن اللبنانيين لن يشكلوا إلا 52% من مجمل السكان المقيمين في لبنان.

منذ ابتداء الأزمة السورية عام 2011، لم تزل مسألة التداعيات الديموغرافية للقدوم الكثيف للاجئين إلى لبنان على المدى المتوسط والبعيد تثير الجدال. وغالبا ما يتم إثارة المخاوف بتقلّب جذري في التوازنات السياسية والطائفية، أحياناً لدوافع شعبوية، من دون إسناد هذا التقلّب بمعطيات دقيقة وشاملة، في حين أن آخر إحصاء للسكان تم اجراؤه عام 1932.

هذا النقاش سيأخذ حيّزًا أوسع مع معلومات ونتائج دراسة تم نشرها من قبل “المؤسسة اللبنانية للمواطنة” تحت عنوان “لبنان: الهجرات والأزمات؛ المجال، السكان، الدولة ؟”. حاول الكاتب، الاقتصادي ووزير العمل السابق شربل نحاس تقييم تداعيات البعد المزدوج لظاهرة الهجرة: تدفقات المقيمين الذين يغادرون لبنان والذين يأتون للاستقرار فيه.

مع ملاحظة أن تقييم حركات الهجرة ينبغي بطبيعة الحال أن يستند إلى تسجيل التدفقات، الخارجين والداخلين، وعلى “تحليل الخصائص المؤسسية (الجنسية) كما الديموغرافية، الاجتماعية، والاقتصادية للمهاجرين”، ومعاينة أن هذه المنهجية “مستحيلة التطبيق في لبنان”، اختار استغلال واستقراء الإحصاءات القليلة الموجودة على هذا المستوى (تحقيقات إدارة الإحصاء المركزي؛ الدراسات الجامعية؛ تقديرات المنظمات الدولية…) ثم حاول دعمها من خلال السعي إلى تحديد تدفقات الهجرة من خلال مقارنة مخزونات السكان المهاجرين والمقيمين.

“نظرًا لعدم وجود بيانات كافية، فإن الاعتماد على التقديرات أمر لا مفر منه في لبنان”، يعلق عالم الديموغرافيا يوسف كرباج ل “لوريان-لو-جور”، الذي يعتقد أيضًا أنه “بالنظر إلى المعلومات المتاحة، أو بالأحرى نقصها، فإن العمل المنجز في هذا التقرير رائع”.

إذا كانت أهمية هذه تدفقات الهجرة ثابتة وراسخة في تاريخ البلاد، وهذا ما يؤكده التقرير الذي يستعرض موجات الهجرة المختلفة المسجلة في كلا الاتجاهين منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر (انظر الرسم البياني)، فإن حجم وخصائص التحركات الحالية تهدد بأن يكون لها تأثير ثقيل على ديموغرافية لبنان. “بالنظر إلى الوضع الحالي والتقاعس المنهجي لزعماء متواطئين، فإن التغيير الجذري في النسيج الديموغرافي اللبناني، مع كل التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تترتب على ذلك، يجري بالفعل” يقول الكاتب، مؤسس حزب مواطنون ومواطنات في دولة.

الهجرة الضارّة

وإذا كان المؤلف يُدق ناقوس الخطر بشأن طبيعة هذه الظاهرة ومداها، فذلك على وجه الخصوص بسبب فارق الخصوبة بين المجموعتين: بين “الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين سنة وأربع سنوات، يمثل عدد الأطفال السوريين أكثر من ضعف عدد الأطفال اللبنانيين”. كذلك، فيما يتعلق بالشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و14 عاماً، فإن عدد السكان السوريين أكبر من عدد اللبنانيين؛ هذا ليس هو الحال بعد بالنسبة للأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 19 عامًا.

هذه نتيجة “لا ينبغي أن تربط حصراً بوصول اللاجئين السوريين الفارين من الحرب. إن ترافق تدفقات الهجرة الوافدة والخارجة هو الذي ولّد هذا الوضع”، يؤكد شربل نحاس. “شهد السكان اللبنانيون انخفاضًا مبكرًا نسبيًا في الخصوبة. وإذا كان هذا الاتجاه، الذي بدأ في السبعينيات، يتعلق بالنساء المسيحيات في المقام الأول، فقد امتد منذ ذلك الحين إلى النساء السنيات ثم الشيعيات أيضًا. هذا الأمر هو النتيجة المباشرة لتحسن مستوى المعيشة والتعليم، وهو ما يؤثر على كافة المجتمعات”، يضيف يوسف كرباج.

في ما يتعلق بالمهاجرين اللبنانيين، يفرّق شربل نحاس في دراسته بين الهجرة الحديثة، منذ حرب 1975 حتى اليوم، والهجرة القديمة التي حدثت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. في حين أن موجتي المغادرة الكبيرتين، المسجلتين في ثمانينيات القرن التاسع عشر وبعد الحرب العالمية الأولى، كانتا تتعلقان بشكل رئيسي بسكان الريف ذوي المهارات المنخفضة، فإن الهجرة الأخيرة تتكون بشكل أساسي من الكوادر المدربة.

لا شك أن الاقتصاد اللبناني اعتمد تاريخياً، وتحديداً منذ انتهاء الحرب الأهلية، على هذه الهجرة للاستفادة من انعكاساتها الإيجابية على اقتصاد البلاد، عبر تحويل الأموال من المغتربين، أو حتى عبر نقل المعرفة عند العودة الى البلاد. لكن بالنسبة للخبير الاقتصادي، فإن هذه الملاحظة يجب أن تصحّح بدقة في الحالة الراهنة: الهجرة “تؤدي إلى تقليص القدرات الإنتاجية للبلاد، وتبطئ ديناميكيتها الاقتصادية والاجتماعية، وتقلل من دخل العمال الأقل تأهيلاً الباقين فيها، (…) هذا بينما يمتص تدريب الشباب المرشحين للهجرة جزءًا كبيرًا من موارد البلاد الضئيلة” ومن التحويلات المالية التي يرسلها المغتربون أنفسهم.

ووفقا للتقرير، الذي يستشهد بعدة دراسات دولية حول هذا الموضوع، فإن هجرة الأدمغة تولد بالتالي “آثاراً سلبية على النمو في البلدان التي يتجاوز فيها معدل هجرة الأشخاص الحاصلين على التعليم العالي 20% و/أو تتجاوز النسبة المئوية للسكان الحاصلين على التعليم العالي 5%. وفيما يتعلق بلبنان، قبل الأزمة السورية، كانت هذه النسب أقرب إلى 50% و28% تباعًا، وهي تصيب بشكل رئيسي المهنيين والخريجين، الذين من يجدون فرصاً في بلدان الهجرة.

هذا الاتجاه تفاقم مع اندلاع الأزمة الاقتصادية والمالية. في الوقائع، في حين كانت البلاد تفقد وسطيًّا ما يقرب 25 ألف شخص كل عام بين 1997 و2018 – أي حوالي 550 ألف شخص إجمالاً خلال هذه الفترة – فقد ارتفع هذا المعدل إلى ما يقرب 78 ألف شخص سنويًا بين عامي 2018 و2023. في مواجهة الأزمة الاقتصادية، “وجد لبنان متغير التكيف في الهجرة الجماعية”، كما يشير شربل نحاس. ويتابع قائلاً: “من خلال السماح لجزء كبير من سكانها بالهجرة، تمكنت الدولة من الحفاظ على ما يشبه التوازن في “النموذج اللبناني”، مع المخاطرة بدفع البلاد نحو مزيد من عدم الاستقرار”. ويحذير من كارثة ديموغرافية محتملة تلوح في الأفق، “استناداً إلى السلوك الذي لوحظ فعلياً بين عامي 1997 و2009، فإن ما يقارب نصف المقيمين اللبنانيين الذين تبلغ أعمارهم 15 عاماً وما فوق سيكونون قد هاجروا قبل نهاية حياتهم العملية، ونسبة الذكور أعلى من نسبة الإناث.”

الحجر في البركة

في محاولة لقياس التغير الديموغرافي الإجمالي الناتج، يقدّر التقرير أن اللبنانيين يمثلون الآن ما بين 65 -69% فقط من السكان المقيمين في لبنان، مقارنة ب67 -71% في عام 2018 و80% في عام 2004. فيما خص السنوات المقبلة، تضع الدراسة 9 سيناريوهات محتملة، تتحدد وفق ثلاثة متغيرات: وجود إعادة هيكلة للاقتصاد في لبنان من عدمه؛ الاستقرار المحتمل في سوريا؛ وتطور البيئة الإقليمية والدولية. في النتيجة، واعتماداً على هذه السيناريوهات، سيمثل اللبنانيون ما بين 72-52% من إجمالي السكان في البلاد بحلول عام 2038، أو بالكاد نصف السكان المقيمين في لبنان في الفرضية الأكثر تشاؤماً.

“هذه التقديرات مثيرة للقلق الشديد، ومن غير المرجح أن تتحقق السيناريوهات الأكثر تشاؤماً.” كما يرى يوسف كرباج، الذي لا يستبعد فرضية عودة طوعية كبيرة للاجئين. “مع اندلاع الحرب في غزة، وعودة التوترات في لبنان، والهدوء النسبي في سوريا، وتفاقم الأزمة الاقتصادية اللبنانية، يمكن لعدد كبير من السوريين والفلسطينيين القادمين من سوريا العودة إليها”، كما يقول، لكن هذا يتطلب “ألا يعيق النظام القائم هذه العودة”. تلك القراءة مختلفة عن معظم المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية، التي تستمر في الإشارة إلى المخاطر التي يواجهها اللاجئون.

وبعيدًا عن هذه السيناريوهات وتداعياتها، يقدر شربل نحاس أنه لا تزال هناك طريقة لضبط حجم التغيير المستمر من خلال الحد من “الهجرة المفرطة” ومنع “الهجرة من أن تصبح الرد الوحيد على الأزمة”، على حد قوله. كما صرح ل”لوريان-لو-جور”: “على الرغم من أن الأمر قد يبدو مثيراً للسخرية، إلا أن ذلك يبدأ من الإقرار بالوقائع وإجراء تعداد لجميع السكان المقيمين، اللبنانيين والأجانب، ومن ثم للمهاجرين اللبنانيين”، مشدداً على أنه “في عدة مناسبات، قامت الحكومات بقطع التمويل عن إدارة الاحصاء المركزي لوقف نشر مؤشرات معينة”.

إن مسألة التعداد السكاني، التي تُعتبر من المحرمات اللبنانية، ليست الحجر الوحيد في البركة الذي ألقاه الوزير السابق، الذي يدعو أيضاً إلى إجراء محادثات مع النظام السوري حول مسألة الهجرة. التحدي الرئيسي الآخر – في حين يدفع نظام التعليم اللبناني ثمن الأزمة باهظاً – هو اقتراح إنشاء “آليات لضمان التعليم المناسب لجميع السكان، الأمر الذي سيكون له تأثير على معدلات الخصوبة لجزء من هؤلاء السكان و يجعل من الممكن السيطرة على نموها” في المدى الطويل.

وفي ما يتعلق بالهجرة، يقترح شربل نحاس إجراءات عاجلة للحد من هجرة جزء كبير من القوى العاملة المؤهلة: “أولاً، على الدولة، بقدر ما يكون هناك دولة في لبنان، أن تضع الحوافز الاقتصادية والاجتماعية بهدف الحفاظ على الأفراد المؤهلين في لبنان. وإذا لم تحقق هذه التدابير النتائج المرجوة، فقد تفكر الدولة بعد ذلك بفرض نوع من ضريبة على الخروج، كما هو الحال في الولايات المتحدة.” لكن المقترحات، في الواقع، لا تحظى بفرصة كبيرة للتنفيذ إذا اعتبرنا، كما يرى الكاتب، أن “الطبقة السياسية، من خلال اتخاذ مثل هذه التدابير، ستعرّض وجود النظام الذي شكلته للخطر، إذ يعتمد بقاؤه على التحويلات المالية التي يرسلها المهاجرون”. ومع ذلك، يقول المعارض السياسي: “لا يمكننا أن نسمح للمجتمع بأن يصفّي نفسه بنفسه”.